الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرومانسية الصوفية وإبداع القصيدة في فكر صلاح عبد الصبور النقدي

كريم الوائلي
كاتب وناقد ادبي وتربوي .

(Karim Alwaili)

2017 / 5 / 18
الادب والفن


الرومانسية الصوفية وإبداع القصيدة
في فكر صلاح عبد الصبور النقدي
الدكتور كريم الوائلي
تخرج صلاح عبد الصبور فنيا ونقديا من تحت عباءة المدرسة الرومانسية العربية وظل مخلصا لكثير من مبادئها طيلة حياته في إبداعه الفني النقدي على السواء ، وطور جانبا من تصوراتها نحو نـزعة صوفية تدفعنا إلى وصفها بالرومانسية الصوفية ، إذ يبدو عبد الصبور متأثرا بالمنجز الصوفي في كتاباته الإبداعية كمأساة الحلاج ـ مثلا ـ وفي حديثه عن سيرته الفنية في كتابه « حياتي في الشعر » ، إذ يؤكد ذلك في مواطن كثيرة في أثناء تحدثه عن المتصوفة واستخدامه مصطلحاتهم ورموزهم ومحاكاة عباراتهم ، ويطبق ذلك بصورة تكاد تكون متماثلة بين الوجد الصوفي والإبداع الشعري ، كما أنه تأثر برموز الرومانسية العربية ، وبخاصة جبران خليل جبران الذي يعده « قائد » رحلته ،وتأثر أيضا بخصائص الرومانسية الفنية متمثلة « بموسيقاها الرقيقة وقاموسها العفوي المنتقى ، الذي تتناثر فيه الألفاظ ذوات الدلالة المجنحة والإيقاع الناعم » ولكنه تجاوز هذه الرؤية وتجاوز إبداع القصيدة الغنائية التي تنثال فيها « الخواطر والأحاسيس انثيالا عفويا تلقائيا ، بحيث لا يربط بينها إلا التداعي » إلى تشكيل لغوي .
وإذا كانت الرومانسية تعلي من أهمية الذات بوصفها مركزا أساسيا للمعرفة والإبداع فإن صاح عبد الصبور يؤكد عليها من جوانب متعددة ، إذ يرى أن « معرفة النفس » تحولا في مسار الإنسانية ،ومن ثم فإن الإنسان الفرد هو المعبر هذه الذات ، ولذلك تحددت في ضوئها طبيعة المجتمع وحركة التاريخ ، وماهية الفن ، لأنه حين تتناغم آحاد الإنسان يتكون المجتمع وتتشكل حركة التاريخ من حراكه ، ويتولد الفن من لحظات نشوته .


ولم يكن الإنسان أساسا لتحديد طبيعة المجتمع والتاريخ والفن فحسب ، بل انه مركز الكون أيضا ، لأن الكون « قوة عمياء ... و الإنسان هو عقله ووعيه ، وعظمة ذلك العقل انه يستطيع ان يعقل ذاته » ، ويتميز الإنسان ـ هنا ـ بقدرته الفائقة على وعي ذاته ووعي العالم الذي يعيش فيه ، أو على حد تعبير عبد الصبور « انه يجعل من نفسه ذاتا وموضوعا في نفس الآونة ، ناظرا ومنظورا إليه ، ومرآة ينقسم ويلتئم في لحظة واحدة » .
إن الإدراك لا يتحدد بانعكاس صور الأشياء في الذهن ، أو تجادلهما معا ، بمعنى أنه ليس تأملا فيما يقع خارج الذات الإنسانية ، بل على العكس من ذلك ، إن الإدراك لديه ينشأ من خلال النظر إلى الذات ومهما يتحقق الوعي ، ولذلك فإن « نظر الإنسان في ذاته هو التحول الأكبر في الإدراك البشري لأنه يحيل هذا الإدراك من إدراك ساكن فاتر إلى إدراك متحرك متجاوز » ، وليس الإدراك هنا مجرد انكباب على النفس وانطواء عليها ، ولكن الذات تصبح مركز للكون ومحورا لصوره وأشيائه ، ويتحدد الإدراك في ضوء ثلاثية أخرى ولعلها تمثل الوجه الآخر لثلاثية الإنسان التي حددت حركة المجتمع والتاريخ والفن ، وتنحصر هذه الثلاثية ـ هذه المرة ـ في ثلاثة أركان تمثل الذات ركنيها الأساسيين ،وتمثل الأشياء الركن الثالث ، فالمعرفة والوعي يتحددان عند عبد الصبور في نوع من الحوار الثلاثي بين ذاته الناظرة ، وذاته المنظورة ، والأشياء ،بمعنى أنه يجعل من ذاته ذاتا وموضوعا في آن ، ويتبادلان المواقع ، إضافة إلى الموضوع المحدد في الأشياء الكائنة خارج الذات المدركة .


الذات الناظرة
الوعي / الإدراك الذات المنظورة حوار
الأشياء



وينطلق صلاح عبد الصبور من العام إلى الخاص ، أي أنه تحكمت فيه ثلاثية الإنسان (المجتمع ـ التاريخ ـ الفن ) ، وثلاثية الوعي ( الذات الناظرة ـ الذات المنظورة ـ الأشياء ) لينتقل بعد ذلك إلى كيفية تخليق القصيدة التي تتحكم فيها هي الأخرى ثلاثية ، تلتقي فيها أبعاد الرومانسية الصوفية ، وكيفيات تخليق القصيدة الشعرية .
ويمر إبداع القصيدة لديه بمرحلتين : لا واعية سابقة ـ تشتمل على مكونين من مكونات ثلاثية تخليق القصيدة ـ وواعية لاحقة ، وتتجلى في المرحلة اللاواعية ابرز مقومات النـزعة الروماسية الصوفية بملامحها المثالية التي ترجع في بعض جذورها إلى التفكير الأفلاطوني ،وترتد جذورها الأخرى إلى التصوف الإسلامي ،وليس هناك من تعارض بين التصورين لدى عبد الصبور لأن الذي يشغل تفكيره انهما ـ المثالية الأفلاطونية والتصوف ـ يعبران عن الداخل ويصدران عنه .
ويتحدد تخليق القصيدة في المرحلة اللاواعية عبر خطوتين ، تمثل الخطوة الأولى ما أيطلق عليه « الوارد » الذي حدده مرة « بخاطرة » « هابطة من منبع متعال عن البشر » وكونها « تفد إلى الذهن » أو « تبزغ فجأة مثل لوامع البرق » ، وهي ـ في كل الأحوال ـ تأتي من غامض شأنها شأن الشيء الحزين الذي قال فيه صلاح عبد الصبور :
هناك شيء في نفوسنا حزين
قد يختفي ولا يبين
لكنه مكنون
شيء غريب .. غامض .. حنون
ويضفي عليها أحيانا ـ توصيفات طبيعية أو ذاتية ، فهي « تهبط » كالإلهام ، أو وحي من «منبع » متعال عن البشر ، وفي كل الأحوال لا وجود للجهد الإنساني في تشكيل القصيدة ، أو تخليقها ،لأنها متأتية من مكان آخر إلهامي ، وتنحدر في هبوطها من أعلى غامض إلى أدنى في الذات الإنسانية ، أو انها متدفقة من منبع ، وهو توصيف يذكرنا بالنبع الذي يتدفق من داخل الأرض ،ويحمل كل سمات الداخل، ويستكمل عبد الصبور توصيفها بحدوثه فجأة ، ويستخدم توصيفا طبيعيا وذلك لم بحدوثها فجأة ، فالوارد ـ هنا ـ خاطرة تبزغ فجأة مثل لوامع البرق والبزوغ المفاجئ ،وكونها لامعا يؤكد المعنى السابق في أن عملية الإبداع لا تتأتى بفعل الجهد الإنساني قدر ما هي هبة تقد من مكان آخر ،وتلد فجأة ومضا أو برقا تأكيدا لمثالية الإبداع ووجدانيته المطلقة .
ويضفي سمات معرفية على الوارد الإبداعي حين يتخلق لديه بوصفه فكرة « نابعة من الذات الإنسانية » وهنا يكرر توصيف النبع الذي يؤكد داخلية الإبداع لا خارجيته ،بمعنى أن الإبداع لا يتخلق بسبب مثير خارجي يولد انفعالا في الذات بل على العكس ينبع أو يتدفق من الذات الإنسانية ، وان هذه العلمية تحقق للذات وعيها لنفسها ، فكأن التدفق والبزوغ من الداخل إنما هو شكل من أشكال الفيض الإشرافي الذي يحقق للذات وعيها لنفسها، ثم القبض على العالم لإدراكه ، ومن ثم فإن وعي الذات ووعي الموضوع ( العالم ـ الأشياء ) يتم بفيض ينبع من الداخل .
ويشبه عملية التخليق هذه في ضوء حركة مستقيمة ،تماما كحركة الوقت الذي ينتقل بشكل أفقي تتالى فيه أحداثه كذلك تخليق القصيدة ينتقل من السكون إلى الدوامة ثم إلى التشكيل :

ويمثل السكون المرحلة السابقة للوارد ، وتأتي الدوامة التي يتجلى فيها الوارد « خاطرة ـ أو فكرة ـ أو فيضا » من النفس ، وعليها وعلى الوجود .
ويتكئ صلاح عبد الصبور في تحديد ماهية الوارد على المعجم الصوفي الذي يتضمن « الباده والعارض والوهم » وغيرهما ،ويتوقف للمقارنة فين مصطلحي الباده والوارد ، إذ يمثل الأول « مقدمة للوارد حين يبده القلب ويفجؤه ... ويفتح الطريق للوارد » أما الوارد فإنه « يستغرق القلب وأن يكون له فعل » .
ويعقد عبد الصبور مقارنة بين الوارد الصوفي والحس البرجسوني ، إذ يرى أن الحدس على الرغم من طبيعته المخالفة للتفكير العقلي فإنه يتكئ تماما على المقدمات العقلية ، ويتأسس في ضوئها ، فهو ينبثق في ضوء « المواد الألوية التي يرتبها العقل في وحدة وتناسق » ومن ثم فهو صالح لتفسير الوثبات الفكرية لأنه « قمة عقلية لنشاط عقلي » ويعجز من ثم في تفسير « الوثبات الوجدانية » التي يتمكن الوارد من التعبير عنها .
وفي ضوء هذا يبتعد الوارد كثيرا عن العقل ، ويقترب إلى حد كبير من التصورات الأفلاطونية ، فهو يتشكل بوصفه وافدا ، أو ومضة ، أو فيضا من النفس ، .إن إبداع الشعر عند أفلاطون وصلاح عبد الصبور لا يتم إلا تحت وطأة تأثير قوة غيبية ، يفقد فيها الشاعر وعيه وصوابه ،ولذلك يكشف أفلاطون عن تصوره في عقد المقارنة م كهنة كوبيلا الذين لا يؤدون طقوسهم في الرقص إلا إذا فقدوا صوابهم ، ويرى أن الشعراء ـ الغنائيين بخاصة ـ « لا ينظمون أشعارهم وهم منتبهون ، إذ حينما يبدأون اللحن والتوقيع يأخذهم هيام عنيف ،وينـزل عليهم الوحي الإلهي ».
إذن هناك حالة لا وعي تمكن الشاعر من إبداع الشعر وان الإلهام قذف والقاء في روع الشاعر وليس الشاعر سوى وسيط لنقل ما يلقى إليه ، وان عمله يماثل حالة اللاوعي التي يمارسها كهنة الإلهة كوبيلا ، والصورة نفسها لدى عبد الصبور ، إذ تتخلق القصيدة ـ أساسا ـ في حالة لا وعي يعيشها الشاعر ، وان هناك واردا يفد إليه ، وليس الشاعر سوى ناقل لهذا الوارد ،وان هناك تماثلا بين حالة إبداع الشعر ووجد الصوفي ، وكلا العملين يتم بحالة الاتحاد بقوة غيبية تفيض على الذات وتؤثر فيها .
ويتم تشكيل القصيدة بطريقتين ، الأولى : يرفضها عبد الصبور لأنها توجد بعيدا عن دور الوارد وتأثيره ، والثانية : يتبناها ، وهي « القصيدة ـ الوارد » ويرى أنها تتكون « حين يرد إلى الذهن مطلع القصيدة ، أو مقطع من مقاطعها بغير ترتيب بألفاظ مموسقة ،لا يكاد الشارع يستبين معناها » ، ولا يتحكم الشاعر في بدء تشكيل القصيدة ولا في زمان تدفقها ، أو مكان تشكيلها ،وأخطر من هذا أنه لا يتبين معانيها ، أو الوعي بسماتها وخصائصها ، إنه فعل يشبه فعل الوجدان الصوفي الذي يتلبس الصوفي .
وتمثل « القصيدة كوارد » الخطوة الأولى من مرحلة اللاوعي في تخليق القصيدة ، وتمثل « القصيدة كفعل » الخطوة الثانية ،وهاتان الخطوتان متتاليتان ، وترتبط الثانية بالأولى ارتباط المعلول بعلته . إن الشاعر في الخطوة الأولى في حالة تلق سلبي مطلق إزاء قوة غيبية خارجية ، وهو في حالة لا وعي ،ويستمر في حالته الواعية في الخطوة الثانية ، ويرافقها تعب وجهد وقلق ،أو على حد تعبيره ان الشاعر « يدفع بنفسه إلى رحلة مضنية في طريق قلق » ، ويتأتى هذا كله لأن الشاعر يحاول استحضار الوارد ، بمعنى أنه يتصيده ، ويحاول التعبير عنه بالكيفية نفسها التي عاشها وجدا صوفيا ، ويتكئ الشاعر على عبارات وجدانية صوفية لتوصيف هذه الحالة التي يختلط فيها اتحاد الذات وانفصالها ، واقترانها بالوعي « إن الشاعر يستطيع ان يتقدم خطوات محو هذا المنبع حتى يتصل به » .
ويمثل ما يلف الصورة المثالية لإبداع القصيدة غير أن الشاعر يحدثنا عن العلاقة بين الشاعر والوارد ، بحسب أصول تذكرنا بتقسيمات ابن قتيبة لضروب الشعر ،فحين يتحدث عن إخفاق القصيد يرجع ذلك إلى :
قوة العواطف واحتدامها مع ضعف الشاعر .
قوة الشاعر وممانعته الذاتية فلم يستطع ان ينسلخ عن ذاته بحيث يدع القصيدة تسيطر عليه .
ضعف إحساس الشاعر إزاء ما يرد عليه من خاطر .
أما المرحلة الواعية من إبداع القصيدة فهي عودة الشاعر إلى حالته العادية قبل ورود الوارد إليه « وحياً وقصيدة » وهنا يقوم الشاعر بتنقيح قصيدته بحيث يثبت لفة ، ويمحو أخرى ، أو يقدم أو يؤخر ، ويستبدل شطرا بشطر آخر ، ويبدو أن تنقيح القصيدة هو آخر عمليات الإبداع في القصيدة ، وبذلك يكرر صلاح عبد الصبور بعض أفكار ابن طباطبا العلوي التراثية ،وكذلك بعض أفكار إليوت .


تخرج صلاح عبد الصبور فنيا ونقديا من تحت عباءة المدرسة الرومانسية العربية وظل مخلصا لكثير من مبادئها طيلة حياته في إبداعه الفني النقدي على السواء ، وطور جانبا من تصوراتها نحو نـزعة صوفية تدفعنا إلى وصفها بالرومانسية الصوفية ، إذ يبدو عبد الصبور متأثرا بالمنجز الصوفي في كتاباته الإبداعية كمأساة الحلاج ـ مثلا ـ وفي حديثه عن سيرته الفنية في كتابه « حياتي في الشعر » ، إذ يؤكد ذلك في مواطن كثيرة في أثناء تحدثه عن المتصوفة واستخدامه مصطلحاتهم ورموزهم ومحاكاة عباراتهم ، ويطبق ذلك بصورة تكاد تكون متماثلة بين الوجد الصوفي والإبداع الشعري ، كما أنه تأثر برموز الرومانسية العربية ، وبخاصة جبران خليل جبران الذي يعده « قائد » رحلته ،وتأثر أيضا بخصائص الرومانسية الفنية متمثلة « بموسيقاها الرقيقة وقاموسها العفوي المنتقى ، الذي تتناثر فيه الألفاظ ذوات الدلالة المجنحة والإيقاع الناعم » ولكنه تجاوز هذه الرؤية وتجاوز إبداع القصيدة الغنائية التي تنثال فيها « الخواطر والأحاسيس انثيالا عفويا تلقائيا ، بحيث لا يربط بينها إلا التداعي » إلى تشكيل لغوي .
وإذا كانت الرومانسية تعلي من أهمية الذات بوصفها مركزا أساسيا للمعرفة والإبداع فإن صاح عبد الصبور يؤكد عليها من جوانب متعددة ، إذ يرى أن « معرفة النفس » تحولا في مسار الإنسانية ،ومن ثم فإن الإنسان الفرد هو المعبر هذه الذات ، ولذلك تحددت في ضوئها طبيعة المجتمع وحركة التاريخ ، وماهية الفن ، لأنه حين تتناغم آحاد الإنسان يتكون المجتمع وتتشكل حركة التاريخ من حراكه ، ويتولد الفن من لحظات نشوته .


ولم يكن الإنسان أساسا لتحديد طبيعة المجتمع والتاريخ والفن فحسب ، بل انه مركز الكون أيضا ، لأن الكون « قوة عمياء ... و الإنسان هو عقله ووعيه ، وعظمة ذلك العقل انه يستطيع ان يعقل ذاته » ، ويتميز الإنسان ـ هنا ـ بقدرته الفائقة على وعي ذاته ووعي العالم الذي يعيش فيه ، أو على حد تعبير عبد الصبور « انه يجعل من نفسه ذاتا وموضوعا في نفس الآونة ، ناظرا ومنظورا إليه ، ومرآة ينقسم ويلتئم في لحظة واحدة » .
إن الإدراك لا يتحدد بانعكاس صور الأشياء في الذهن ، أو تجادلهما معا ، بمعنى أنه ليس تأملا فيما يقع خارج الذات الإنسانية ، بل على العكس من ذلك ، إن الإدراك لديه ينشأ من خلال النظر إلى الذات ومهما يتحقق الوعي ، ولذلك فإن « نظر الإنسان في ذاته هو التحول الأكبر في الإدراك البشري لأنه يحيل هذا الإدراك من إدراك ساكن فاتر إلى إدراك متحرك متجاوز » ، وليس الإدراك هنا مجرد انكباب على النفس وانطواء عليها ، ولكن الذات تصبح مركز للكون ومحورا لصوره وأشيائه ، ويتحدد الإدراك في ضوء ثلاثية أخرى ولعلها تمثل الوجه الآخر لثلاثية الإنسان التي حددت حركة المجتمع والتاريخ والفن ، وتنحصر هذه الثلاثية ـ هذه المرة ـ في ثلاثة أركان تمثل الذات ركنيها الأساسيين ،وتمثل الأشياء الركن الثالث ، فالمعرفة والوعي يتحددان عند عبد الصبور في نوع من الحوار الثلاثي بين ذاته الناظرة ، وذاته المنظورة ، والأشياء ،بمعنى أنه يجعل من ذاته ذاتا وموضوعا في آن ، ويتبادلان المواقع ، إضافة إلى الموضوع المحدد في الأشياء الكائنة خارج الذات المدركة .


الذات الناظرة
الوعي / الإدراك الذات المنظورة حوار
الأشياء



وينطلق صلاح عبد الصبور من العام إلى الخاص ، أي أنه تحكمت فيه ثلاثية الإنسان (المجتمع ـ التاريخ ـ الفن ) ، وثلاثية الوعي ( الذات الناظرة ـ الذات المنظورة ـ الأشياء ) لينتقل بعد ذلك إلى كيفية تخليق القصيدة التي تتحكم فيها هي الأخرى ثلاثية ، تلتقي فيها أبعاد الرومانسية الصوفية ، وكيفيات تخليق القصيدة الشعرية .
ويمر إبداع القصيدة لديه بمرحلتين : لا واعية سابقة ـ تشتمل على مكونين من مكونات ثلاثية تخليق القصيدة ـ وواعية لاحقة ، وتتجلى في المرحلة اللاواعية ابرز مقومات النـزعة الروماسية الصوفية بملامحها المثالية التي ترجع في بعض جذورها إلى التفكير الأفلاطوني ،وترتد جذورها الأخرى إلى التصوف الإسلامي ،وليس هناك من تعارض بين التصورين لدى عبد الصبور لأن الذي يشغل تفكيره انهما ـ المثالية الأفلاطونية والتصوف ـ يعبران عن الداخل ويصدران عنه .
ويتحدد تخليق القصيدة في المرحلة اللاواعية عبر خطوتين ، تمثل الخطوة الأولى ما أيطلق عليه « الوارد » الذي حدده مرة « بخاطرة » « هابطة من منبع متعال عن البشر » وكونها « تفد إلى الذهن » أو « تبزغ فجأة مثل لوامع البرق » ، وهي ـ في كل الأحوال ـ تأتي من غامض شأنها شأن الشيء الحزين الذي قال فيه صلاح عبد الصبور :
هناك شيء في نفوسنا حزين
قد يختفي ولا يبين
لكنه مكنون
شيء غريب .. غامض .. حنون
ويضفي عليها أحيانا ـ توصيفات طبيعية أو ذاتية ، فهي « تهبط » كالإلهام ، أو وحي من «منبع » متعال عن البشر ، وفي كل الأحوال لا وجود للجهد الإنساني في تشكيل القصيدة ، أو تخليقها ،لأنها متأتية من مكان آخر إلهامي ، وتنحدر في هبوطها من أعلى غامض إلى أدنى في الذات الإنسانية ، أو انها متدفقة من منبع ، وهو توصيف يذكرنا بالنبع الذي يتدفق من داخل الأرض ،ويحمل كل سمات الداخل، ويستكمل عبد الصبور توصيفها بحدوثه فجأة ، ويستخدم توصيفا طبيعيا وذلك لم بحدوثها فجأة ، فالوارد ـ هنا ـ خاطرة تبزغ فجأة مثل لوامع البرق والبزوغ المفاجئ ،وكونها لامعا يؤكد المعنى السابق في أن عملية الإبداع لا تتأتى بفعل الجهد الإنساني قدر ما هي هبة تقد من مكان آخر ،وتلد فجأة ومضا أو برقا تأكيدا لمثالية الإبداع ووجدانيته المطلقة .
ويضفي سمات معرفية على الوارد الإبداعي حين يتخلق لديه بوصفه فكرة « نابعة من الذات الإنسانية » وهنا يكرر توصيف النبع الذي يؤكد داخلية الإبداع لا خارجيته ،بمعنى أن الإبداع لا يتخلق بسبب مثير خارجي يولد انفعالا في الذات بل على العكس ينبع أو يتدفق من الذات الإنسانية ، وان هذه العلمية تحقق للذات وعيها لنفسها ، فكأن التدفق والبزوغ من الداخل إنما هو شكل من أشكال الفيض الإشرافي الذي يحقق للذات وعيها لنفسها، ثم القبض على العالم لإدراكه ، ومن ثم فإن وعي الذات ووعي الموضوع ( العالم ـ الأشياء ) يتم بفيض ينبع من الداخل .
ويشبه عملية التخليق هذه في ضوء حركة مستقيمة ،تماما كحركة الوقت الذي ينتقل بشكل أفقي تتالى فيه أحداثه كذلك تخليق القصيدة ينتقل من السكون إلى الدوامة ثم إلى التشكيل :

ويمثل السكون المرحلة السابقة للوارد ، وتأتي الدوامة التي يتجلى فيها الوارد « خاطرة ـ أو فكرة ـ أو فيضا » من النفس ، وعليها وعلى الوجود .
ويتكئ صلاح عبد الصبور في تحديد ماهية الوارد على المعجم الصوفي الذي يتضمن « الباده والعارض والوهم » وغيرهما ،ويتوقف للمقارنة فين مصطلحي الباده والوارد ، إذ يمثل الأول « مقدمة للوارد حين يبده القلب ويفجؤه ... ويفتح الطريق للوارد » أما الوارد فإنه « يستغرق القلب وأن يكون له فعل » .
ويعقد عبد الصبور مقارنة بين الوارد الصوفي والحس البرجسوني ، إذ يرى أن الحدس على الرغم من طبيعته المخالفة للتفكير العقلي فإنه يتكئ تماما على المقدمات العقلية ، ويتأسس في ضوئها ، فهو ينبثق في ضوء « المواد الألوية التي يرتبها العقل في وحدة وتناسق » ومن ثم فهو صالح لتفسير الوثبات الفكرية لأنه « قمة عقلية لنشاط عقلي » ويعجز من ثم في تفسير « الوثبات الوجدانية » التي يتمكن الوارد من التعبير عنها .
وفي ضوء هذا يبتعد الوارد كثيرا عن العقل ، ويقترب إلى حد كبير من التصورات الأفلاطونية ، فهو يتشكل بوصفه وافدا ، أو ومضة ، أو فيضا من النفس ، .إن إبداع الشعر عند أفلاطون وصلاح عبد الصبور لا يتم إلا تحت وطأة تأثير قوة غيبية ، يفقد فيها الشاعر وعيه وصوابه ،ولذلك يكشف أفلاطون عن تصوره في عقد المقارنة م كهنة كوبيلا الذين لا يؤدون طقوسهم في الرقص إلا إذا فقدوا صوابهم ، ويرى أن الشعراء ـ الغنائيين بخاصة ـ « لا ينظمون أشعارهم وهم منتبهون ، إذ حينما يبدأون اللحن والتوقيع يأخذهم هيام عنيف ،وينـزل عليهم الوحي الإلهي » .
إذن هناك حالة لا وعي تمكن الشاعر من إبداع الشعر وان الإلهام قذف والقاء في روع الشاعر وليس الشاعر سوى وسيط لنقل ما يلقى إليه ، وان عمله يماثل حالة اللاوعي التي يمارسها كهنة الإلهة كوبيلا ، والصورة نفسها لدى عبد الصبور ، إذ تتخلق القصيدة ـ أساسا ـ في حالة لا وعي يعيشها الشاعر ، وان هناك واردا يفد إليه ، وليس الشاعر سوى ناقل لهذا الوارد ،وان هناك تماثلا بين حالة إبداع الشعر ووجد الصوفي ، وكلا العملين يتم بحالة الاتحاد بقوة غيبية تفيض على الذات وتؤثر فيها .
ويتم تشكيل القصيدة بطريقتين ، الأولى : يرفضها عبد الصبور لأنها توجد بعيدا عن دور الوارد وتأثيره ، والثانية : يتبناها ، وهي « القصيدة ـ الوارد » ويرى أنها تتكون « حين يرد إلى الذهن مطلع القصيدة ، أو مقطع من مقاطعها بغير ترتيب بألفاظ مموسقة ،لا يكاد الشارع يستبين معناها » ، ولا يتحكم الشاعر في بدء تشكيل القصيدة ولا في زمان تدفقها ، أو مكان تشكيلها ،وأخطر من هذا أنه لا يتبين معانيها ، أو الوعي بسماتها وخصائصها ، إنه فعل يشبه فعل الوجدان الصوفي الذي يتلبس الصوفي .
وتمثل « القصيدة كوارد » الخطوة الأولى من مرحلة اللاوعي في تخليق القصيدة ، وتمثل « القصيدة كفعل » الخطوة الثانية ،وهاتان الخطوتان متتاليتان ، وترتبط الثانية بالأولى ارتباط المعلول بعلته . إن الشاعر في الخطوة الأولى في حالة تلق سلبي مطلق إزاء قوة غيبية خارجية ، وهو في حالة لا وعي ،ويستمر في حالته الواعية في الخطوة الثانية ، ويرافقها تعب وجهد وقلق ،أو على حد تعبيره ان الشاعر « يدفع بنفسه إلى رحلة مضنية في طريق قلق » ، ويتأتى هذا كله لأن الشاعر يحاول استحضار الوارد ، بمعنى أنه يتصيده ، ويحاول التعبير عنه بالكيفية نفسها التي عاشها وجدا صوفيا ، ويتكئ الشاعر على عبارات وجدانية صوفية لتوصيف هذه الحالة التي يختلط فيها اتحاد الذات وانفصالها ، واقترانها بالوعي « إن الشاعر يستطيع ان يتقدم خطوات محو هذا المنبع حتى يتصل به » .
ويمثل ما يلف الصورة المثالية لإبداع القصيدة غير أن الشاعر يحدثنا عن العلاقة بين الشاعر والوارد ، بحسب أصول تذكرنا بتقسيمات ابن قتيبة لضروب الشعر ،فحين يتحدث عن إخفاق القصيد يرجع ذلك إلى :
قوة العواطف واحتدامها مع ضعف الشاعر .
قوة الشاعر وممانعته الذاتية فلم يستطع ان ينسلخ عن ذاته بحيث يدع القصيدة تسيطر عليه .
ضعف إحساس الشاعر إزاء ما يرد عليه من خاطر .
أما المرحلة الواعية من إبداع القصيدة فهي عودة الشاعر إلى حالته العادية قبل ورود الوارد إليه « وحياً وقصيدة » وهنا يقوم الشاعر بتنقيح قصيدته بحيث يثبت لفة ، ويمحو أخرى ، أو يقدم أو يؤخر ، ويستبدل شطرا بشطر آخر ، ويبدو أن تنقيح القصيدة هو آخر عمليات الإبداع في القصيدة ، وبذلك يكرر صلاح عبد الصبور بعض أفكار ابن طباطبا العلوي التراثية ،وكذلك بعض أفكار إليوت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج