الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اختزال الوجع السوري في رواية الموت عمل شاق

فدوى درويش

2017 / 5 / 20
الادب والفن


اختزال الوجع السوري
في رواية "الموت عمل شاق"

في رحلتي لقراءة "الموت عمل شاق" للروائي السوري خالد خليفة، و التي استغرقت، الالتصاق بالموت، لعدة ساعات، شعرت خلالها بإعياء حقيقي، انتابتني رغبة بالصراخ في وجه هذا العالم.
رواية "الموت عمل شاق" هي جرعة مكثفة ومختزلة للمرارة والألم السوري، قدمها لنا خالد خليفة باقتضاب ومباشرة دون تجميل وتنميق. لكنه أثقلها بالكنايات والايحاءات الرمزية التي يسهل على السوري التقاطها واستعادة مرارتها التي لا زالت طازجة في ذاكرته. نعم كانت هناك لغة بين السطور، لغة لا يفك شفرتها إلا السوري.
في رحلتين مترافقتين، رحلة يطوف بنا الكاتب جغرافيا الوطن السوري من دمشق إلى أقصى الشمال مرورا بكل المناطق الملتهبة بنيران الحرب. حيث يقوم بلبل برفقة أخيه حسين وأخته فاطمة بنقل جثة والدهم عبد اللطيف من دمشق إلى قرية العنابية في ريف حلب، تنفيذا لوصية الوالد بدفنه قرب قبر قبر أخته ليلى التي أحرقت نفسها قبل أربعين عاماً احتجاجاً على تزويجها لرجل لا تريده. تبدأ رحلة نقل الجثة في ميكروباص يقوده الأخ الأصغر حسين ومن اللحظة الأولى يشعر الجميع بالمأزق الذي وضعهم فيه بلبل حين وعد والده في لحظة شجاعة بتنفيذ وصيته. وعرفوا كارثية الرحلة في الظروف التي تعيشها البلاد، في العام الرابع للثورة، على طول الرحلة التي استغرقت ثلاثة أيام ، كانت ثمة رحلة موازية أخذنا الكاتب عبر ذاكرة أبطاله لاستعراض تاريخ سوريا في نصف قرن الماضي. في الرحلة الأولى برفقة جثة بدأت تتفسخ وتزكم روائحها الأنوف استعرض الموت والدمار العبثي المنتشر في البلاد، مدن وقرى مدمرة ومهجورة من سكانها، الجثث المرمية على أطراف الطريق والكلاب تنهش فيها ( القتلى في كل مكان، فيدفنون في مقابر جماعية) والقناصة المتأهبون لصيد كل من يخطأ بوصلة حدوده، الموت بكافة أشكاله القاسية والتي بدا موت عبد اللطيف مقارنة بها رفاهية يحسده عليها الأحياء، الحواجز العسكرية لجميع للفئات المتقاتلة على اختلاف أشكالهم حواجز للنظام حواجز للجيش الحر وأخرى للكتائب المتطرفة ذات الوجوه الغريبة عن البلاد، أصوات القصف والطيران والاشتباكات والقذائف والصواريخ التي تسقط هنا وهناك. كثف الكاتب المشهد السوري وقدمها للقارئ في طريق استمر ثلاثة أيام ،حيث يعيش السوري في كل لحظة وفي كل بقعة من البلاد على مفترق ثوان من الموت، الحواجز و الخوف من البطاقة الشخصية التي تشي بانتماء طائفي لا يروق لاصحاب حاجز معين حينها لا يساوي الانسان أكثر من رصاصة في الرأس تشفي أحقاد الانتقام .. روح الانتقام الذي طال الجميع دون استثناء.
أما في رحلة الذاكرة التي يعود خليفة بنا إلى تاريخ البلاد لأكثر من أربعين عاماً من خلال ذواكر شخوصه الذين يشكلون عائلة مفككة، أفرادها مثقلون بالأوهام والهزائم والانكسارات والخسارات لا شيء يجمعهم سوى تلك الجثة والطريق الذي ارتادوه مكرهين (أصبحت جثته وسيلتهم الوحيدة لانقاذ أنفسهم، تثير التعاطف أحيانا وتبرر وجودهم معاً على هذا الطريق كان فرصة حقيقية لاختبار مستقبل علاقتهم كأفراد عائلة واحدة). إنه نموذج العائلة المنقسمة على ذاتها المبنية على الصراعات الداخلية والنفاق الخارجي هي اسقاط لنموذج الدولة التعسفية القمعية المهشمة من الداخل والمتفاخرة بوحدتها وتماسكها من الخارج، هذا النفاق الذي اتكأت عليه سوريا لأربعين عاماً ينهار عند أو اختبار وها هم السوريون يغرقون بعد انهيار السد الذي بنته الدولة من الخوف والترهيب، هاهم يدفعون ثمن أربعة عقود من الصمت والأوجاع المتراكمة. كما دفع أبناء عبد اللطيف الثمن في رحلة الموت.
كانت نماذج أفراد عائلة عبد اللطيف معبرة عن نماذج السوريين إلى حد كبير. ابتداءً بالأب عبد اللطيف الرجل السبعيني الذي ألتحق بالثورة كرد اعتبار لانتمائه البعثي في شبابه وعن خسارته لحبيبته وعن خذلانه لأخته ليلى التي راهنت عليه كرجل ذي فكر متحرر، يحميها من جور عادات العائلة التي أجبرتها على الزواج برجل لا تريده وكان أن أضرمت النار بجسدها ليلة العرس على سطح المنزل لتبقى صورتها معلقة بذاكرة عبد اللطيف، تذكره بخذلانه وجبنه. الثورة كانت فرصة ليتطهر بها من كل هزائمه، أصر على البقاء في البلدة (س ) في ريف دمشق المحاصرة التي استقر فيها بعد أن ترك العنابية، عمل مع حبيبته القديمة نيفين مع الثوار بشجاعة منقطعة النظير تحول إلى حارس لحائق الشهداء يزرع الأشجار والورود ويؤرخ تفاصيل كلا منهم لكي لا يكونوا مجرد أرقام . استعاد حبه بعد أن رمى مقتنيات زوجته أم نبيل وثيابها التي كان قد احتفظ بها بعد وفاتها وتبرع بكل شيء للمحتاجين، بعد زواج دام أربعين عاماً مع أم نبيل تبين له أنه لم يحبها يوما وأن الظروف أجبرته على الاستمرار معها. وربما هي رمزية لارتباط سوريا بحكم الأسد والذي بدا من الخارج بالدولة المستقرة و المتماسكة.
أما بلبل، الموظف الذي اختار العيش في حي تابع للنظام، يجهد لكي لا يرى أحد من جيرانه هويته (أصبحت الهوية الشخصية كارثة حقيقية، اختفى الالاف دون أي أثر فقط لانتمائهم إلى مناطق معارضة) يحاول أن يسير على خطى والده ( المثقل بالمثاليات) يعيش أحلام اليقظة بعد أن تحطمت كل أحلامه. رغم كل شيء يسجل له تنفيذ وصية والده في دفنه في العنابية في قرار شجاع. هو نموذج للسوري المسالم والمستسلم لا يعنيه من كل ما يجري سوى العيش بهدوء، لذلك اختار العودة إلى بيته في دمشق بعد أن كان قد قرر العبور إلى تركيا(كأنه جرذ كبير يعود إلى جحره البارد، كأن لا لزوم له ومن الممكن التخلي عنه ببساطة).
فاطمة الأخت، المرأة الأربعينية الضعيفة التي فقدت حلمها بالثراء من زواج مُني بالفشل، حتى أنها لم تمتلك صفات أمها لتأخذ دورها في لمّ شمل الأخوة المتخاصمين. تفقد صوتها في نهاية الرواية كما فقدت معظم السوريات أصواتهن في المشهد السوري. أما حسين الذي اكتفى الكاتب بتعريفه بالابن الطموح الاحمق والمتهور الذي لا زال حاقدا على الأب حتى بعد مماته ومستعد برمي جثته على الطريق. هو الذي ترك الدراسة وتحول إلى سائق لراقصات روسيات كأقرب طريق لجمع الثروة والنفوذ مما تسبب في قطيعة بينه وبين والده.
لم تخلو الرواية من شخصيات إيجابية كأن الكاتب يريد أن يترك لنا فسحة أمل ويقول أن الثورة مستمرة رغم كل هذا الشقاء والموت، لميا حبيبة بلبل القديمة المرأة التي شاركت المظاهرات منذ البداية عملت لأجل الثورة حتى النهاية، حولت بيتها مع زوجها إلى مأوى لعشرات النازحين تقدم لهم العون بحب دون تردد. كذلك الطبيب الذي صمد في دمشق واستمر في معالجة الجرحى من المعارضة مؤمناً بانتصار الثورة، (أبناء الثورة في كل مكان).
الموت عمل شاق، رواية لم تنتهي بدفن جثة الأب، فلا زال الموت كالطوفان يحيط بالجميع، ولا زال السوريون سائرون في الطريق للتخلص من الجثة المتفسخة، يعانون الروائح الكريهة والديدان التي تخرج من قيح الجثة لتطال الجميع. لم يصلوا بعد إلى مقبرةٍ لدفن جثة ماض أرهقهم. لا زالت الحياة تناطح الموت.

فدوى درويش








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب