الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر أحمد أبو ردن ....

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 5 / 14
الادب والفن


مع تأملات أحمد الشعرية تجد نفسك دون عناء في مهب إفق رحب وجميل ،احمد شرفة بهية يطلُ قارئه منها على العالم ويشعر أنه جزء من سديم الخلق ، مزيداً من الجراح الغائرة تتمناها كي تعالجها بهذا البلسم الشفيف المسمى أحمد ابو ردن، هذا شعور سينتابك ، وهو تحديداً الوصف الذي أحب أن أتمثل به لو طلب مني أحدٌ وصف أحمد الصديق، أما أحمد الشاعر والمثقف فهو نزهة خرافية في مكان خرافي لم تطأه قدم بشر.. نشأت علاقتي به مثلما تنشأ شجرة طالعة من كتاب لكي تصبح حديقة في بيت، وتمتد جذورها لتشمل الحي كله. أحمد مثقف إستثنائي وشاعر كبير، وروح شفيف قلما تجد في أرشيف السماء والأرض كائناً مثله في منزلة بين المنزلتين : الملاك والإنسان. أقول ذلك ولا ( أزعمه) وإلا كيف يمكنني الكلام عن اجتراح المعجزة في هذا الزمن العجيب الغريب .
هو شخّص لا يمكنك تفاديه، خصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا أنه شاعر مختلف، أن الشعر بالمعنى الأسطوري لديه هو ضرب من عمل الآلهة، هو خلق مضاعف للحياة سوف تزعمه المضاهاة الجسورة للفعل المقدس عينه. والصداقة التي تنشأ في كينونة إنسان من هذا النوع، هي أيضاً مرشحة (أو هي مطالبة بالضرورة) باجتراح المعجزة عينها ...

وصداقتي له هي واحدة من المكونات التي صاغت حياتي، لا الأدبية وحسب، إنما الإنسانية والفكريّة . فالدرس الحميم الذي كنت أقرأ فيه الكون والحياة معه، يتجاوز البعد الثقافي والأدبي والفلسفي، لأن في شخصية هذا الكائن من السحر ما يجعلك تشعر بأن ثمة نوراً لطيفاً يقدر على أن يسعفك لحظة تحتاج إليه.. أو لحظة يعسُر عليك الفهم أو ينتابك سؤه ....

أحمد شاعر بالمعنى العميق للكلمة، هو أكثر شعرية وأبدع صورا وأرق خيالاً ممن عرفت وقرأت لهم من الشعراء أضرابه. والشعرية التي أقصدها تتجاوز النص الذي يكتبه، لتطال طبيعته وشخصيته الانسانية، حيث يبدو أحمد كائناً شعرياً بامتياز في سلوكه اليومي. فهو من الرهافة والشفافية والحميمية، بحيث تستطيع أن تكتشف الطفل الثاوي في داخله. ومن هنا فهو حين يكتب، لم يكن يخرج عن حدود طبيعته تلك ، حتى أنك سوف تواجه صعوبة في معرفة الحدود بين أحمد الشخص وأحمد النص. وهذه طبيعة يندر أن نصادفها في حياتنا الثقافية، إحمد هو من اقترح عليّ طوال السنوات التي صحبته ، إمكانية أن يحافظ الكاتب على حقه في التماهي مع نصه إلى الدرجة التي تجعله طاقة هائلة من الحب الذي حتماً سيفيض على من حوله، فيقع في حبه كل من يتعرف إليه.

أحمد دقيق في اختيار كلماته، وفي تفاصيل حياته، تماماً مثل دقته في صوغ كلامه ، والكتابة عنده هي المبرر الوحيد الذي يجعل الحياة ممكنة.. .تؤرقه الكلمة إذا كتبها، وتعطب روحه كلمة أخرى إذا سمعها . معه تتأكد بحق من القول الذي يشير إلى أن الحياة ضرب من كلمات يُعاد صياغتها بين وقت وآخر، أو هي في أحسن أحوالها نصوص ، حيث البدء كان الكلمة، وفِي النهاية سيكون الكلمة، وفيما بينهما هذا السِيٓاحُ المتصل لمعنى لا يكتمل تقترحه اللغة .. تدربت معه على رؤية الواقع من شرفة الغيم ، وهي طريقة فاتنة تجعل النص الذي نكتبه نقيضاً مستمراً للواقع وليس انعكاساً له، النص لدينا هو نقيض الواقع، بالمعنى الجمالي والفكري العميق . فأنت لكي تصوغ ذاتك في مواجهة ضراوة العالم وبشاعته، لابد لك من التحصّن ضده بطاقة مخيلتك الحرة، التي لا تكون فاعلة ونشطة وصادقة إلا بهذا الاستشراف الحميم ، ذلك حلمٌ بهي مُدْلـِهْ وضعه أحمد في المكان الشاهق وهو يصوغ تجربته الإبداعية الأدبية، لقد قال ذات مرة ..أنه كلما صارت الكتابة متعة حقيقية للكاتب، كلما تسنى لها أن تكون كذلك للقارئ أي مضاهاة له ..كما أنها تصيرالظهير الأنيس لتجربته في الكتابة. وبسبب هذه المضاهاة الفاتنة، أصبحت الكتابة لديه فعل استمرار الحياة ذاتها من أجل وضعها ( أي الحياة ) في مهب المستقبل الأثير والمثير والأجمل، ولا أظن أن ثمة أسمى من أن تكون الكتابة متمثلة في هذا التوق الإنساني النبيل. لعل طاقة المخيلة الحرة التي كان عنها يصدر أحمد وهو يصوغ نصوصه، كانت بالنسبة لي سياقاً من الضوء البهي ، كنت أجد في أحمد (شعراً ونثراً وتبادلاً لأدوار الحوار الفكري الفلسفي العميق ، تقمصاً للنقائض بلا هوادة، وإتقاناً لدور أكثر اللامبالين اكتراثاً، وأحرص الفوضويين تنظيماً، بناءً وهدماً) وبمثابة ممارسة نادرة التحقق في الكتابة ، ممارسة تشي دائماً بما يمكن وصفه باقتحام الدلالة المألوفة في سبيل اكتشاف، وكشف، لا نهائية الدلالات في النص ونأمة الحياة حين تتجاوران وتتيحان للكائن، متعة اكتشاف رحابة الفضاء الشاسع في النص (كما في الحياة) كلما تيسر للمبدع أن يطلق الطاقة القصوى لمخيلته، ويمعن في تشغيل الحريات الجميلة التي عملت وتعمل السلطات على إختلافها وتنوعها على مصادرتها أو كبحها.

لقد كانت تجربة الحياة البائسة التي عاشها أحمد طفلاً يتيماً شريداً طريداً، واحدة من أجمل الاشياء التي منحت نصوصه خبرة وقوة وكثافة وشجاعة وراحت تحصنه ضد الحياة وفيما بعد ضد كافة أشكال السلطات السياسية والفكرية القمعية ، تلك السلطات التي كانت على وشك الإجهاز عليه وتخريب مشروع حياته بشكل كامل ، وتلك قصة أخرى في رحلة هذا الشاعر الجميل مع الحياة والأدب ..

بتصوري أن الثيمة التي تؤسس علاقته مع القصيدة هي العشق لها، القصيدة لديه مثل الحب. والشعر عنده لا ينحصر في لحظة كتابته. الشعر طريقة حياة يعيشها بشكل دائم. والكتابة هي واحدة من الذروات الخلابة الساحرة التي يأتي إليها ليكتب نصه، كما لو أنه يصغي إلى صوت غامض يملي عليه الكلمات، وهو يسجلها بشغف كمن يصغي إلى وصية شخص يحتضر، وقريبا من هذا الوصف قال لي ذات مرة : أن المحتضر هو الشاعر نفسه في كل مرة . بمعنى أن المعاناة لا تكون أثناء كتابة القصيدة، بل قبل ذلك، في الحياة، ( من يُزعم أنه يفهم الحياة أكثر من الشاعر) إذن الكتابة هي أجمل اللحظات على الإطلاق. فالشاعر لا يكون فرحاً ومتألقاً مثلما هو لحظة الكتابة. العذاب كل العذاب يكون قبل النص ويكون بعده، أما لحظة الكتابة فما أبعدها عن العذاب ، إنها النشوة القصيرة والخاطفة والنادرة ، التي تؤكد كم شبيه هو الحب بالشعر...

الشعر أسر إحمد فراح يرى أشياء الحياة من حوله غيماً شفيفاً يمتزج بروحه، ويثير هذا القلق العذب في نفسه . ولولا هذه الحالة الغامضة لما تسنى لشخص مثله أن يحتمل واقعه، التعامل مع أشياء الحياة بهذه الشعرية، يعني أن الشعر لا يقتصر على الكتابة فقط، فكل ما يقع تحت ناظريه ويلامس كيانيه هو ضرب من الشعر.

القصيدة في داخله تنثال مثل شظايا بلور متناهية في الصغر، وتتراكم .. تتراكم شيئاً فشيئاً، لتصبح بركاناً عذباً يمنح روحه طاقة إمتلاك الغامض العميق للعالم، إنه شعور من يضع الجواهر النادرة في جيبه. يتصاعد شعوره هذا ليبدو في لحظة ما، حالة عشق تستعصي على الوصف. عشق جميل ساحر وخلاّب لا يكفّ عن التصاعد مثل نار؛ تفيض في الهواء .

قال لي ذات مرة أن صمتاً غامضاً وغريباً يأسرُ روحي يسبق لحظة الكتابة، صمتاً كثيفاً ثقيلاً حيث لا أقوى على الكلام مع الناس. بل إنني أحياناً أكاد، لفرط عمق هذا الصمت، لا أحسن كلام الآخرين ولا أحسن فهم ما يتكلمون ، فأبدو مرتبكاً، مضطرباً، متعثر ، تهرب مني اللغة ،أصير مثل طفل يتلعثم أمام التفاصيل البسيطة كأنه يصادفها للمرة الأولى والاخيرة مما يورطني في حالة من الحرج بسبب عدم رغبتي في الكلام مع أحد. وأجدني كائناً مثل الوحش لا يحسن شيئاً مما يتصل بالبشر، وآنئذ لا يفهمني سوى الأقربون فيكفّون، مدركين حاجتي الماسة للعزلة...

عندها فقط، أسلّم نفسي لشياطين الشعر كي تستفرد بي كما يحلو لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الموزع الموسيقى أسامة الهندى: فخور بتعاونى مع الهضبة في 60 أ


.. الفنان محمد التاجى يتعرض لأزمة صحية ما القصة؟




.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا


.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل