الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتظار السَمَرْمَرْ: رواية متماسكة وليست محْكيات مشتّتة

عدنان حسين أحمد

2017 / 6 / 15
الادب والفن


ثمة كُتب مُراوغة، عصيّة على التصنيف، ترفض الانقياد لجنس أدبيّ محدّد، فلا يعرف المتلقّي إن كان يقرأ قصصًا متفرقةً، أو حكاياتٍ متناثرةً، أو نصوصًا روائية متماسكة؟ وكتاب "انتظار السَمَرْمَرْ" لفيحاء السامرائي هو نموذج لهذا التأرجح بين ثلاثة أجناس أدبية معروفة وهي القصة الطويلة، والحكاية، والرواية ومع ذلك فقد صنّفت الكاتبة عملها الأدبي بـ "المحْكيات" لكنها لم تستبعد إمكانية التجريب، فقد تكون هذه التقنية محاولة جديّة لتقويض تقاليد الكتابة الروائية أو التملّص من اشتراطاتها القاسية. وعند عتبة المحْكيّة الثانية يُخبِر الكاتبُ الراويةَ، بوصفها قارئة المحْكيات، أنّ بإمكانها قراءة كل محْكية على انفراد رغم أنّ بعض الشخصيات تستمر ضمن أنساقها السردية حتى الصفحات الأخيرة من المحْكيّة السابعة، بل تتجاوزها إلى عتبة "المتنزّه" الثامنة التي تأخذ بيدنا إلى حكمة هذا النصّ السردي وجوهرته النفيسة التي تقول: "إنّ الخلاص يكمن في دواخلنا وحدنا" وأن فعل "الكتابة" كفيل بتحريرنا من الهواجس المُقلقة والكوابيس الثقيلة.
يمكن القول باطمئنان كبير أنّ "انتظار السَمْرمَرْ" هو نص روائي بامتياز، وليس مَحْكيات، كما ذهبت الكاتبة، فالحكاية كما يُعرّفها الناقد والروائي البريطاني إي. إم. فورستر في كتابه المعنوّن "أركان الرواية" هي "قصّ أحداثٍ مرتّبة في تتابع زمني"(ص39) ويورِد فورستر ثلاث جمل للتفريق بين الحكاية والحبكة لكننا سنكتفي بجملتين فقط، فإذا قلنا:"ماتَ الملك ثم ماتت الملكة بعد ذلك" فهذه حكاية لأنها تخلو من الحبكة. أمّا إذا قلنا:"مات الملك وبعدئذ ماتت الملكة حزنًا" فهذه حبكة لأننا نكتشف أن سبب موتها هو الحزن على وفاة الملك. وهكذا نستطيع التمييز بسهولة بين الحكاية والقصة التي تنطوي على حبكة ما سواء أكانت بسيطة، أم مركّبة أم معقّدة. وكتاب "انتظار السَمَرْمَرْ" يشتمل على حبكة رئيسة تضمّ المحْكيات السبع برمتها، كما تنفرد كل محْكيّة بحبكتها الخاصة التي يمكن أن تُقرأ كقصة طويلة، ويستطيع القارئ أن يقرأها أيضًا كقصصٍ متواشجة، لكن القراءة الأنجح لهذا النص السردي المؤثر هي أن يُقرأ كنصٍ روائي متضامّ ليس بسبب وجود الحبكة وهيمنتها على مدار النص حسب، وإنما بسبب الشخصيات الرئيسة التي تحضر بقوة منذ مستهل النص حتى منتهاه مثل نيدابا عبدالهادي ومخلّد حلمي اللذين أحبّا بعضهما بعضًا، وافترقا بسبب ظروف قاهرة ألمّت بالعراق والعراقيين الذين كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر مجيء طائر السَمْرمَرْ كي يلتهم جراد الاستبداد الذي دهم حقول العراق على مدى خمس وثلاثين سنة وأوشك أن يحوِّلها إلى أرض يباب.
ربّ سائل يسأل: ما الذي يميّز هذه الرواية عن غيرها من الروايات العراقية والعربية؟ هل هو الشكل أم المضمون؟ الثيمة الرئيسة أم الأفكار الثاقبة المبثوبة على مدار النص السرديّ؟ الشخصيات المتعددة سواء العراقية منها أو العربية، أم الأحداث التي تغطي مُدّة خمسة عقود تقريبًا؟
ما يميّز "انتظار السَمَرْمَرْ" هو شكلها الفني الجديد فثمة كاتب، ليس بالضرورة أن يكون مُحترفًا، يُقدِّم محْكياته أو "فصول روايته" تباعًا إلى سيدة مُولعة جدًا بالمطالعة والأدب كي تقرأها وتكون أول متلقيّة لفصول هذه المخطوطة. ثم يُسدي لها سبع ملحوظات مهمة تكشف عن تقنيته في كتابة المخطوطة، فمُقتبسات الأغاني يضعها بين قوسين كبيرين، والأشعار والمقولات بين قوسين صغيرين. كما يلفت انتباهها إلى أنّ المناجيات الداخلية مكتوبة بحروف غامقة. وأنه يستعمل اللهجات المحلية العربية من دون أن ينتهك هيبة الفُصحى التي تتجاور مع اللهجات الأخرى وتُهيمن على مساحة واسعة من هذا النص الروائي الذي يُراهن على وهج اللغة، وتفجير الكلام بشقّيه المَحْكي والفصيح. كما يُفرِط في استخدام الجمل الفعلية القصيرة، ويُكثر من استعمال الأفعال المضارعة، ويقلِّل من "ألـ " التعريف، وأسماء الوصل، و واو العطف، والفعل الماضي الناقص "كانَ"، الأمر الذي يثير فيها سؤالاً مُلتبسًا مفاده: "هل يريد الهروب من الماضي، أم يعزم على إحياء الماضي في الحاضر"(ص 8). الميزة التقنية الأخرى ستضيفها السيدة التي اقترحت أن تقرأ الفصول بصوتٍ مسموع كي تبوح للطيور ببعض أسرار بني البشر خلافًا للتقليد المتبّع في بوح الإنسان لمجمل عناصر الطبيعة من أشجار وأنهارٍ وأطيار. أما الميزة التقنية المتفردة لهذا النص الروائي فلعلها تكمن في إنطاق الأمكنة وإضفاء الصفات الإنسانية عليها بحيث تتكلّم المدينة، والحارة، والجامعة، والمتنزّه، والكابوس، والحلم، والزمن، والأنوثة، والعاطفة، والرحيل، والحزب، والمرآة، والبريد، والحقيبة، والصبح، والليل، والسيّارة، والهوى، والأمل وما إلى ذلك إضافة إلى أحاديث الشخصيات التي تشتبك في الأنساق السردية سواء تلك التي تتمحور على البطلَين نيدابا ومخلّد أو التي تتشظّى عن بقية الشخصيات المؤثِثة للنص والمؤازِرة لثيماته الرئيسة والفرعية.
تُشكِّل اللغة سواء الفصيحة منها أو المحْكيّة عنصر نجاح في هذا النص السردي ليس لجهة البراعة والتألق والإتقان حسب وإنما لتوظيف الكاتبة لأسلوب السخرية السوداء التي تمنح الجُملة الروائية دماءً جديدة، وتُضفي عليها نكهة خاصة لم نألفها من قبل لعل أجملها توريات الأستاذ فرغلي الذي كان مدّرسًا مغتربًا مع نيدابا في الجزائر حيث يصف الفوارق الطبقية في مصر بطريقة لاذعة تضرب على الوتر الحسّاس حينما يقول:"ناس عايشة كويّس، وناس كويّس أنها عايشة"(ص255). وفي السياق ذاته يصف زوج نيدابا الصامت قائلاً:"ده مش ساكن قصادي، ده ساكت قصادي"(ص258). وما دمنا في إطار الأسلوب التهكمي والسخرية السوداء فلابد من الإشارة إلى نجاح الروائية فيحاء السامرائي في التدليل لمعرفة المحذوف من سياق العبارة. فحينما تقتبس الجُمل الآتية:"لاحِظ جنابك، لا كهرباء، لا مايْ، لا هاي، لعد وين الديمقراطية مالتهم. . . بالعظيم ملّينا، عمّي ملّينا من هالحال"(ص374) فيعرف القارئ العراقي سلفًا أنها تتحدث عن المحامي طارق حرب لأنه يُكثر من استعمال كلمات من قبيل "حَضِرْتك وجنابكْ"، كما نجحت في التدليل على اسم البلد من خلال وسائل التعذيب، فما إن تسمعهم يتلفظون بكلمات أو عبارات مثل "دولاب، بساط الريح، الشبح، العبد الأسود، الكرسي الألماني"ص293" حتى تعرف أن الكاتبة تتحدث عن سوريا على الرغم من عدم ذِكرها لاسم البلد لأن وسائل التعذيب هذه تكاد تكون ماركة مسجّلة باسم النظام الوحشي السوري.
تتسم هذه الرواية بتوظيف عدد من اللهجات العراقية والعربية، ونظرًا لإتقان الكاتبة لهذه اللهجات فقد أبدعت فيها حتى لتخالها حينما تقرأ هذه الرواية أنها فلسطينية أو سورية أو جزائرية أو يمانية فقد وظفت الأغاني والأمثال والأقوال المأثورة خير تمثيل وجعلتها جزءًا متماسكًا من لُحمة النص وسداته.
يمكن أن تكون ثيمة هذه الرواية هي "دوام الحال من المُحال"، لكن ما هو أنسب منها هي الفكرة التي تقول: "يرحل عنهم طاغية ولا يرحل الطغيان، يروح ظالم ويبقى الظلم والظلام"(371).
ثمة عيوب جوهرية كان بإمكان الكاتبة أن تتفاداها لو أنها عرضت المخطوطة على أي ناقد أمين على تخصصه الأدبي وأولها طول النص الذي يمكن اختزاله إلى أقلّ 300 صفحة من خلال التخلي عن بعض الأشعار والأقوال المأثورة و الأحداث الميتة التي لم تخدم البنية المعمارية لهذه الرواية النوعية التي تُعد إضافة حقيقية للمنجز الروائي العراقي الذي لم يألف مغامرة جريئة في الشكل والمضمون وزاوية النظر.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم


.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع




.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية