الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصفصافة

عبد الفتاح المطلبي

2017 / 6 / 8
الادب والفن


الصفصافة
قصة قصيرة
عبد الفتاح المطلبي
إلى جمال مصطفى
ثلاثُ ليالٍ متواليات يأتيني ذلك الطفلُ في المنام حتى لم يعدْ من مجالٍ للشكّ بأنه يعنيني بإشارته تلك، تحتهُ ورقها اليابس ومن فوقه كانت أغصانها يابسةً ونظرته المتوسلة تطالبني ،جلستُ القرفصاء على السرير أمدّ بصري في الحيز الذي أمامي وكان الهزيع الأخير من الليل وكما ينظرُ مقرورٌ من خلف زجاجٍ أغبش ، كنت أستعيد تلك اللحظة وبشحٍ شديد بدأت الذاكرةُ ترسم خيطا من الرؤية على زجاجها الأغبش ، الصفصافةُ العجوزالتي تقابل المستوصف الصحي ومركز الشرطة، كانت مأوى المنتظرين أمثالنا ،لم يَسمَعْ أحدٌ أحداً آخرَ يروي سيرتَها فقد كانت أسبقَ منهم جميعا إلى المكان ، أسبقَ من القاطنين لعشرة أجيال خلت، ظلّلتهمُ جميعاً حال انتظاراتهم المتصلة مثل سلسلةٍ لا يعلم أحدٌ من أين بدأت و إلى أين تنتهي أفنت عمرها شاهداً وهي تحصي ما لهم وما عليهم هي على كل شيء شهيد، ذوي الموتى والمساجين ينتظرون تحت ظلّها حتى يقر كل حال ويذهب كل إلى حاله
- أذكرُ أننا جميعا..كنّا هنا.
- نعم ..كنا نستظلّ تحت الشجرة ، لم يكن يومها مكاناً آخر؟
- كان القيظُ شديدا تلك السنة و كنتُ أعجب لم حملوا أمي النائمة إلى المستوصف ، أما كان الأحرى أن يوقظوها .
- إنظر..إنظرإلى فوق ..ما أعلاها شجرةً ..لا يستطيع أحد إحتضان جذعها مهما طالت ذراعاه ، لايمكن احتضان هذا الجذع الفارع إلا إذا تشابكت أيدي الناس تحت هذا الظل الوارف .. هي أمنا جميعا ..نم.. نم يا ولدي تحت أغصانها.
لا هي ليست أمي ..أين أمي؟
- أمك فوق... هناك لانستطيع الصعود إليها الآن ...ربما في يومٍ آخر.
- ما اسمها يا أبي ، هذه الشجرة؟
- أم الكوسن والفاتون*
أم الكوسن والفاتون ... أم الكوسن والفاتون... أم الكو..والفا. ثم غفوت على هذه الرنة وكأن أمي كانت تهدهد على صدري ..غفوت أخذني الحلم وكان طويلا .قالت أمي مرةً مهما كان الحلم جميلا مهما كان سيئا مهما كان طويلاً ستستيقظ بعد ذلك في يومٍ آخر ، صدقت أمي..تبخّرَ الحلم الطويل ذات يوم فاستيقظت في أحضان امرأةٍ لا أعرفها.. كنت أشعر بالبرد ، حاولت المرأة أن تدثرني بما لديها بيدَ أنني مازلت أشعر بالبرد .. وكنت محموماً، أرتجف ..أمي .. أم الكوسن... والفا...تو..ون ، قالت المرأة محدثةً نفسها وهي تضع كمّادة الماء على جبيني
-أنت تهذي من الحمى.
في الهزيع الأخير من الليلة الفائتة.بينما كان العرق الغزير يبللني رأيتُني تحت الشجرة ، ذلك الصبي الذي تركتهُ وحيداً وهو يشير بإصبعه سألني:
-أين أبي ..أمي.. الآخرون؟... لم أحر جواباً.ّ!
كان ثمة غراب في الروح ينعق وهو يبتعد ويأخذ معه الصوت إلى غور بعيد ، ذهبوا....ذهبوا ..ذهب....وا....
في الصباح كان البيت هاجعا بمن فيه ... لاتسمعُ فيه نأمة، شيءٌ ما أخذني مثل خروف وديع ، نعمته أنهُ لا يعرف له قرابةً بالسكين ولا بالجزار حتى وإن وقف الثاني متمنطقا بالآولى أمامه .. وأما الحبل في رقبته فقد كان مألوفاً ولمَ لا، أليس هو حبلهُ،ألم يأتِ إلى الدنيا مربوطاً بحبل ما زالت بقاياه في بطنه لكنني كنت أعرف، .. أعرفُ وجهتي تماما فما زال دم الحلم طريا لم يجف بعد سأحج إليها تلك الشجرة التي مضى من تحت ظلها الجميع، ذاك الطفل يناديني تحتَها وهو يعلم بـأن لم يتمكن أحدٌ من احتضان جذعها ولو كان ذا ذراعٍ طويلة إلى صفصافة العمر الذي نسيت الكثير منه هناك تحت ظلالها ، أم الكوسن والفاتون، هناك حيث انتبهت ولم أجد أمي...كانت السيارة تسير على شارعٍ ممهدٍ.خلّفتهُ يساراً.ثم انعطفت بشدة مراتٍ عديدةً نحو اليمين.،بقي الطريق الممهد إلى اليسار دائما ، يزدادُ سوءاً كلما انعطفت يميناً والسيارة تبتعد من يمينٍ إلى يمين،أسمع صرير صامولاتها وهي تطسّ أرضاً كديةً فتخضّنا خضا عنيفا حتى سارت خابةً مثل حصانِ الحقل على أرضٍ تَرِبةٍ فهدأت أجزاؤها لكن عجلاتها تستحيل إلى ما يشبه حوافر حصانٍ غير مدرب مثيرةً زوبعةً من تراب لا يتورع عن التسلل إلى رئاتنا غير الحصينة ، فلا تسمع آنذاك إلا السعال وحشرجات الأرواح...ران صمتٌ ثقيل قطعه السائق قائلاً
- ... حمدا لله على السلامة .. لقد وصلنا ..
لم يكن بيني وبين وجهتي إلا جسرا صغيرا نخطو عليه الآن خمسَ خطواتٍ ،أهذا هو ذلك الجسر الذي كان أطول جسرٍ رأيته يوم ذاك ، لولا الصفصافة التي صادرت بصري يومها لكان أعجب ما رأيت ، وأين الصفصافةُ
-أصبر ..ماهي إلا بضع خطوات على القنطرة التي تسميها جسرا
انكمش الرجل في داخلي حتى ارتد صبيا وكان الجسرُ طويلاً مرةً أخرى كان رفيقي يتقدم وأنا ألحق به على ساقي صبي حتى وصلنا..
-أترى بقايا الجذع ..لقد أصبح مثل حدبة بعد رأس الجسر أو قل دُمّلةً وسط سُرّة المدينة
-ولمَ لم يقتلعوه ؟
-عطبت ثلاث بلدوزرات ولم ينقلع .. قال الخبير الأجنبي: دعوه هو ميّت على كل ، يومها استعانوا بسائل البترول الأسود ، رشّوا عليه ما يكفي لحرق غابة ، سفعته النار ، اسودّ لكنه لم يحترق كما ترى ، شيءٌ ما من داخله يطفئ النار كلما أججوها
قال الواقف ليس بعيدا وهو يحرص على أن أسمع ما يقول:
-قبل ذلك في زمهرير شتاءات عديدة مرت هرعنا إليها نحطب أغصانها حتى أنكرتها العصافير ولم تعد تحط عليها ولم تعرف بعد ذلك غير الغربان السود كلما مر خريف تنعق عليها ، انكسرَ أخر أغصانها بريحٍ غربيةٍ باردة وتولتها الفؤوس مثل ذئاب تعض خشبها الطري وأصبحت كما ترى مجرد حدبة في سرة المدينة.
- أذكرُ أننا جميعا..كنّا هنا
- نعم ..كنا نستظلّ تحت الشجرة ، لم يكن يومها مكاناً آخر؟
-والآن تحرقنا الشمس كم نحنُ بحاجة إلى ظلّها الوارف
...طاف حولها الصبية يمرحون و أطلقت الصبي القابع في أعماقي ،كنت حزينا صار يطوف وينظر إلى حافات جذعها الذي لم تحتضنه ذراع مهما كانت طويلة ،ثمة برعم أخضر يشق طريقه بين بقايا الحريق معلنا أنها مازالت حيّة أخبرني بذلك الصبي في يومٍ آخر.
*- أم الكوسن والفاتون كنيةٌ للصفصافةِ اخترعها الشاعر جمال مصطفى إذ ناداها في قصيدةٍ له ب-(يا أمَّ الكوسنِ والفاتون) وأراد بذلك ما أراد حين جعلها تحمل ثمرَ الكوسن والفاتون .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض