الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخروج من السجن

مروة التجاني

2017 / 5 / 20
أوراق كتبت في وعن السجن



- قبل أن أبدأ بالسرد سأطلب منك عزيزي القارئ أن تقرأ هذا المقال وحيداً ، قم بتحضير كوب شاي وأمسك يدي لأقودك إلى العالم الذي كنت فيه ، ستسألني من أنا لأطلب منك كل هذه الأمور .. حسناً أنا ( سارة ) أرقد حالياً في مستشفى السجن وأقترب من الموت ، ها أنا أمرأة عجوز أرغب في الحديث في آخر أيامي عن سنوات ماضية ظلت عالقة بذاكرتي .. وأنا لا أملك في الدنيا غير اللغة لأخبرك بما حدث ، أسمع حالياً صوت الماء المغلي سأمهلك بعض الوقت لترتب أمورك وتقرر بعدها أتتابع قصتي أم لا لأني سأرويها على أي حال ..



- أعرف أن السنوات داخل السجن ستكون طويلة ، قاسية ، تركت خلفي تاريخ كامل من البناء وفي لحظات فقدت المنزل ، الزوج ، الأبن .. لكن يبدو أن الفقد سيكون كبيراً بحيث يصعب أن أحصره في أشياء معدودة ، لكنه الفقد .. الشعور باليتم ، هكذا كانت مشاعري في الأيام الأولى .. التعود على نظام جديد أمر شاق ، مرعب ، محفوف بالخسارات ، أيه خسارات ؟؟ ، لا تسألوني بل جسدي هو من سيحدثكم ، التعود على مواعيد نوم مختلفة يعني إعادة تكيف الجسد على نظام جديد ، النوم ، أكنت في حياة سابقة أتخيل كيف لأحدهم أن يتحكم بمواعيد نومي؟ ، ها أنا في الأيام الأولى أنظر بإرهاق شديد في عيون السجانات وهن يوقظننا بعنف وصخب ، يا للهول ، لن أعقد مقارنة بين أصواتهن وسياطهن وصوت منبه الساعة ، كم تفتقد يدي الضربة السريعة فوق الساعة ليصمت بعدها الصوت .


النوم ، ألف ليلة وليلة وأنا أطالع من النافذة الصغيرة ضوء القمر المتساقط على الزنزانة ، وهمس الأخريات وثرثراتهن ، تعاقب الليل والنهار رسم حول عيني خطوط عريضة ظاهرة للعيان ، النوم في السجن .. آه كم هو مختلف عن أيام خوالي. في إحدى زيارات زوجي كنت أشعر بالخجل لتغير ملامح وجهي وبروز عيني .. كانت زيارة خاصة بالروعة وحدها حين مسد بيديه على وجهي وقال " لا تزالين وردة جميلة .. سارة .. أنتي وردة تتفتح أينما زرعت .. فإبتسمي " ، رسمت على وجهي إبتسامة وحدثته عن أيامي كيف أقضيها ، كان يستمع بإهتمام وقال وهو يهم بالمغادرة " لاشك أن ضوء القمر المتسرب إلى زنزانتكم يسقط مباشرة على عينيك " ، تبادلنا الضحكات وودعته ، في النظرة الأخيرة تبين لي أن عينيه متعبتين ، مختلفتين ، كان شيئاً ما تغير فيهما .


- يبدأ الذبول بطيئاً لكن علاماته سرعان ما تظهر ، هذا ما حدث لأصابعي ويدي فبدت بعد فترة وكأني كنت أحمل الشمس فأحترقتا ، العمل في السجن ، كانت السنوات اللاحقة شاقة حين طلبت أن أنضم لفريق المطبخ لكن هذا هو العمل الرحيم المتواجد في هذه المساحة الجغرافية الصغيرة ، خلف الأسوار أنت تمر أيها القارئ ولا تعلم ماذا يحدث بالداخل .. لابد أن كوب الشاي إنتهى .


عملية الطبخ لعدد كبير من الناس أمر مرهق خاصة إذا كنت تؤديه كل يوم ، كانت القدور الكبيرة تلسع يدي في أحيان كثيرة ، تحولت يدي لقطعة خشب يابسة .. كنت أتحسسها و أحدث نفسي كيف سأصافح زوجي في الزيارة القادمة ؟ ، لا أنكر أن العمل في المطبخ يوفر بعض المزايا حيث كنت أسرق الملح وأضعه في قطعة قماش صغيرة لأعطيه لاحقاً سراً إلى الزميلات السجينات ، كنت أحياناً أسرق رغيف خبز ، لكن الطعام المتكرر ظل هو ذات الطعام المتكرر . الفقد واليتم ، أفتقدت طعم القهوة ، ذات يوم تسامرت مع سجانة وحدثتها عن طعم القهوة في الوحدة ، الغربة ، عند البكاء ، في الليل والصباح الجديد ، كان حديثاً طويلاً ، في اليوم التالي قدمت لي فنجان قهوة وماء بارد تناولتهما بأسى .. عند الزيارة أخبرتني ملامح زوجي كم أصبح جسدي هزيلاً ويابساً ، قال " خلف الثياب البيضاء لازلت أحتفظ في ذاكرتي بخارطة كاملة لجسدك .. لا يهم أن تحولت يديك لخشب فأنتي .. يا سارة .. غابة .. ستظلين غابة ولازلت أنا تائه فيها " ، لم أبتسم حيث أن جسده كان بادئ النحول والوهن وكأنه كان يقضي الوقت في سجن قريب.



- في أوقات الفراغ المتاح كانت السجينات يتجمعن في حلقة ويتحدثن عن ذكرياتهن ومخاوفهن ، كنت دائمة الحضور معهن حيث مضت سنوات عمري بينهن ، تحولن لأخوات وصديقات ، كنت أقوم بوظيفة الأم مع السجينات المستجدات وخاصة الصغيرات منهن ، المواساة ؟؟ .. كنت أواسي ذاتي من خلالهن ، تحدثت عن حياتي السابقة والأبن الذي كبر بعيداً عني ، كنت أود لو أحتفظ بصورة له لكن حينها لن تتوقف دموعي عن الإنهمار وكنت أخاف العمى. تحدثت عن الجارات والصديقات والأهل وذكريات كثيرة لم يكن لها وجود بل كنت أرسمها لهن لنقتل الوقت .. لم يأتي أحد ممن ذكرتهم سواء كانوا حقيقين أو متخيلين لزيارتي .. فقط زوجي.


كانت الزيارة هذه المرة خاصة حيث حدثني عن أحوال جميع من كنت أعرفهم في السابق دون أن أساله عنهم ، حدثني عن أخبار الزواج والرحيل والموت والسفر والإنجاب والنجاح والفشل لم ينسى شيئاً ، قال إنه سيروى لي رواية عن الأفراد ليتسنى لى قضاء الوقت مع قصص رائعة ، وفي غفلة من الحراس والسجانات مسح عطراً خفيفاً في عنقي ويدي .. قال " أعرف كم تفتقدين رائحة العطر " ، يومها لم أنم ظللت أحلم وأنا مستيقظة ، في الصباح تذكرت أن رائحة الموت كانت تفوح منه .



- حان آوان خروجي .. كان الوداع مؤلماً بالرغم من كل شئ ، لكنها السنوات الطويلة ، الزمن ، وجدت الزوج في إستقبالي ، وحيداً ، يقف كأنه شجرة في صحراء . في الطريق كان يحدثني عن الشوارع ومعالم المدينة و يخبرني بالتغيرات ، صامتة إستمعت إليه . حين نظرت إلى المرآه في المنزل أدركت كم غيرني السجن ، لم أعد أنا ، جلست مع الزوج والأبن في المساء كنا نبحث عن خيوط مواضيع ، المنزل بدا قديماً ، غير مرتب ، تلاشت الألوان . النوم مرة أخرى كان غريباً في البيت ، لكن نمت .. في الصباح لم أجد أحداً .. رحل الزوج والأبن ، وفي رسالة صغيرة قال " سارة .. لم أتمنى لك هذه الحياة السابقة ، سأحبك دائماً ، كوني حرة في حياة جديدة ". أشعلت سيجارة وأعددت القهوة وها أنا أنظر إلى ملامح حياتي الجديدة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -لتضامنهم مع غزة-.. كتابة عبارات شكر لطلاب الجامعات الأميركي


.. برنامج الأغذية العالمي: الشاحنات التي تدخل غزة ليست كافية




.. كاميرا العربية ترصد نقل قوارب المهاجرين غير الشرعيين عبر الق


.. هل يمكن أن يتراجع نتنياهو عن أسلوب الضغط العسكري من أجل تحري




.. عائلات الأسرى تقول إن على إسرائيل أن تختار إما عملية رفح أو