الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحمد الحمود شاعر الاختلاف والمغايرة

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 5 / 26
الادب والفن



ما أقوله هنا ليس قراءة لشعر أحمد الحمود، فأنا شخص لست معنياً بممارسة النظر النقدي. إذ الشعر في رأيي لا يُفٓسرْ ولا يقبل التفسير ولا يتطلبه ، الشعرُ فعل عاطفة مشحونة بتجربة الحياة وكينونتها ، ولا أزعم أني قادر على تفسير المشاعر، أنا فقط أحاول التأمل وهذا يكفي.. فأنت لا تستطيع مثلاً، أن تفسر الحب، لكنك تقدر أن تعيشه، تحايثه، تحسه، وتفقده أيضاً..وهذا شأن شأن الاعمال الموسيقية العظيمة لا تستطيع فهمهما لكنك تحياها تحس بعبيرها، وتتنفس هواءها العليل.
حين يتناول أحدنا تجربة صديقاً له. فهذا يعني بالضبط تسجيل إنطباعته لهذه التجربة محاورتها وتلمس عناصرها الجمالية والفنية ، دون أن تكون هذه الانطباعات مرشحة لمقاربات النقد العلمي. أو الصوابية المطلقة. ذلك يبدو ضرب من حوار النفس الباحثة. وفي مثل هذه الممارسة أن تبحث أكثر خيريةً من أن تجد.
إذن هي مقاربة تهبك فسحة من الحرية في البحث عما هو كامن وبعيد في تجربة صديقك الشعرية وإنزياحات هذه التجربة كما عرفتها وعايشتها...
من هنا أتمنى أن تسهم هذه المقاربة في توسيع دائرة النظر لهذا الشاعر الجميل والمثقف المبدع على مستوى محيطه ...
في شعر أحمد سمة إنحراف لغوي ودلالي تنطوي على قدر كبير من التجريب القائم على بذر الفتنة داخل نصوصه. ليست الفتنة الجميلة على صعيد المعاني حيث حريات الفعل والبوح فقط، لكن الفتنة تأتي على صعيد اللغة، فهناك حريات العلاقات اللغوية وهندسة الشكل وتدفق الكلمات والحروف وسيال المعاني، بما يكفل لتداعي الصور الشعرية المباغتة وغير المتوقعة، وهيام الشاعر بالشكل جعل لفتنة قصيدته طابعاً من السحر، ولعل ما يثير الفتنة دوماً - حسب تعبير الشاعر أدونيس هو ما يكسر نظاماً ويدفع إلى النفاذ داخل حدوده .. لكننا ينبغي أن نتميز بالحذر تجاه هذا الإغواء، الخطير فليس كل اختراق للحدود، أو نقض لقاعدة هو بمثابة جدارة بإنجاز القصيدة . لأن شرط الجمال الشعري هو الذي يعطينا فرصة اكتشاف نجاح هذا النص من عدمه.. أحمد يكتب قصيدة بشكل مختلف ومغاير وبسياق يضمن تبدل المعنى، و في أحيان كثيرة تشظيه.. كثيرون هم الذين يعتقدون أن المشكلة المعرفية، على صعيد الثقافة والنقد الأدبي العربيين، تتمثل في أن النظرة المهيمنة، تلك التي لا ترى إلى الكتابة الإبداعية باعتبارها فنّ الشكل، ولكن فنّ المضمون. وإذا كان هذا صحيحا (وهو ليس كذلك ) لنا أن نسأل ما الذي يميّز شاعراً عن آخر، إذا كتبا في مضمون واحد؟ ..إنه الشكل ، أي الشكل الذي يحمل المضمون ويحيل إليه ، ويُعنى بالصورة عناية بالغة وكذلك وبالموسيقى الداخلية ، والتي هي غير الموسيقى التي تفرضها الأوزان والتفعيلات ، وإلا كيف يمكننا أن نفهم ذلك القول المأثور، الذي يشير إلى أن الموضوعات مبذورة على قارعة الطريق، لكن ، مرة أخرى ، ماهو الشكل ..؟ هل هو مغامرة الشاعر الخاصة والمتفردة في مملكة القول والحياة، إن ثابت الشكل لدى الشاعر يؤدي به إلى الوقوع في شراك كثيرة لا ينجو منها أبداً تستنفذ أسلوبه وتقتل تجربته الشعرية.. وشكل القصيدة هو ما يجعل الصورة عند أحمد متعة وتوق وتشوف ، و ليست أداة فحسب ، وهو إذا لم ينظر إليها على هذا النحو فإنه لن يقدر على توفيرها للنص، وبالتالي للقارئ. والمفردات تتبادل مواقفها مع السياق الصوري والموسيقي تستقيم في الان نفسه مع منطق بلاغي مألوف. فالمألوف يجاور المعنى ولا يخترقه . وعنايته بشبكة العلاقات البلاغية الاسرة سوف يجعل مثل هذه الصورة تنحرف عن مدلولاتها المتوقعة، وتنزاح قليلا أو كثيراً كيما تخترق السياق، مشحونة بطاقة إيحائية خصبة، تستدعي مخيلة القارئ مرة تلو الأخرى. كأن هذا ترف هندسي لدى مهندس مبدع !! الهندسة العبقرية غالباً ما تشير إلى اقتصاد في المساحات وتنفتح على الفضاء الداخلي والخارجي ، وهي علم ضد الترف والمجازفة وليست محصنة ضد الخطأ أبداً، كقانون يقوم على اقتحام الخطر، وهذا شاعر يبني قصائده بخطوط مائلة ومستقيمة ورسوم وفراغات وإنثناءات وزوايا ودوائر .. ثم يلقيها في النار حتى تتحول إلى رماد كي لا يبقى منها غير خيالات وأشباح وضلال ، الشعر لدى أحمد شكل هاجساً حياتياً وطريقة حياة، فهو بغير الشعر عرضة للخسران والعطب والفضيحة أيضا، فطوال الوقت، ومنذ أن بدأت علاقته بالكتابة الشعرية ، وجد نفسه منسجماً مع قناعة كون الشعر هو حياته الحميمة وطريقته في النظر والعيش في هذا الكوكب. فليس من المتوقع أن يفهم معنى أن يكتب الشاعر شيئاً ويمارس شيئاً ويرى شيئاً ويتخبط في أشياء أخرى. مثل هذه النقائض قد تكون لعبة الخارج، لكن هناك، في الأعماق كان يعتقد بضرورة وضوح وصرامة وصراحة الرؤية حد الدم.

وسمة ثانية تطبع شعر أحمد هي إحتفاؤه بالمعنى على نحو مغاير وسياق مختلف، ففي كل قصائده التي قرأتها، ثمة اتصال بالاحتمالات الرحبة ونزوع شعري لتعددية المعنى في ضوء رؤية شاملة وعميقة. فالمعنى لديه هو استجابة القارئ لمخيلته، الصادرة عن تجربته الذاتية، وهي تحدّق في الصورة الشعرية منسابة متدفقة في مسالكها، أو متهادية مثل مطر الصباح.

وهو شاعرٌ لا يكتب عارياً من الذاكرة أو بعيداً عنها ، ولا يصوغ صوره مقصياً مخيلته أو مخيلة قارئه المحتمل، فالشاعر المبدع ليس آلة كاتبة تصدر عن الغيب وتذهب إليه وعنه، بل نبع أسرار كثيرة تمنحها طاقة نصه الكامنة قدرة على التمثل في حيوات أخرى بواسطة قارئيه ، فالمعنى هنا ينبثق، منذ اللحظة الأولى، بوصفه جذر الحياة، ليصير إلى أشار كثيرة و غصون تتفرع كلما تنامت واتصلت بحياة هذا القارئ أو ذاك. وبهذا الشكل يأتي المعنى دائماً فيما بعد، وهو المعنى الذي يتغذى من لحظة الانبثاق الأولى المتوفرة على جذوة التجربة، ليتحول إلى أفق رحب من المعاني بعدد القراء، وبتعدد يضاهي الصدى في خبايا وأدغال النفس البشرية.

عند أحمد يصير المعنى اقتراحاً وأفقاً ورؤية وحساسية . فليس في نصوصه معنى منجز يمكن أن يفهمه الجميع بصورة واحدة، فالقارئ سيكون أمام أشياء متناثرة عليه أن يقوم بإعادة بنائها ، بالصيغة التي تستجيب مع حساسيته الخاصة ونشاط مخيلته وحالته النفسية لحظة القراءة. وقارئ على هذه الشاكلة هو الذي يجعل من النص درجاً يأخذه إلى أغوار النفس العميقة أو يثب به إلى أعلا .. نحن القرّاء ، الذين تقع على كاهلنا مهمة القيام بالعملية الحيوية التي تعيد الصور إلى جذورها، من حيث هي البذرة التي رافقت الشاعر لحظة كتابة النص، وليس التجريد في النص الأدبي سوى علامات وإشارات وتهويمات في طريق يصوغه الشاعر باللغة ويكتشفه القارئ بالمخيلة. ليس ثمة فكر يقود القارئ في أدغال نصه ، أحمد الحمود .. ليس واضع أفكار، لكنه طاقة من المشاعر تستدعي من القارئ تشغيل العاطفة للاتصال بقصيدته وبمعناه ، فالفكر لا يسعف في مثل هذه المواقف. الشاعر يشتغل على نصه بالكلمات، وعلى القارئ أن يعتمد على ذلك . فالمعنى هو ما يتجلى للقارئ مقروناً بتجربته الحياتية والإنسانية ، وبهذا يصير النص قرينة القارئ ، أي أن المعنى هو ما يشعر به القارئ ويعيد تأسيسه وفق هواه، وليس ما يقترحه أحمد إلا علامات على طريق تظل معتمة مع قارئ فقير المخيلة . كل من يبحث عن المعنى الناجز من النص لأول وهلة، لا يكون جديرا باكتشاف جمالياته ، نص أحمد مشروعاً مفتوحا يستدعي السكينة والتأمل من قارئ مكتمل حواس سمعه . فأنت لا تستطيع أن تسمع الموسيقى إلا بعد أن تبدأ في العزف . ولكي تفعل ذلك ينبغي أن تكون قادراً على العزف. وبعد أن تسمع الموسيقى، ترى هل تستطيع أن تقول أين المعنى في كل ذلك ؟ الشعر هو أيضاً يكمن في ذلك السر الغامض الذي يجعل من الإنسان أكثر غموضاً من الموسيقى إنه يحبهما فحسب، ترى هل يمكننا أن نفسّر هذا الحب، هذا الحب الذي يأتي فيما بعد دائماً ؟!!

ونص أحمد في تصوري هو شخصه. وهو أيضاً السؤال المطروح على واقع لا يكترث إلا بشهوة ترويض الوحش الخارج من غابات الناس والخارج عليها. . لذلك فان الصراع الكوني بينه وبين العالم يبقى، بدرجات متفاوتة، لحظة اختبار دائمة للطرفين: فكأن أحمد أمام الأجوبة، والواقع أمام الأسئلة. لكي لا يقبل كشاعر متسائل جاهزية أجوبة الواقع، ولا ينكر الواقع جوهرية أسئلته..
هو شاعر سّرح خياله الشفيف في ليل نصه فصار نصه حلم كثيف من الكائنات الباذخة والغويات المغرقة ، ليله أكثر حضورا من نهارات المحو ، تتصل عينيه بالأحلام، وبرغم حضور نصه في هامش الروح يتركه يذهب في عزلة لا يطالها نص غيره، كأن نصه قنديلا يؤرجح الضلال وهو يذرع المسافات بين المعاني والصور والأخيلة، يباغت نفسه بالمكتشفات الفاتنة يبوح مثل حكيم ..
ثمة شعور غامضٌ ينتابك وأنت تقرأ قصائد أحمد ، شعور لا تعرف مأتاه، وتأخذك تداعياته إلى أقصى حدود التأمل ، أزعم أنه شاعر يضع الجوهرة في جيبك .. تلك هي الذروة الساحرة التي تستحيل إلى حالة بين اليقضة الشديدة والنعاس اللذيذ.. وزعم ثاني أن سبيل معاناته لا تكون خلال كتابة القصيدة ، بل هي قبل ذلك، في خضّم الحياة وحياته ملئى بالتناقضات ، هذه التناقضات التي تطبع حياة الشعراء ذو النفوس القلقة بطابعها فتصير حياتهم إنعكاسا لهذا التوتر الشديدالعنيف ، و قلق الشاعر بين باطنه الزاخر والاشتباك مع الحياة على هذا النحو أو ذاك هي بمثابة برهة النشوة القصيرة والنادرة والخاطفة، التي تؤكد كم شبيه هو الشعر بتهادي الندى في الصباحات الوضيئة ..

أحمد كما عرفته أو مُذ عرفته، شاعر يهيمن الشعر على كيانه، يرى أشياء الكون من حوله بوحاً عذباً شفيفاً يتساقط في روحه ، يأنس نفسه بهذه الشعرية التي بها يحيا وعليها يقتات ، ولولا هذه الحالة الغامضة لما تسنى له احتمال واقعه المرير. الشعر لديه لا يبدأ هنا وينتهي هناك إنه موج مستمر متلاحق ومتلاطم من لذة لا توصف. من هنا أكاد أقول أن الشعر هو ما يمكن اعتباره حياته بينما هو يفعل أشياء أخرى.. .

تظل الحالة الشعرية تتعمق في داخله بلا هوادة، وتصقل روحه حتى يصادف تلك اللحظة الفاتنة التي تنبثق فيها الكلمة والصورة والإيقاع . فيبدو الأمر كما لو أنه عرضة لأية ملامسة يشغف بها قلبه ، ويكاد يذهب مذاهب الناس فلا تنقذه إلا القصيدة. عندها يبدأ في كتابة ما هيأته الأساطير في داخله . ولا أحد يقدر على تحديد السبب المباشر الذي سوف يفجّر ذلك البركان الحميم، حيث يبدأ حفل الصور والأخيلة ويتهادى بين كل هذا وحي الحكمة ... وفي هذا اللحظة يبدو الإحساس الغامر لديه بأن ثمة انهماكاً وشيكاً يتوجب عدم تفاديه قدر الإمكان. إنه الانفجار الرحيم.

مثل العشق تأتي قصيدته لتنقل روحه من عذاباتها إلى الفردوس حيث النعيم المقيم، و حيث الفسحة النادرة من اللذة والجمال، والأفق اللانهائي الذي يتبدى أمام ناظريه كما لو كان حلماً متاحا ومستحيلا ..

صوته الغامض الخفي يصدر من أعماقه، هامساً بأن في مخيلته من الطاقة ما يغني عن الجلوس تحت عتمة الذهن وكآبة العقل وجلافة المنطق وإدعاء الكمال. هو جذوة صغيرة مكبوتة، نشعر بأنها تأخذ بأيدينا نحو ما لا يقاس من الواقع أو ما لا يفهم كلما أطلقنا لها حرية اللهب والتوهج والاشتعال. شاعر قادم من الأنهار البعيدة من منابعها الغائرة ، قادم نحو مصب الحياة الأعظم حيث يتقاطع الجسد بالروح. مأخوذ بالهدم والبناء في آن. هدم حدود الشعر بوصفه تخوماً، وإعادة بنائه من جديد بوصفه أفقاً، مولع بالوقوف في مهبّ التجارب، عارياً من جاهزية البحث والرؤية والمواصفات. يطوي المسافة بين النفس والكلمة والموسيقى كيما تكون عرضة للتضاؤل، ثم يفتحها على الافق، فليس بين هذا المثلث غير علاقة الروح بالجسد. فأنت لا تستطيع أن تعرف الحدود بين الدم والجرح إلا بالقدر الذي يمكنك فيه فرز الورد من الرائحة ومن يقوى على هذا وذاك؟! وفي هذا وذاك، ضرب من فيزياء النفس الغامضة.
لك أن تنعم بنعمة الشعر يا أحمد ، ويطيب لك أن تمتحن كل مأسينا الوجودية . لم يعد واقعنا البائس يحتمل صبراً وعذابا أكثر، والجمرالساكن الذي تستثيره فينا وتدعو له حبق الريح ليس أمامه إلا أن يكون (شاهد على محنتك، محنة الشاعر الذي إنزوى في ليل واقعه) ..أية نار مكتومة كامنة تنطوي عليها بكائياتك .وأية إحتمالات حزينة يدخرها هذا الرماد الذي تنثره مع الريح العاصف، انه رماد ينحني له المجد، وأنت لا ترى في هذا الهمود المجنون الذي يغمر المشهد سوى حالة انتقال من الرماد إلى الرماد ...كلما وضعت يدي عليك غاصت كأنها في سديم اللانهاية ..

من هو ذاك ، الذي أسلمك الى بَرزخ بين الظن والاحتمال والاثم ، وأخذ بيدك الى هاوية تنفتح على هاوية بعيدة قصية هناك حيث صنع لك مهوداً كثيرة وزينها ، الأقاصي هناك مثل صخور كثيرة تتساقط مذعورة وتنغرس في أنحاء جسدك الذي صار كساحة حرب مشرعة. قالوا عليك أن تحتمل ، من أين لهم كل هذه السطوة عليك ..
الشاعر يا صديقي هو توأم جرحه يرى في كل نأمةٍ أملاً. ذاكرة متخمة وزجاجة ملئى بالدموع وشرفة كلما فتحها طلت على على اللاشيء، على حدود دهشتة تبرد أطرافه، ويختلج قنديله...
أحمد لقد تعلمت منك الكثير ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا


.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل


.. الطفل آدم أبهرنا بصوته في الفرنساوي?? شاطر في التمثيل والدرا




.. سر تطور سلمى أبو ضيف في التمثيل?? #معكم_منى_الشاذلي