الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خليل حاوي : سنديانة الشعر والموت

محمد عبد الرضا شياع

2006 / 1 / 30
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


تدعو قراءة آثار خليل حاوي ( 1919- 1982 ) إلى الإقامة بين المرئيّ واللاّمرئيّ, بين الحضور والغياب.. إقامة تتحقّق برسم خطوط تأخذ القارئ إلى رحلة عميقة لعالم مليء بالدّهشة والغواية، حيث جذور الشّعر تأتي من هناك, حينما تلامس عيون المتلقّي ضوء الشّمس وسحره المتحوّل إلى ألوان تكتب القصيدة وتكتبها القصيدة في الآن ذاته.. أعماق حاوي دفينة تتفجّر فيها الأضداد وتتشابك فيها الدّلالات. إنّها كون للتّجلّي والانكشاف لأشياء ظلّت رابضة على تخوم الفراغ. من هنا يتجسّد الاتّحاد بين الكائن والممكن التّائقين أبداً لصنع هذا الخطر الجميل: القصيدة.
فقصيدة حاوي- المنعوتة بالتّفلسف والغموض- هي الأكثر كشفاً، والأكثر فهماً للذّات والواقع معاً، لأنّها نتاج رؤيا فلسفيّة، وخيال حالم, بقدر ما هي خاصّة هي عامّة. وكأنّها تطبيق لنصيحة نوفاليس: " أن نحلم وألاّ نحلم في آن واحد: في هذا التّركيب تكمن العبقريّة ".
من هنا كانت قصيدة حاوي مرفوضة بقدر ما هي مقبولة، لأنّها فلسفة للذّات وللموضوع. إنّها فرس جموح صعبة الانقياد. أو هي المرأة النّافرة التي تحدّث عنها ابن عربيّ. إذ يتطلّب فهمها معايشة للحظة الكتابة. فإذا كان زمن القراءة غير زمن الكتابة يتحقّق النّفور، وبخلافه يتجلّى الفهم فيتعانق زمنا الإبداع.
لقد تمرّد خليل حاوي على القيم الشّعريّة المشتركة, ولم يكن هذا التّمرّد توليفاً لـ"ما فوق الطّبيعة " ومجافاة للواقع كما فعل بودلير، وإنّما هو صراع حواريّ وتماسّ جذريّ لأرض هذا الواقع. فكانت قصيدة حاوي مخاضاً لهذا الصّراع المتجلّي بين ما كان وبين ما يريده الشّاعر أن يكون. إنّها الأثر الخلاّق والمُبْدَع, به يتحقّق التّلاشي وبه يتوحّد نبض الحياة: الشّعر.
تحمل قصيدة حاوي شعلة تفرّدها المتّقدة بالفكر والفكرة, وتتوهّج بلغزها الرّافل بالظّمأ الإنسانيّ والمنشده بالتّغيير والتّحوّل لعالم يتغنّى بروح العصر وقلقه الثّاوي في أعماق اللاّشعور:
في عروق بعضها حمّى ربيع
وجحيم يبتلينا
بعضها صمت ثقيل وجليد
أن يكن, ربّاه
لا يحيي عروق الميتينا
غير نار تلد العنقاء نار
تتغذّى من رماد الموت فينا,
في القرار
فلنعان من جحيم النّار
ما يمنحنا البعث اليقينا.
الشّاعر: هنا لا يشيح بوجهه بعيداً عن الواقع باستدعائه الملامح الأسطوريّة، وإنّما أراد أن يجعل الأسطورة تتغلغل في واقعه الأسيان، ليجعله متمرّداً على زمنيّته المريرة، ولعلّ هذا الأسلوب صار سمة الشّعراء المعاصرين وبخاصّة التّمّوزيّين منهم, بيد أنّ ما يمنح حاوي تفرّده هي الغنائيّة التّي يتأسّس عليها البعد الأسطوريّ، أي أنّها غنائيّة أسطوريّة. الأمر الذي يمكن أن ندرك كنهه أكثر في هذه الأبيات:
يا جمال الخصب, يا تمّوز, يا شمس الحصيد
بارك الأرض التي تعطي رجالاً
أقوياء الصّلب نسلاً لا يبيد
يرثون الأرض للدّهر الأبيد
بارك النّسل العتيد
بارك النّسل العتيد
بارك النّسل العتيد
يا جمال الخصب, يا تمّوز, يا شمس الحصيد.
تمنح هذه التّكراريّة _ والتي تشبه الحركة المائجة _ القصيدة رمزيّتها الغنائيّة وعمقها البعيد الذي ينمو وينمّي معه حالة صراع بين الواقع والخيال بين الحقيقة والحلم. وتكشف المقاربة الواعية لهذا البناء عن خلخلة للواقع، وعن مسعى للتّمرّد عليه، وهو أمر محكوم بالضّدّيّة العميقة التي تقوم عليها فلسفة حاوي المتجلّية في أكثر من مؤلّف نثريّ نذكر من بينها " العقل والإيمان بين الغزاليّ وابن رشد ", ناهيك عن تجلّيات هذه الفلسفة في كتاباته الشّعريّة التي ناهزت الخمس مجموعات: " نهر الرّماد, النّاي والرّيح, بيادر الجوع, الرّعد الجريح, وجحيم الكوميديا ". وقد تضمّنت بعض هذه المجموعات مطوّلات تصلح لأن تكون كلّ واحدة منها مجموعة مستقلّة بذاتها، نظراً لتعدّد التّيمات وتنوّع " الصيغة " الشّعريّة التي كتبت بها.
لقد ترك وعي حاوي الفلسفيّ أثره النّازف في خبايا نفسه المترعة بحساسيّتها الشّعريّة، ممّا جعله يموج في بحر من الآلام، تطلّ عليه عبر تضاريس الحياة التي رفضها الشّاعر بكلِّ مآسيها, ناشداً حياة أخرى أكثر جدوى, فيها يعثر المرء على مبتغاه المفتقد.. لكنّ صورة الحياة الباهتة ظلّت ترتسم أمامه، وظلّ هو ممزّقاً بتصوّراته الفكريّة وبفلسفته المتوغّلة في أعماق اللاّشعور، وبانشغاله في تبدّلات العالم الحضاريّة.. فتشظّى زمانه بين الماضي والحاضر وتحجّرت رؤياه على تخوم المستقبل وكأنّ آلة الزّمن تلعب معه لعبتها المخادعة.
وعرفت كيف تمطّ أرجلها الدّقائق
كيف تجمد, تستحيل إلى عصور
وغدوتُ كهفاً في كهوف الشّطّ
يدفع جبهتي ليل تحجّر في الصّخور.
إنّ وعيه الحادّ بالزّمن وبالتّبدّلات جعل آليّة الحزن تدور في أعماقه لتطحن ما تبقّى لديه من طموحات تبدّدت بجلاء أمام الاجتياح الإسرائيليّ لبلده لبنان, والتّي كثيراً ما حلم بها لأن تكون فردوساً أرضيّاً, تنبت على شطآنها الرّمليّة حروف قصائده حبّاً وورداً.. لكنّ حلمه تبدّد وأريج كلماته تلاشى, فاستدعت ذاكرته قدّاس الموت الذي كتبه ذات يوم وهو يقول:
عمّق الحفرة يا حفّار, عمّقها لقاع لا قرار
يرتمي خلف مدار الشّمس ليل من رماد
وبقايا نجمة مدفونة خلف المدار.
تكشف هذه الأبيات عن بعض من رؤياه الفلسفيّة المتجلّية عبر كتاباته الشّعريّة المنبعثة من رعب الحياة الموحش والكئيب. تلك الحياة التي أبت عناصرها إلاّ أن تحضر دائماً في زورق الموت الّذي احتجّ به الشّاعر على كلِّ قبيح ومرفوض, ليعلن موته بالانتحار ولسان حاله يردّد ما قاله بول فاليري: " الانتحار حركة يأس للتّخلّص من كابوس رهيب ". مبرهناً على أنّ " الموت يعشق الشّعراء كما يعشق النّيل العذارى ". بهذه الرّؤيا الفلسفيّة عاش خليل حاوي وبها مات، رافضاً إلاّ أن يهيئ قدّاس موته بذاته، وينثر أزهار القصيدة الحزينة فوق قبره، لتكون سنديانة عشق تمد خطاها باحثة عن سعادتنا المفتقدة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأثير مقتل رئيسي على المشهد السياسي في إيران| المسائية


.. محاكمة غيابية بفرنسا لمسؤولين بالنظام السوري بتهمة ارتكاب جر




.. الخطوط السعودية تعلن عن شراء 105 طائرات من إيرباص في أكبر -ص


.. مقتل 7 فلسطينيين في عملية للجيش الإسرائيلي بجنين| #الظهيرة




.. واشنطن: عدد من الدول والجهات قدمت عشرات الأطنان من المساعدات