الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الأقصوصة بقلم: ياسمين عياشي

كمال التاغوتي

2017 / 5 / 29
الادب والفن


لئن كان تأليف الروايات من أرقى الفنون وأكثرها رواجا، فإن البعض يميلون لمطالعة الأقاصيص بدل الرواية ذات الأحداث المتشعبة والشخصيات العديدة. حجتهم في ذلك طرافة الأقصوصة، تلك التي تحوّل أحداثا عادية نمر بها يوميا دونما اهتمام إلى قضايا مصيرية متجذرة في واقعنا، نابعة منه، وتوفر لنا متعة ذهنية بتنوع أشكالها الفنية.
فكيف تكشف لنا الأقصوصة عن تلك القضايا التي نكاد لا نتفطن إليها؟ وأين تبرز براعة مُنْشِئِيــها في إمتاع القارئ؟
لا مِراء في أن العديد من الآفات تنخر كيان مجتمعاتنا وتحدّ من ازدهارها. واللافت للنظر في الأقصوصة أنها تنقدها متخذة نقطة انطلاقها حدثا عاديا مألوفا نراه ونمر به كل يوم دون أن ننظر في تفاصيله؛ ففي أقصوصة "نبوت الخفير" لمحمود تيمور، كانت البداية بمكان عادي بالقاهرة هو "رصيف شارع السلسبيل" الذي تكثر فيه "حركة الباعة الجوالين". نسأل "ما المصيري في هذا؟" لعل المصيري هو واقع هؤلاء الباعة الذين نجد بينهم أطفال الشوارع وبالتحديد ذلك الغلام "الأحدب الصغير رث الثياب"، غلام حولته مطاردة واحدة مع الشرطة إلى كاذب سارق صفيق.
ولئن كانت المطاردات متكررة في حياة الباعة الجوالين حتى أمست إيقاعا رتيبا، فإنها لم تكن كذلك بالنسبة إلى هذا الغلام الذي صار مجرما يهدد سلامة المجتمع.
وليس الإجرام الآفة الوحيدة، فالحب والحرية و التفاوت الطبقي والاحتلال الظالم المغتصب كلها قضايا تؤرقنا، قضايا اهتمت بها الكاتبة اللبنانية "إيميلي نصر الله" متخذة تجربةَ حب فاشلة منطلقا لها.
لا غرابة في فشل تجربة حبٍّ، لكن فشلها بسبب أمٍّ "تقف عاليا في شرفتها المزدانة بالورد والياسمين الجوري" لتنادي ابنها و "تعيده إليها" يوحي بأن التفاوت الطبقي لا يزال يشتت العشاق، ولعله أنموذج مصغر للتفاوت بين الأمم مما يدفع بعضها لاحتلال نظيراتها الأقل منها قوة كما هو الحال في فلسطين.
ولم يتجلّ تحويل العادي إلى مصيري من خلال المعنى فقط، بل من خلال المبنى كذلك. فالأقصوصة تتمحور حول حدث واحد يختار له المؤلفون موضعا مناسبا هو الوسط، أي بين العرض و تلك اللحظة التي تتغير فيها نظرة الشخصية لذاتها و لواقعها، بين العرض و لحظة التنوير. ولعل ذلك يهدف إلى شدّ ذهن القارئ إليه وضمان وحدة الانطباع والأثر اللذيْن نكتشف بعدهما خطورة ما كنا نعُدّه مألوفا.
ولكن لِمَ لا نجد جميع الأقاصيص متشابهة والحال أنها تشترك في هذه البنية، عرض فحدث مركزي تليه لحظة تنوير؟
هنا يأتي دور الخصائص الفنية و توفيرها المتعة للقارئ. نعم، فإن اتساق التصميم لا يعني تشابه الأحداث كما لا يعني تشابه الحبكة أو تشابه البنى السردية، فمن البنى ما يقوم على التضمين مضارعا بذلك الحكاية المثلية في طرافتها، ومثال ذلك أقصوصة "الكراسي المقلوبة" حيث ساهم إدراج المشهد المسرحي في الإمتاع وزيادة الغموض، ومن البنى ما يقوم على اللغز مثل أقصوصة "حكاية الباب" المفعمة بالتشويق لمعرفة خطإ ذلك المجرم وفرصته الأخيرة للنجاة. ومنها البنية الانقلابية كما هو الحال في أقصوصة "المروض و الثور" حيث تبدأ الحكاية بصراع بين العقل و العضلات وتنتهي بالصداقة والتوافق بين عقلين متكافئين، هي أقصوصة نجد فيها عنصر الفرجة في وصف مشهد القتال بتفاصيله إذ يقول السارد: "حضر شيخ المدينة، جلست الملكة في مقعدها، انطلق صوت المزامير... امتلأت المقاعد وعلا الهتاف... جندل اثنين من رجاله... انقض عليه... أحشاء كثعابين زرقاء"، وبذلك يشعر القارئ بأنه في خضم تلك الساحة يهتف و يشجع ويزاحم الجميع فتتحقق له المتعة الذهنية التي يزيد منها الجانب الخرافي العجيب، فهل من ثور قد يرفع في مروضه عينين إنسانيتين ذكيتين ويغمزه؟ وإذا كانت الأمثلة المذكورة آنفا قد هيمن عليها الجدّ في معالجة القضايا فإن الأقصوصة لا تخلو من السخرية أسلوبا وموقفا، إذ من العناصر الموفرة للمتعة يلوح التهكم واضحا بارزا في عبارة ابتسمنا جميعا في أثناء قراءتها هي "... مجرم من أفظع المجرمين الذين عرفتهم البشرية الشريفة الطاهرة". ومن منا لم يعجب ببراعة محمود تيمور في المزج بين الاستعارة والمجاز في تصوير كاريكاتوري للصراع بين القوى غير المتكافئة؟ وما أقسى الدوعاجي في تصويره المسخي لتلك النماذج الاجتماعية التي التقى بها في القطار وعاين سلوكها على شاطئ حمام الأنف ! أجل إنها سخرية سوداء، تضحكنا لتكشفنا. لقد اقترب منا السارد عبر تلك العامية المبثوثة في نصه وعملية المسح التي مارسها على المجتمع التونسي خلال بدايات القرن العشرين؛ كل ذلك يثبت حرص كتّاب الأقصوصة على الإمتاع، أوليس الخيال العلمي في مركبة الساردة بأقصوصة إيميلي نصر الله "الأرض المستحيلة"، تلك التي "تعود بها إلى صومعة الوحدة والعمل"، وسيلة فنية تجذب القارئ وتوفر له المتعة؟
إذن فإن طرافة الأقصوصة بادية في تحويلها أحداثا عادية إلى قضايا مصيرية وفي توفيرها للقارئ متعة ذهنية بمختلف الخصائص والأشكال الفنية التي برع أصحابها في استخدامها، خاصة وأنهم مضطرون إلى التكثيف نتيجة الحيز المحدود المتاح لهم، فكان لا بد من اللجوء إلى طريقة الشعراء في إنشاء نصوصهم باستعمال المجاز كما سبق ذكره.
عادة ما تكون الأقصوصة مستوحاة من الواقع، فأغلب القضايا تعد من شواغل الإنسان في عصرنا الحالي، لكن رأينا بعضها قد امتزج فيها الواقع بالخيال، بل تجاوزت الأقصوصة ذلك إلى العجيب والغرائبي الأمر الذي أدى إلى تناول معانيها تناولا رمزيا. أفي هذا دليل على تطور الأقصوصة عبر الزمن؟ ذلك ما يحتاج إلى دراسة في رأيي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة