الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا تقترب من -هاوية- زينب مرعي قبل النوم!

عماد الدين رائف

2017 / 6 / 7
الادب والفن


"ابحث عن سهيل!". قالها جهاد بغضب لم أعرف سببه، ثم ركض نحو "كاتدرائية مار يوحنّا المعمدان".. نظرت إلى صديقي، وقبيل أن تأخذني عدوى الركض في الاتجاه المعاكس، لاحظت لجزء من الثانية أنّه لا يركض بل يطير فوق المربّعات الحجريّة لأزقّة "فارشافا" القديمة. مهلًا! أنا في وارسو.. ما لي وسهيل! سأبحث عن الساعات الأثريّة، تلك التي لم ارها. قيل لي إن عددها سبع وعشرون، فلأبدأ بالعدّ من الثالثة عشرة هذه المرّة.
رأيتني في ساحة القلعة وقد انتصب عمود عملاق، فوقه تمثال سيغيزموند. كيف؟ لقد أخبرتني سارا أبراموفنا أن البولنديين أهدوا الساحة لبطرس الأكبر، ما الذي أتى بسيغيزموند إلى هنا؟ ركضت، رأيت جهاد يركض إلى جانبي، وبدت سارا ممتعضة وهي تصرخ فينا ونحن نبتعد عنها. كانت على هيئتها أثناء المحاضرات شابة بارعة الجمال، لكن لتمنحنا هيئة الأستاذة عقدت شعرها الذهبي ضفيرة واحدة، وأخفته وراء رأسها ووضعت نظارة غير طبّية تلألأت من وراء زجاجتيها عينان زرقاوان.. تلألؤَ أشعة شمس أيار على مياه بحر آزوف.
صوت سارة يخفت مع كل خطوة.. "ستاري مياستو (المدينة القديمة) دُمرت عن بكرة أبيها في الحرب.. لم يبق منها حجر على حجر. أعاد البولنديون بناءها من جديد. لقد اجتهد الفاشيست في تدميرها لإخماد انتفاضة البولونيين الفاشلة في العام الذي سبق تحرير وارسو على أيدي السوفيات...". ما إن اختفى صوت سارا حتى رأيت إحدى الساعات التي كنت أبحث عنها، تحتل مساحة مترين مربعين على جدار منزل بين شباكين.. "الساعة الحادية والعشرون". ساعة شمسيّة بأرقام يونانية! ضحكت سارا ساخرة، كانت قد لحقت بنا بقدرة قادر "وهل تسطع شمس هنا كي يقرأ الناس الوقت بهذه الساعة!".
لم أعرها أيّ اهتمام.. كان جهاد قد ركب عربة خشبية بأربعة دواليب يجرها حصان بلا حوذيّ. تابعت الركض.. إلى جانبي كانت سارا قد تخلّصت من هيئة أستاذة التاريخ، وانتشر شعرها وراءها كطرحة. عبرتُ "رينيك ستارغو مياستا" (ساحة السوق) بسرعة، هناك كان نحو عشرين فنّانًا تشكيليًّا يرسمون اللوحة عينها.. تمثال الموت الحيّ! كانوا يقومون بذلك بسرعة، ويعرضون لوحاتهم للبيع على المارّة غير المبالين. قرب معرض اللوحات المتجدّد دومًا بلا أي تغيّر في المشهد، كان سهيل يجلس في بيضته وهو يتحدّث إلى نفسه عن حروب ومجازر لم تحصل.. عن نضالات سرقتها هانا، التي خرجت في تلك اللحظة من رأس سهيل مضطربة. كانت في زيّ نسائي روماني عبارة عن شال أبيض ملفوف يغطّي بعض جسدها الشاحب. سارت نحو إحدى لوحات تمثال الموت الحي التي لم يجفّ طلاؤها، واختفت فيها.
كنتُ ألهثُ في وضعيّة الركوع، كما لو أنني في مسجد. يداي على ركبتيّ وظهري مستو في وضع متوازٍ مع الأرض الحجريّة أبحلق في مربّعاتها، أما رأسي فمتّجه إلى "برج ستالين".. نفرت فكرة إلى دماغي المتعب "لا بدّ أنّهم غيّروا اسمه.. أتعتقد أنّهم منحوه اسم برج الفنّ والثقافة؟". التفتُ حولي لم أجد سارا.. ظننت للحظة أنّها تحدّثني.
وبين الأعمدة على الدرجات كان عدد من السيّاح، وعلى أعلى الدرجات ظهرت هانا من جديد، وبين يديها نسخة من "الهاوية" وهي تتحدث إلى عدد من السيّاح العرب بالفارسيّة عن الملك كازمير وأسطورته، وبين الحين والآخر تنظر في الرواية بين يديها وتبتسم: "خلال رحلة للملك من كراكوف إلى بلدة غنيزو، مرّ بكوخ صيّاد فقير. كان الملك جائعًا وقد جذبته رائحة طعام شهيّة. في الكوخ، حيث الطعام، وجد الملك كذلك غلّة صيد وفير. أفسح الصيّاد مكانًا للضيف المفاجئ، وكما تقتضي أصول الضيافة بدأ يحدّثه أثناء تناولهما الطعام. قال الصيّاد إنه لا اعتراض لديه على ما قسمه الله له في هذه الحياة، وعبّر عن امتنانه لزيارة الملك له. لكنه أبدى قلقه من أمر وحيد يشغل باله، فمنذ وقت غير بعيد ازداد أفراد أسرته الصغيرة اثنين، وأراد مع زوجته أن يعمّدا التوأمين، لكن لا يوجد دير أو كنيسة بالقرب منهما، أما السفر بالطفلين إلى أماكن بعيدة فهو غير آمن. فالطرق ليست آمنة، إن نجوت من عصابات قطاع الطرق، فهل ستنجو من الحيوانات المفترسة المتربصة بالمترحلين على الأقدام!".
تململ أحد السيّاح الإيرانيين، كان اسمه كيومرث. أخذ يقترب من هانا شيئًا فشيئًا، لم يقفْ على قدميه بل بقي على جلسته وهو يرتقي الدرجات واحدة تلو أخرى بقفاه. كنت قد استعدتُ هدوئي، لاحظتُ أنّه الشابّ الوحيد في مجموعة من النساء المشودرات. تابعت هانا وقد باتت شاحبة جدًا: أحسّ الملك بالشبع، وأراد من باب الامتنان أن يدفع نقودًا ذهبيّة لقاء حسن الضيافة، لكن الصيّاد لم يقبل، فالأصول تقتضي ذلك. ولمّا كان الملك صادقًا في تقديره لما قام به الصيّاد، أعرب عن رغبته في أن يكون عرّاب الطفلين الوليدين. وهكذا صار.. فقد نظّمت العمادة في كازمير، ومنح الطفل الأول – الصبيّ اسم فَارْسْ بالعمادة، أما البنت فمنحت اسم سَافا. وقد منح الملكُ الصيّادَ وزوجته كل الأرض المحيطة بكوخهما. فنمت قرية هناك، باتت تحمل اسمي الطفلين معًا "فارسافا". ضحكت النسوة الملتحفات بالسواد، ربما ظننَّ أنّ عليهنّ أن يضحكن مع نهاية القصّة، أو أنهن وجدن ما يضحكهنّ في لفظة "فارسافا"! انتفضت سارا من بينهنّ لتشكّك في الرواية. كانت قد استعادت هيئة المعلّمة. حاولت أن تشرع في قصّة مخالفة عن نشأة وارسو وعن عروس البحر، لكن لهجتها المسكوبية بدت غريبة غير مفهومة.
اختفت هانا من المشهد. ظنّ الشاب أنها دخلت البرج من بابه الخشبيّ العملاق فركض خلف شبحها.. ركض، لكن البرج كان عبارة عن درج وواجهة فقط.. كأحد الأبنية الأثرية في وسط بيروت بعدما سرقتها سوليدير.. رأيتني أنظر من على الدرجة الأخيرة إلى الداخل عبر الباب.. لا شيء سوى السواد. سمعت صوت الشاب يصرخ وهو يهوي.. ويهوي. لم اسمع صوت ارتطام الجسد. صرختُ "كيومااااارث!".
استفقت مذعورًا وبين يديّ رواية "الهاوية" للصديقة زينب مرعي*. لم يكن عليّ أن أقرأها دفعة واحدة قبل النوم.

* "الهاوية" بقلم زينب مرعي (بيروت: هاشيت أنطوان، 2017)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا