الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التيه ، رواية ، الجزء السادس

محمد شودان

2017 / 5 / 26
الادب والفن


استغفر الله مرارا وتكرارا وهو ملتفت إلى كتفه الشمالي، كأنه يستعطف ملك شماله الذي يسجل السيئات، وهذا ما قرأه في كتاب صغير؛ قرأ أن لكل إنسان ملكان: فالذي على اليسار يسجل السيئات، والذي على يمينه مختص بتدوين الحسنات.
قرر أن يفاتحها في الأمر يوما ما، ثم تساءل:
ـ ولم هذا كله؟ إن علاقتنا سطحية رغم عمقها، فكلما تمعنت في حدود علاقتي بها، لا أرى فيها إلا وجها آخر لمعاناتي، الوجه الأنثوي، نعم تبادلنا القبل تلك الليلة، لكن، دون سواها. وها نحن نلتقي لأزيد من شهرين؛ بعد فراغها من العمل، تجدني أمامها كسائقها الخاص، نتمشى قليلا، ثم نتحدث في أمور عدة، لكنها لا تخرج عن إطار المعاناة.
أخذ اللوحة بين يديه بينما كان أحمد يرتب الكتب حسب نظام ما، نفخ عليها ليزيل الغبار العالق والذي لم يمسحه المنديل، ثم سأله عن المبلغ الذي يريده مقابل اللوحة، وما هي إلا أن نطق بالكلمة الأخيرة حتى قال أحمد:
ــ مليون سنتيم للمرأة في اللوحة، وألف درهم لي حلاوة.
تعالت ضحكاتهما عقب النكتة التي أُلقِيَتْ، ومنذ ذلك الوقت واسم الطيب رمز بينهما للتكنية على كل ديوث يبيع زوجته أو بناته، ويتعيش من مرق الخيانة.
ومثل هؤلاء موجودون بكثرة في ذلك الحي الهامشي، وفي غيره، وقد ساعده أحمد في ما بعد على اكتشافهم ورصد فعالهم المشينة؛ إذ ترى الرجل بشاربه الكث يرسل بناته أو زوجته قبيل المغرب ووجهها كاللوحة بالزينة والتبرج، ويتلقفها أثناء عودتها ليأخذ المال.
والأدعى للحرقة والأسف أن ذلك المال يعود عبر قاطرة القمار والمخدرات إلى جيوب الأغنياء الذين كانوا قد استغلوا تلك النسوة، فالمرأة التي تخرج لتلك الأغراض غالبا ما تقف في الطريق كأنها تنتظر أحدا، وهكذا تتصيد المكبوتين من أصحاب السيارات الفارهة.
سارا بين البيوت الوطِئَة في الظلام؛ فاخترقا عدة أزقة ضيقة، أزقة تفوح منها رائحة البول والعفن، وتوغلا في الحي الصفيحي كثيرا، وكلما زاد تقدمهما في الأماكن التي لم يسبق لإدريس حتى التفكير في الوصول إليها، زاد انتشار الروائح الكريهة.
توقف أحمد عند باب قصديري وطئ، يبدو الباب قصيرا جدا، ولكنه كان منغرزا في الأرض من الداخل، بحيث لا يمكن فتحه إلا بجذبه من قِبل سكان الدار. وإطار الباب من الخشب ووسطه من صفيحة من الزنك.
تساءل في نفسه عن أحوال هؤلاء في الشتاء، أو كيف يكون حالهم لما يفيض الواد الحار؟ والواد الحار، هو اسم قنوات مياه الصرف الصحي.
بعد طرقات خفيفة من كف أحمد، جاء الصوت متحشرجا تخبرهم صاحبته أنها قادمة.
فُتح الباب، فانبعث من الداخل ضوء خافت ورائحة ثقيلة؛ اختلطت فيها رائحة المرحاض برائحة مخدر الحشيش، وربما الخمر وغيره.
لما انفتح الباب أطلت امرأة في حدود الخمسين من عمرها، كان ذقنها مغطى بلحية خفيفة، وفي شفتها العليا سطَّر الشعر شاربا خفيفا عند حدود الأنف وكثيفا في الأطراف، ملامحها أميل إلى الذكورة أكثر، ولولا صدرها المتدلي لظنها الرائي رجلا.
تطلعت إلى وجهيهما فتعرفت على أحمد لما دعاها باسمها "يمنى" وصافحها، فدعتهما للدخول، علم من بعد أن تلك النظرات المتفحصة ليس الغرض منها معرفة الزبون بل تحريه إن لم يكن شرطيا سريا أو جاسوسا؛ فإن كان زبونا معروفا أو محتملا سمحت له بالدخول، وأما إن كان شرطيا فإنها تمنعه وتصيح بأعلى صوتها، وتلك إشارة كافية لتهرب البنات عبر السطوح.
انحنى إدريس وهو يتجاوز الباب، تفاديا لأي اصطدام مع العتبة القصيرة، ثم دلفا نازلين درجا طينيا. تبعا المرأة من خلف، فسارا بضع خطوات في ممشى ضيق ومكشوف بدون سقف كأنه زقاق، ثم دخلا من باب آخر، فوجدا نفسيهما في فسحة مغطاة بصفائح القصدير التي رصت فوق ثلاثة جذوع من شجر الصفصاف وعمودين حديديين كأنهما اقتلعا من سكة قطار، كان السقف قريبا من رأس إدريس، لا تفصله عنه إلا بضع سنتمترات وأقل من الشبر، ولو كان أطول قليلا لفرض عليه الانحناء... وكان المصباح الوحيد متدليا من الحائط المقابل، وفي الفسحة تجمعت قرابة الست بنات كما قالت رئيسة المبغى يمنى:
ـ مرحبا بك يا أحمد، أنت وضيفك، الليلة عندي ست بنات، فاختارا على أعينكم.
لم يستسغ في البداية تسميتهم "بنات"؛ فإن منهن من دنا عمرها من عمر يمنى أولا، ثم لأن لفظ بنت يطلق في بعض المناطق على غير المتزوجة، وفي مناطق أخرى على العذراء فقط، وكذلك لأنهن لسن جميعا إناث، كما سيعرف تلك الليلة، ولكنه ظل يدعوهن فيما بعد "بنات"، لأن صاحبة المبغى كانت تنادهم هكذا، وهو سبب كافٍ.
طالبتهم يمنى بالدفع مسبقا، وقد تكلف أحمد بكل شيء تنفيذا لاتفاق سابق قبل خروجهما من دار مي طامو، وفي لحظة، قرب إدريس فمه من أذن صاحبه، ووشوش فيها بكلمات، فحرك هو رأسه موافقا.
في تلك الأثناء، كانت قد قامت إحداهن بعدما أطفأت آخر ذبالة من سيجارتها، ففطِن إدريس بسرعة إلى أنها ربما تعتبر أحمد زبونا خالصا لها، لذلك تقدمت نحوهما بدلال، رغم أن خصرها كان أكبر من أن يساعدها على تبخترها، فأخذته من ساعده، وتبعها هو دون مقاومة.
بعد دخول أحمد وصاحبته إلى غرفة مظلمة، بقي إدريس وحده مدة، وقف حائرا، كالذي ينتظر قدَرا لا راد له، وللحظة ودَّ لو أن واحدة تقدمت نحوه، كيفما كانت.
لكن ذلك لم يحصل، فقد كن منشغلات في تدخين لفافة الحشيش، أما يمنى فقد دخلت المرحاض بمجرد تحصيلها المال في جيبها، وسُمِع صوت صفير بلبلها وأبواق أمعائها من الداخل.
تصبب جبينه عرقا، وكاد ييأس ويرتد على عقبيه خائبا لولا أن نهرتهن ذات الشارب وهي خارجة من المرحاض:
ــ فلتقم إحداكن مع الشاب
تعالت الضحكات وقالت واحدة من بينهن:
ــ هو لم يعين ولا واحدة!.
ثم قامت متوجهة نحوه، حتى إذ كانت بجانبه أضافت بدلال:
ــ من منا تريد؟ ما بك؟ لست في مقام الصلاة.
ثم انفجرت ضاحكة وهي تنزل بأناملها من خده إلى كتفه، وجعلت تجره نحو غرفة أخرى.
قد كانت لتبدو جميلة، أو أقلها مقبولة لو لم تتحدث فتكشف عن أسنانها؛ أسنان سوداء، وبعضها مفقود من كثرة التسوس، إنها في وضع لا يغري بتقبيلها، وما الجنس دون قُبَل؟
اعتذر منها بلباقة وهو متسمر في مكانه، ثم، ولتفادي الإحراج أشار إلى واحدة غيرها؛ تبدو نحيفة وشعرها الأصفر مصفوف بعناية، فقامت بعناية ودلال في حين قالت الأخرى وهي عائدة إلى مجلسها:
ــ هكذا إذن، وضح مبتغاك من البداية، وكنا سندلك على صوفي الجميلة.
دخلت به صوفي إلى غرفة ضيقة ومظلمة كالزنزانة، فنزع إدريس قميصه على عجل، وكذلك فعلت هي، كان نهداها صغيرين، ولكنهما مغريان وشهيان، تبادلا قبلا طويلة على الطريقة الأوربية، ولما بلغ به الهياج حدا لا يطاق نزع سرواله واحتضنها بذراعيه، فتمنعت قليلا، ولكنه أنزلها بحركة تحته على الفراش، تعنتت حتى تمكنت منه، فدفعته من فوقها وقامت، فأزالت سروالها وتبانها في الظلام، ثم تقدمت نحوه.
ما هي إلا همهمات وحركات سريعة منهما في عز الظلام، حتى قام وهو يصرخ كالملسوع، فجاء الصوت من الخارج ساخرا.
ــ ماذا هناك؟ هل انقلبت الأدوار؟
ثم خرج وهو يسب ويبصق ويصيح بأعلى صوته:
ــ إنها ليست امرأة، هذا شاذ،
عم الصراخ المكان، ثم خرج الشاذ بعده وهو في لباس داخلي نسائي، ولكنه كان فاقدا شعره الاصطناعي، فبدت مقدمة رأسه صلعاء، ذلك أنه ربما يكون قد جاوز الثلاثين من عمره، فثار عليه إدريس بالضرب والبصاق لما اقترب منه.
تدخلت يمنى وباقي البنات فنزعن الشاذ من يد إدريس، الذي كان قد أشبعه ضربا تحت نور المصباح بعدما أشبعه حبا في عز الظلام قبل ذلك بقليل، عاد أحمد أدراجه فزعا لما سمع صوت صديقه، إذ كان ينتظره عند الباب كما اتفقا.
ورويدا رويدا، دب الهدوء قليلا، لكن الرئيسة رفضت إرجاع المال لإدريس بداية، ثم، وبعد تدخل أحمد سمحت له بالدخول مع واحدة أخرى وهي تزمجر وتسب الرب والسلطات والمال.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية