الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أتأبّطُ تمساحًا برتقاليًّا وأعانقُ أغنية

عماد الدين رائف

2017 / 6 / 1
الادب والفن


عندما ساءت الأحوال بين جورجيا وروسيا، وقرع الساسة طبول الحرب قبل نحو عقد من الزمن، اختنقت الأغنيات الطيّبة القديمة بقدرة قادر، ولمْ يعد لها من مكان. فدأبُ الساسةِ دومًا إخراج "الأغنيات" قسرًا من فوّهات المدافع لا من الطبيعة الساحرة التي لا تميّز بين أرض وأرض.. دأبُهم أن يخنقوا الروح في الكلمات التي تترجم سحر الطبيعة وتناغمها بين شعب وشعب. تصدّى، آنذاك، الشاب تيمور شاأوف لجنون تداعيات الحرب بأغنية.. أغنية لاذعة عن المياه الغازية الجورجية الشهيرة "بورجومي" التي مُنع استيرادها إلى روسيا أثناء الأزمة التي سبقت وتلت الحرب، وعن علاقة تلك المياه بـ"الصداقة بين الشعوب".. أغنيته الاجتماعية الانتقادية الساخرة، تتحدث عن الغباء المستفحل في آلية التفريق بين الناس العاديين الذين لن يرضخوا، إذ ليس عليهم أن يواجهوا حتّى، بل أن يستمرّوا على قناعتهم الساذجة الصادقة بأن الحروب عابرة والإنسان باق.
بعد الانتقاد الجارح، يصوّر شاأوف الجنّة الموعودة، يقول: تصوّروا الجنّة، والحواريّات الفاتنات يغنّين/ يتمازج غناؤهنّ مع منادمة بين بوشكين وروستافيلي، اللذين يحتسيان من الأقداح. في الجنّة لا قوميّة لديك/ فهي مثل اتحادنا السوفياتي ترحّبُ بالجميع/ وفي وسط الجنّة نافورة عملاقة يتحلّق حولها الناس/ لا تضخّ سوى البروجومي".

"ميمينو"

قبل ذلك.. قبل أن تسوء الأحوال ويعبثَ العابثون بأقدار الناس، في جنّة شاأوف تلك حين كانت سنة 1977، ظهر فيلم سينمائي غريب في موسكو بعنوان "ميمينو"، من إخراج الجورجي السوفياتي المبدع غريغوري دانيليا (ولد في تبليسي سنة 1930). الفيلم الذي شارك دانيليا في كتابة نصوص السيناريو له، كان مغامرة خضعت غير مرّة لمقصّ الرقيب، حتى أنّ خاتمته حذفت وعُدّلت بالكامل.
على هامش التعقيدات الكثيرة في حياة الطيّار الشاب فاليكو ميزنداري (الملقب بـ"ميمينو")، الذي يطير بمروحية بين قرى الريف الجورجي ويسعى إلى الانتقال إلى الطيران الدولي... تظهر شخصيّة الأرمنيّ روبيك خاتشيكيان، الذي مثّل دوره فرونزيك ماكرتشيان (1930-1993)، وهو سائق شاحنة نقل بين موسكو ويريفان، يساعد صديقه المستجدّ "ميمينو" على تخطي العديد من الصعاب، ولا يطلب في المقابل من الطيار الدولي الجديد، الذي سيعبر الحدود إلى عالم غير معروف خلف الستار الحديدي، سوى لعبة يهديها إلى ابنته ألبيرتا، هي عبارة عن تمساح أخضر.
في الفندق المسكوفي، حيث يبيت "ميمينو" لياليه، أثناء سعيه للتقدّم إلى مهنة طيّار دولي، ويحتاج في ذلك إلى معجزة. في الغرفة المزدوجة التي جمعته بروبيك، يقف الأخير محادثًا ألبيرتا الحانقة عبر الهاتف، فيما تتمدّد على السرير لعبة – تمساح برتقالي، هو كلّ ما استطاع أن يشتريه لها في موسكو. بعد أن تقفل ألبيرتا الخط في وجه أبيها، يسأل روبيك "ميمينو": أتعتقد أنّي لو طليت التمساح بدهان أخضر سينفع ذلك؟ أسيصمد الطلاء؟ ألديكم في تبليسي تماسيح خضراء؟ لكن "ميمينو" الغارق في إحباطه، والذي لا يظهر منه على السرير المجاور سوى وجهه فيما يتدثّر ببطانية، لا يجيب، بل رفع حاجبيه. ينهي روبيك المحادثة: في يريفان لا توجد أيضًا. النتيجة.. لا تماسيح خضراء في الاتحاد السوفياتي.. فقط برتقالية!
بعد خوض تجربته وتمكّنه من الانخراط في الطيران الدولي، ورحلته إلى برلين الغربية، يرفض "ميمينو" الأقنعة كلها، وتنتصر فيه روح الإنسان الحرّ على زيف المدنيّة المقيّدة - يمثّل دوره المغنّي الجورجي فاختانغ كيكابيدزه (مواليد 1938). يهجرُ "ميمينو" كل ما قاده إلى جنون مرحليّ ويعود ليطير حرًّا فوق جبال ووديان وسهوب الريف الجورجي.. ولعلّ الشيء الوحيد المادّي الذي يأتي به من خارج البلاد هو تمساح أخضر لابنة صديقه.

العصفور المشاكس

إلى جانب مشاهد الكوميديا المفضية إلى السخرية السوداء أحيانًا، يدعونا "ميمينو" إلى الانحياز إلى الحبّ والخير، إلى الانغماس في جمال الطبيعة الجبلية، التي ترافق حلاوتُها المشاهدَ مع لحنٍ يتسايرُ مع الوهاد والرواسي. هو لحن أبدعه الموسيقار غيا ألكسندروفيتش كانتشيلي (مواليد تفليس، 1935)، يحاكي كلمات الشاعر الأمير باغراتيون غروزينسكي بصوت كيكابيدزه، بطل الفيلم. تلك الكلمات التي يعرفها كلّ الناطقين باللغة الجورجية، تخطت حدود الدولة الصغيرة إلى دول أروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي على أجنحة أنغام كانتشيلي.. أغنية "تشيتو-غفريتو، تشيتو مرغاريتو"، أو "العصفور الصغير المشاكس".. وقد استحقّت أن تتربع على نواصي قلوب المستمعين لعقود.. يقول الأمير الشاعر:

كيفَ ليْ ألّا أغنِّي!
السماءُ مزهوّةٌ والسوسنُ يملأُ الوادي..
تلازمني أغنيتي في فرحي وحزني، وتبلسم روحي.
كيفَ ليْ ألّا أغنِّي!
الأقحوانُ يغزوني ببهاءِ ألوانه..
والأغنيةُ تنير دربي.. فكيف لا أغنّي؟
عصفورٌ صغير.. عصفورٌ مشاكس أنا.
**
فلتكن أغنيتي هدية للسماء والناس!
ذكرى حلوة – تُحيي مشاهد الطفولة
تفتح أمام الأعين مسافات بعيدة
تتجاوب مع دقات قلب.. حزين هادئ
عصفورٌ صغير.. عصفورٌ مشاكس أنا.
**
العصافير الطيّبة علّمتْ أغنيتي فنونَ التحليق
وأنا أحيا بأنغامها.. ولن أتغيّر!
وعندما تنهي الحياة، لن أموت.
سأسبح إلى الأبد في سماء الخير..
وأعانق أغنية.

----

• شاأوف، تيمور (مواليد تشيركيسك، سنة 1964): شاعر سوفياتي روسيّ، ناقد اجتماعي، مؤلف أغان وعازف ومؤدّ. أنهى دراسة الطب العام سنة 1987، عمل نحو عشرين عامًا في الطب في قرية زيلينتشوكسكايا جنوب روسيا الاتحادية، وهي تابعة لجمهورية كراتشايفا تشركيسكايا المتمتعة بالحكم الذاتي. ذاعت أغانيه الانتقادية الساخرة في العام 2003 واتّسمت بسهولة الكلمات التي ترافقها ألحان شاأوف المستمدّة من التراث الموسيقي المتنوّع لشعوب الاتحاد السوفياتي السابق. عبّر شاأوف في أغنياته خلال العقد الماضي عن جملة من التعقيدات الاجتماعية في روسيا ورفض الناس لعدد من القرارات العبثية للحكومات المتعاقبة. آخر إنتاج له في العام الماضي (2016)، بعنوان "اتحادنا".
• بوشكين، ألكسندر سرغييفيتش (1799-1837): أمير الشعراء الروس بلا منازع، شاعر مبدع وكاتب روائي ومسرحي. ولد في موسكو في أسرة من النبلاء، عاش حياة ترف. كان والده سرغي شاعرًا بارزًا فساهم في إنماء موهبة ألكسندر الفتى. ترجع جذور بوشكين إلى أصول إثيوبيّة، فوالدته أناشيد كانت حفيدة إبراهيم غانيبال الإفريقي، وكان من الضبّاط المقربين للقيصر بطرس الأكبر، وقد ورث بوشكين بعض الملامح الإفريقية.
• روستافيلي، شوتا (1172-1216) كبير شعراء جورجيا القدامى، لا يعرف عن سيرته سوى شذرات يسيرة. تزعم الرواية المحلّيّة المتوارثة أنه كان يتيمًا وعاش طفولته في كنف أقرباء له. ترك قصيدة ملحميّة شعبيّة طويلة بعنوان "الفارس في إهاب النمر". وفي رسم على أحد أعمدة دير الصليب المقدّس في حصن روستافي، الذي ينتسب إليه الشاعر، صورة يبدو فيها بهيئة وجيه عجوز. ويُظنُّ أنه تولى منصب خازن البلاط لدى الملكة الجورجية تمار، وأنه قضى آخر سنواته في القدس حيث توفي ودفن. أما ملحمته الشهيرة فقد حظيت بترجمة إلى العربية عن الفرنسية، بقلم نزار خليلي، وقد قارنها بالأصل الجورجي غورام تشيكوفيلي وآخرون (المطبعة الجديدة، دمشق 1984).
• غروزينسكي (باغراتيون)، بيتور بتروفيتش (1920-1984): أمير، وريث الملك الجورجي الأخير غيورغي السابع. شاعر وكاتب مسرحي سوفياتي. نظم الشعر منذ كان في الثالثة عشرة من عمره مستخدمًا اسمًا مستعارًا هو "تماريشفيلي" (أي ابن تمارا، وهو اسم والدته تمارا ديكانوزيشفيلي)، ثم ذاع صيته وبدأ كبار الموسيقيين يلحّنون أشعاره، وقد كتب عددًا كبيرًا من أغاني الأفلام. بعد إنهائه الدراسة الجامعية في الفلسفة في تبليسي، توفي أخوه الأكبر قنسطنيطين فبات الوريث الوحيد لعرش أجداده.

كيفَ ليْ ألّا أغنِّي! - عيون الشعر الأوراسيّ المغنّى (7)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى