الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التيه ، رواية ، الجزء الخامس

محمد شودان

2017 / 5 / 25
الادب والفن


دارت بين أحمد وذلك الشخص كلمات قليلة وإشارات كثيرة، وبعدها سمع الرجلَ ينادي من باب دار كانت خلفه على شخص يدعى "الطيب".
تراجع أحمد خطوات إلى أن حاذى إدريس، فوقف إلى جانبه، رجلا لرجل، طبعا لولا أن أحمد أقصر قامة، وظهره أميل إلى الانحناء.
ــ إنه هنا، سينزل، وأرجو ألا يكون مخمورا.
ــ إن كان ثملا، فأظنه سيكون كريما، سل صاحب التجربة.
ألقى كلامه هذا كالنكتة وضحك، فرد عليه احمد بابتسامة رزينة، ثم قال:
ـ إلا هذا الخبيث، فإن المال عنده أهم من أهله، وقد بلغني عنه أنه باع شرف زوجته، نعم، كان يقدم زوجته ويأخذ الأجرة، صدقني.
أظهر إدريس امتعاضه من الأمر، ما شجع أحمد فأضاف:
ــ لقد كان سائق تاكسي، وحدث أن ركب معه واحد من أصحاب العمائم، من أولائك الخليجيين ناشري الفساد، أخزاهم الله، لقد كان من زبنائه، وما إن يأتي إلى المغرب حتى يهاتفه ليكون سائقه الخاص، وفي يوم من الأيام...
خرج رجل أسمر من الدار، فعرفه أحمد وقطع الكلام، ثم اتجه صوبه وهو يقول لإدريس:
ــ إن للحديث بقية.
راقب صديقه وهو يصافح الرجل، ثم وهما يتبادلان حديثا قصيرا وخافثا، لم يسمح له موقعه من سماع ما دار بينهما، لكنه تحرك قُدُما نحوهما لما التفت أحمد إليه، وكأنه يناديه ليلحق بهما، فاتجهوا جميعا نحو باب الدار، وصعدوا سلالم ضيقة تكاد لا تتسع لأكتاف شخص واحد.
عند الالتفاف الأول من السلالم وجدوا بابا خشبيا مشرعا، فدعاهما للدخول بصوت مُحَشْرَجٍ، خرج من حلق جرحته كثرة المخدرات والكحول.
يتكون البيت من غرفة مغلقة، وصالة صغيرة، ومطبخ مكشوف على الصالون، ومرحاض لا بد أنه ضيق.
كان في الصالة صندوقان كرتونيان كبيران، فتحهما الرجل على مهل، فانحنى أحمد إلى واحد منهما وشرع يُخرج الكتب ويشمها. ضحك منه الرجل وهو يقول: هل ستأكلها؟ فأجابه بنبرة حادة أن "لا"، ثم عقَّب:
ـ ولكني أشم في الكتب رائحة نتنة نتجت عن الرطوبة، ورطوبة البحر تؤثر على الأوراق، فحتى لو لم تصفر أوراق هذه الكتب، فلا بد أنها ستتأذى بمجرد خروجها إلى الشمس.
قال هذا بلسان حادٍّ مما جعل إدريس يعتقد أنه سيتخلى عن الصفقة نهائيا. تغيرت ملامح الطيب، واكتسى كلامه نبرة طريفة، وأظهر منذ البداية أنه مستعد لخفض الثمن، ففهم إدريس أن المسالة تدخل ضمن تقنيات التفاوض التي يتبعها صديقه، لذلك ترك الأمور تجري كما شاء لها صاحب الحرفة.
راح يجول ببصره في البيت، فلفتت انتباهه لوحة موضوعة على الأرض؛ لقد كانت متسخة، فقصدها ومسحها بمنديل كان في جيبه، ثم تحسس اللوحة بأصابعه فوجد أنها من كتان مطلي بصباغة زيتية؛ تتوسط اللوحة امرأة، وهي تحمل قربة تبدو فارغة، وقد تدلى الثوب من أعلى رأسها، لكنه يكشف عن ثديها؛ يتوسط المقطع الجانبي للمرأة اللوحة من أعلاها إلى أدناها، وأمامها في زاوية اللوحة شمس كأنها تصارع السحاب حتى لا يغطيها، أما خلف المرأة، عند حدود ركبتها، فيبدو جمع غفير كأنه يتبعها على أرض صفراء قاحلة، لا يصل إلى أغلبهم من الشمس إلا ظل القربة ويد المرأة وتفاصيل وجهها وظلال السحب، كانت كأنها عملاق حاف القدمين يجر شعبا من الأقزام بحثا عن الماء، وكلهم منهك في السير بكد، تبدو وجوه أغلبهم مسودة لا ملامح لها ولا تفارق الأرض، وقلة قليلة منهم يتطلعون إلى الشمس فينعكس ضوؤها على وجوههم.
ــ هي للبيع، إن أعجبتك، رسمها فرنسي كان يعيش هنا، ولما توفي أفرغت السلطات البيت، ولكنهم تركوا هذه اللوحة، ربما كان يهوديا؛ اقرأ أسفل الصورة، إن تلك الحروف العبرية تعني "التيه".
انتبه إدريس فوجد أن الرجل كان يخاطبه هو، فشعر كأنه قد أمضى وقتا طويلا وهو يتأمل الصورة، رفعها فوق ليصل الضوء أسفلها، فبرزت حروف ملتوية تحت قدمي المرأة الحافيتين.
لم يستطع الرد، إذ تملكت الصورة كيانه من حيث لا يدري، فتسمر واقفا، وهنا تدخل أحمد لما رأى الذهول في وجه صديقه، ولأنه بارع في عمله، فقد أخذ الصورة دون أن يدفعا ولو درهما واحدا؛ على أن يتم احتسابها واحدة من الكتب.
تركا كل شيء عند واحد من الباعة في الساحة، وهو من معارف أحمد؛ على أن معرفتهما كانت على المستوى التجاري فقط، وكانت بينهما ثقة كبيرة وتعاون منقطع النظير:
فصديقه هذا، وهو رجل طاعن في السن، يتاجر في آنية النحاس القديمة وكل ما هو قديم، وغالبا ما يتعامل مع أصحاب البازارات والمتاحف، فلا يتكل على رواد الساحة إلا لجمع سلعته، وهكذا، فإن عثر أحمد على ما يصلح لصديقه فإنه يشتريه، وإن لم يكن معه مال فأقلها يهاتفه في شأنه، وكذلك فعل النحاس لما علم بشأن الكتب.
في الطريق أعاد أحمد لإدريس مائة درهم، مخبرا إياه أنه لم يعط صاحب الكتب إلا أربعمائة، واتفقا على أن ينفقا تلك الورقة النقدية في ذلك المساء.
ــ هل تعلم؟ لو اطلعتَ على الكتب لكنت قد فضحتنا، لقد حمدت لله انشغالك بالصورة، تلك ليست سلعة، إنها كنز، فيها كل ما سيروقك من الكتب؛ الروايات والقصص، وديوان شعر في الحب أيها العاشق...
ــ لا بد أنك قد قضيت زمنا ليس باليسير في بيع الكتب.
ــ منذ استقر بي الحال هنا.
ــ وليس معك مال؟ ولا أربعمائة درهم؟
ــ أفهم إلى ما تلمح، أنا لا أبيع الكتب لأربح، ولا لأضخم تجارتي، ولا حتى أتاجر لأبني مستقبلا، أنا فقط أقضي سويعاتي، وبعد موتي، لا بد أن أحدهم سيرغب في شراء الجنة بثمن قبر وكفن.
ــ عندي اقتراح يا أخي أحمد؛ أولا، أنا متيقن من حبك للكتب، ولكن، لم لا نجعل الكتب...؟، لا أدري كيف سأوصل الفكرة! أنا لا أريد أن أرغمك على جعلها ثانوية في حياتك، ولكن كما ترى، بإمكانك أن تبقى مع الكتب على أن تنوع مصادر دخلك، فالناس هنا لا يقرؤون، هم فقط يأكلون، ويتباهون باللباس والممتلكات الترفيهية؛ ساعات وهواتف و غيرها، أما الكتب فسلعة بائرة يا أخي.
ولكن هذا لا يعني أني أطلب منك إهمالها في كل الأحوال، أرجو ألا تسيئ فهمي،
انتشله أحمد من محاولات شرحه بكلمة صارمة:
ــ "ما اقتراحك؟"
وجد إدريس الطريق معبدة، فاقترح عليه أن يتعاونا؛ يضمان فرشتيهما وجهدهما؛ فيختص إدريس بجمع الأحذية والساعات والكتب وصنارات الصيد، وكل الأشياء الرائجة التي يرى أنها صالحة للبيع، بأن يطوف من أجلها الأسواق والسويقات المتناثرة في الأحياء المختلفة من مدينتي سلا والرباط، على أن يهتم أحمد بالبيع.
ضحك أحمد في قرارة نفسه، وقال له:
ــ سأخبرك بأمري الليلة، وبعدها سنرى إن كان ذلك ممكنا، ولكن دعني الآن أكمل لك قصة ذلك الرجل مع زوجته والخليجي:
من كثرة زيارات الخليجي للمغرب، وخدمة الطيب له كل مرة، تطورت بينهما علاقة ودية، ولطالما تبادلا النكت والمجاملات. في ذلك اليوم، وجد الطيب أن زبونه في مزاج رائق، ولما سأله عن السبب أخبره أنه قد ربح صفقة مهمة، طال الحديث بينهما في الطريق من المطار إلى الفندق وطاب، فأطلعه الخليجي على رغبته في امرأة مغربية ليقضي منها وطره تلك الليلة، على أن تأخذ هي عشرة آلاف درهم، ويأخذ السائق ألفا.
وما إن سمع الطيب الذي غلب الطمع على طباعه المبلغ حتى زاغ عقله.
ــ لا تقل إنه....
ــ والله، والمشكل العويص، بل والطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، أنه في صباح اليوم التالي، جاء ليأخذها من الفندق إلى البيت لكنهما لم يصلاه.
ــ بألف مصيبة! ما حصل للديوث؟
ــ يقال، والعلم لله، لكنه خبر شائع، أنها ركبت إلى جواره، وما إن دارت عجلات السيارة حتى طالبها بالمال فرفضت، ذلك أنه طالب بثلثيه، ولما أصرت على الرفض تنازل وقنع بالنصف، وهكذا دواليك، ولكنها ظلت ترفض كل عرض، وتتعلل بأنها هي التي استحقت المال، فقامت قيامتهما.
ولما كان خصامهما شديدا، فقد أوقفهما شرطي المرور ليستوضح الأمر، وهناك فجرت زوجته القضية أمام الشرطيين والملأ.
ثم ختم حكايته بلسان ساخر:
ــ حينها جن جنون الطيب، فضربها... وعوض أن يأخذ المال الحرام، سجن بتهمة الخيانة الزوجية والتشجيع على الدعارة وغيرها.
ــ ولا زلتم تدعونه "الطيب"؟!... ذلك الخبيث !
كانت جولتهما في شوارع العاصمة قصيرة؛ فمع لا إله إلا الله من آذان العشاء كانا نازلين من سيارة الأجرة البيضاء، فحملا أثقالهما إلى البيت، ووضعا السلعة في غرفة أحمد، ولما شرع هذا في فتح الصندوقين والكشف عن الكتب كان إدريس يستعد للخروج لأجل ملاقاة فاطمة.
ــ لن تخرج يا إدريس، هل نسيت مخططنا؟
نظر إدريس إلى وجه صديقه، تأمله فوجده محبورا وسعيدا على غير عادته، فلم يشأ أن يعكر صفوته، فكر أيضا أن من حقه الاستمتاع، وخاطب نفسه مطمئنا:
ــ من يدري؟ ربما فاطمة هي الأخرى تخرج مع الرجال، وهذا مما لا بد منه، ولا شك فيه، لا يمكن أن تبقى...، وفي هذا الوسط، أبدا لا يمكن، فهي تسكن دون أسرة تردعها أو أقلها تراقبها، أضف إلى ذلك أنها تشتغل في المقهى، بين الرجال...
إنها كفاكهة التين؛ تلين قبل وقت نضوجها من كثرة الأيادي اللامسة، فما بالي بالتي تسمع من الكلمات العذبة والإغراءات ما لا يعد ولا يحصى... ، حتى لو عاشت مريم العذراء مثل هذه الظروف ما كانت لتحصن فرجها!
ابتسم للفكرة أولا، لكنه تدارك فاستغفر الله على ما وسوست له به نفسه في الأخير.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا