الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطاب الورود

مروة التجاني

2017 / 6 / 5
الادب والفن


تاج الضاحك هذا ، هذا الطوق من الورود : أضعه بنفسي على رأسي ، لقد أعلنت بنفسي أن ضحكي قدسي ، وما وجدت اليوم أحداً غيري قادراً على ما فعلت .


ولكن ، كم هو جيد أنكم جئتم إلى كهفي كي تتمكنوا من مشاهدة مثل هذا الشئ ! كم أنا شاكر لإنشغالكم ولرغبتكم هذه التي دفعتكم لعبور هذه الجبال والتوجه إلى المكان المناسب لتسألوا : أمازال زرادشت حياً ؟ أن السؤال الجيد في حد ذاته نصف الإجابة . وفي الحقيقة ، أن أفضل رد هو ما تتمكنون من رؤيته هنا بأعينكم : زرادشت مازال حياً ، وكما لم يكن من قبل :


زرادشت الراقص ، الخفيف الذي يرف بجناحيه ، المستعد للإنطلاق ، المتواطئ مع كل الأطيار ، الجاهر والمعافى ، المتهئ كإله خالي البال - بنفسي أوشح جبيني بهذا التاج ! .


زرادشت ، نبي ما يعلن عن حقيقة ، زرادشت ، النبي الأبكم للصمت الأصيل ، لا هو بالمتلهف ولا هو بالعنيد ، مثل شخص يحب الوثبات والمغامرات - بنفسي أضع هذا التاج على جبيني ! .


بإمكانكم إرباكي بكل دموع الأرض وكل الشكاوي الإنسانية : عليكم دوما ً سأنتصر ، كما الزيت على الماء . وحتى إن صادفت وحقدت على الأرض : فستقتلع نجوم السماء خبثي لترمي به إلى الأرض - هذا هو كل انتقام زرادشت .


وإذا كان في الأرض ركود وبلبلة ، إذا كان في الأرض بحر من الرعاع العكرين ، فبإمكان من يملك رجلين خفيفتين أن يسير فوق الوحل - بالسرعة التي يمشي بها على الجليد الناعم . وإذا احتجت إلى أعداء ، وإذا كنت مراراً لذاتي أسوأ الأعداء : فليس بإمكان الأعداء التعاطي معي إلا نادراً ، لأني أستعيد ضحكي سريعاً بعد كل زوبعة .


وبرغم إني عرفت العديد من الصحاري والعديد من الأصقاع الموحشة والخاوية ، فأبداً ما كنت المتزهد في المكان المقفر ، وليس ذلك أنني أبله ومخبول كمثل سارية : فإني على عكس ذلك - أمشي . وأن المسيرة تكشف إن كان المرء قد أدرك دربه الخاص .

انظروا إلي أمشي إذن ، وعلى من كان قريب الهدف ، عليه - أن يرقص ! .

ملتوية هي الدروب التي تقطعها الأشياء الجيدة حين من أهدافها تقترب ، مثل قطط تتكور ، تتحفز وتهر في داخلها لشعورها بقرب سعادتها : كل الأشياء الجيدة تضحك ! .

ما هي أكبر الأخطاء التي ارتكبت على الأرض ؟ تلك كانت كلمة الذي قال : الويل للذين في الأسفل يضحكون . ألم يجد هو ذاته سبباً للضحك ؟ ذاك لأنه لم يجهد ذاته في البحث : إن طفلاً لواجد في هذا ما يضحكه . آه ليته على الأقل عرف كيف - يجد ذاته .


إنه - لايحب بالقدر الكافي ، فقد كان بإمكانه أن يحبنا أيضاً ، نحن الضاحكون . لكنه ما كان يشعر نحونا إلا بالبغضاء والسخرية ، دموع وصرير أسنان ، هذا ما يتوعدنا به نحن الضاحكون ! وعندما نحبه ، هذا العنيد ، فإنه فوراً يريد أن يسلق ويحرق . إنه ذاته لايحب بالقدر الكافي : لهذا كان قليل الرغبة في أن يكون محبوباً .



ابتعدوا عن هؤلاء العنيدين ، إنهم جنس تافه ومريض ، جنس سوقي . إنهم لا ينظرون إلى الحياة بعين الرضى ، سيقانهم ثقيلة وكذلك قلوبهم . تساموا بقلوبكم يا إخوتي ، أعلى فأعلى ! ولكن لا تنسوا أرجلكم ، حركوا أرجلكم أيضاً ، أيها الراقصون المبدعون ، والأفضل أيضاً : أن تقفوا على رؤوسكم ! .


في السعادة يوجد حتى الأجلاف والثقلاء بالفطرة . إنهم ينهكون ذواتهم في جهود عجيبة هؤلاء السعداء ، كمثل فيل يحاول الوقوف على رأسه . لكنه من الأفضل للمرء دوماً أن يجن من السعادة ، على أن يجن من الشقاء ، أن نرقص بإرتباك أفضل من أن نعرج . هيا إذن لتعلم حكمتي : كل شئ سئ له جانبان إيجابيان .


انسوا إذن قرب البؤس هذه ، وكل حزن الحارس الليلي هذا ، كم يبدون لي اليوم حزانى هؤلاء المهرجون أنفسهم ! هذا اليوم هو يوم الرعاع : انسوا إذن هذا - اليوم .



اقتدوا إذن بالريح التي تنطلق هنا من كهوفها الجبلية . إنها ترغب في الرقص على أنغام نايها الخاص ، إن البحار ترتعش وتثب على وقع أقدامها . هي التي تهب الحمير أجنحة وتحلب اللبوات : فلتكرموا إذن هذه الريح الجامحة التي تقبل زوبعة تزعزع كل حاضر وكل رعاع - عدوة - هي الرؤوس الشوكية والمغالية في الدقة ، عدوة كل تلك البذور السيئة والمتذمرة والحقيرة أيضاً ، هذه الريح الطيبة الحرة والمتوحشة ، التي تنفث عاصفة غبارها في أعين كل المتشائمين وكل عشاق الدمامل :


إنها التي تمقت الكلاب الميتة للرعاع وكل سلالة الشؤم غير المتأصلة : فلتكرموا إذن هذه الروح للعقول الحرة ، هذا الإعصار الضاحك ، الراقص فوق المستنقعات وفوق الأحزان كما يرقص فوق المروج .
بعيداً ، بعيداً أيها الإعصار الجامح ! عمن تواصل الحديث ؟ بعيداً فلتحلقي أيتها الريح المندفعة ، كصيحة ، كفرحة ، فوق البحار حلقي ، بعيداً إلى أن تجدي جزيرة السعداء . قبلي أطفالي في جزائرهم ، وبلغيهم تحية جار للشمس ، جار للثلج ، جار للنسر ، هبيهم محبة أبيهم كتحية .
يا أطفالي ، يا سلالتي الأصيلة ، يا نوعي الجديد والجميل : ما الذي يشد أطفالي إلى جزائرهم ؟ .



أما حان الأوان ، أما حان بالفعل الأوان - هذا ما يجب أن تهمسي به في آذانهم ، يا روح العاصفة الطيبة - أن يعودوا أخيراً إلى أبيهم ؟ ألست أنتظر أطفالي كمن شاب شعره ثم ابيض تماماً ؟ .
بعيداً ، بعيداً ، يا روح الزوبعة الجامحة .
اخرجي من كهوفك الجبلية وذوبي في البحار ، ولتسرعي قبل أن يحل المساء ، ولتباركي أطفالي - هبيهم بركة سعادتي ، بركة هذا التاج من الورود الذي يعني الفرح .


القي بهذه الورود على جزائرهم ، كإشارة استفهام تسأل : من أين جاء مثل هذا الفرح ؟ - حتى يتعلموا إلقاء هذا السؤال : أمازال والدنا حياً ؟ ماذا ، والدنا زرادشت مازال حياً ؟ أمازال والدنا زرادشت يحب أطفاله ؟ .
احملي إلي أطفالي بعون فرحي الأعمق ، أغريهم حتى تأخذ منهم رغبتي الأبوية ، الوفية والذهبية ، واسكبي على قلوبهم عسل حب أبوي عميق ، عميق ! .



الريح تعصف ، الريح تعصف ، يطلع القمر - آه ، أيها البعيدون عني ، يا أطفالي ، ليتكم الآن إلى جانب والدكم ؟ الريح تعصف ، السماء خالية من السحب ، العالم يرتاح - آه يا للفرح .. آه يا للسعادة .


ولكن ما إن نطق زرادشت ببعض الكلمات حتى ارتعش من أعماق روحه : فقد لاحظ ،وهو ينظر إلى رجليه ، إنه كان تماماً وحيداً . كان قد نسى ضيوفه - فهل نسيه ضيوفه أيضاً ؟ أين أنتم ؟ أين أنتم ؟ صاح في الليل زرادشت : لكن الليل كان قد صمت . أين أنت ؟ أين أنت يا حيواناتي ؟ صاح زرادشت في الليل من جديد . لكن حيواناته أيضاً ظلت صامتة .


- ديوان نيتشة / أناشيده - أناشيد أصحاب العقول الحرة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال