الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غلابة 00 ترسة

ياسر العدل

2006 / 2 / 2
حقوق الانسان


يقول فصحاء العربية، أن الغلب ( بفتح الغين وكسر اللام) صفة لمن غلظ عنقه، فيكون الرجل أغلب وتكون المرأة غلباء، والجمع غلب ( بضم الغين وتسكين اللام)، وهو صفة للحديقة التى تكاثفت أشجارها والتفت، فيقولون حدائق غُلبا.
وفصحاء العربية، فى وصفهم حالة الغلب، لم يكترثوا بالوقوف على أسباب غلظة العنق عند بعض الناس، فقد تكون الغلظة راجعة لأسباب طبية، تفقد معها خلايا الجسم بعض اتزانها، أو راجعة لتعنت ظالم انتفخت أوداجه وغلظ قلبه، يستبيح رقاب الضعفاء ضربا بالكفوف والنعال، يأكل حقوقهم ويسومهم سوء العذاب، تحشرج حناجرهم بالأنين، وتغلظ رقابهم بالأسى، يدفعون حزنهم فى قرب مقطوعة وأراغيل بوص كى يسمعهم مجيب فى الموالد، ولا مغيث.
وبسطاء المصريين، جمعت طينة الأسى فى وجدانهم كثيرا من صفات الغلب ( بضم الغين وتسكين اللام)، يعرفون الغلب بقلة الحيلة والعوز، ويرون الغلبان إنسانا، قليل الحيلة يواجه طواغيت الفقر حتى لا يخور جسده، وتفسد خلاياه فلا يخلص من المرض، تعوزه الثقة بالنفس حتى لا تنهار كرامته، ويتسلط عليه الظالمون فلا يخلص من العبودية، يهيم على وجهه فى كل الموالد ينشر شكواه ولا يخلص من الأنين، ويكون الفقراء هم الغلابة من الضعفاء والمعوزين.
ويقول أهل السواحل عن الترسة، أنها نوع من السلاحف البحرية، يشيعون أن لجسدها خصائص فى جلب الحيوية للأجساد المنهكة، ويهيم بعضهم بشرب دمها والتغذى بلحمها، ويرى بعض أهل القرى والجبال، أن فى عموم السلاحف أجزاء تصلح لعقد التعاويذ، طردا للثعابين ودرءا للحسد وجلبا للذرية، إلا أن أهل مدينة الجيزة قد اتخذوا من السلاحف عنوانا للصبر وطول التحمل، فأطلقوا اسم ترسه (أو ترسا) على شارع مواز لشارع الهرم حيث الأهرامات والملاهى الليلية، ومواز لشارع الملك فيصل حيث المطاعم والمشاريع التجارية، وبرغم ذلك فقد تقلصت الخدمات الحكومية فى شارع ترسه، ليبقى مليئا بالبشر والمطبات والبيوت القديمة.
فى أخر شارع ترسه، على حافة ترعة المريوطية، بمدينة الجيزة، دفع الغلب عشرات من العمال الفقراء، لأن يقضوا بقية لياليهم جثثا متراصة تنام على قارعة الطريق تحت الأضواء الخافتة لفوانيس الشارع، يرهقهم قيظ كل صيف، ويصكهم برد كل شتاء، يتناوبون نعاسهم القلق فى بحار من مثيرات التناقض والأسى، فعلى مرأى من عيونهم المجهدة، تقبع أهرامات الجيزة والملاهى منكشفة ليلا بتبهرج الأصوات والأضواء، وعلى مقربة من بطونهم الخاوية، تنتشر الفنادق والمطاعم والمقاهى يرتادها بعض المتخمين، ويشهد أبو الهول مزيدا من وقائع المعاناة لكثير من المصريين.
فى السنوات الأخيرة عضت الأزمة الاقتصادية كل الأكتاف، وامتزجت حالة الغلب بين الناس مع حالة شارع ترسه، وأنشب المزيج أظافره لينشئ صنفا خاصا بين عمال التراحيل، يمكن أن نسميهم غلابة ترسه، صنف قد تتاح له فرص العمل فى المدينة لساعات وربما لأيام قليلة.
غلابة ترسه عمال فقراء، ألوف من الشباب والرجال، تغلظ البطالة فى ضرب أعناقهم، يتوافدون من القرى والنجوع البعيدة، يملئون مناطق محددة من شوارع معروفة بكافة المدن، يرتدون أسمالا من الملابس الفقيرة، ينتعلون مراكيب ممزقة، يتراصون صباح كل يوم جثثا منهكة، يقوسها الجوع ويكمشها برد الشتاء، يمطها العطش ويقددها قيظ الصيف، يفترشون الأرض وبجوارهم أدوات صناعتهم، قطع حديد وفئوس وأزاميل وأخشاب وجلود من إطارات السيارات القديمة، يعرضون أنفسهم طوال اليوم للقيام بأعمال لا تحتاج إلى مهارات فنية متخصصة، من هدم وتشييد بنايات ومساكن، ويتراصون مساء كل يوم جثثا منهكة، يلتحفون السماء فى نواصى الشوارع المظلمة، ويتغطون بالسقوف العارية داخل البنايات غير المكتملة، ينام معظمهم جلوس القرفصاء، تجنبا لرطوبة الأرض وتحسبا لمطاردة المتطفلين، ويتناوبن النعاس على دفعات، فئة منهم تحرسها أخرى.
كلنا يرى غلابة ترسه، منتشرين فى معظم الشوارع، دون قوانين تحميهم فى ظروف العمل العشوائى المؤقت، لا تتولى رعايتهم جمعيات أو نقابات، ولا تسعى جهة لإعادة تأهيلهم حرفيا حتى يزداد الطلب على خدماتهم، بدلا من اقتران وجودهم بشغل السخرة، وانتظار الإحسان من أصحاب البر.
إن غلابة ترسه، ألوف من القنابل الموقوتة للانفجار اجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا، ونزع فتائلها يحتاج إلى بحوث علمية تدير أزمتهم، وتجد الحلول لمشاكلهم، قبل أن يفجعنا وقوع انفجار كبير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موجز أخبار الرابعة عصرًا - الأونروا: الأوضاع في غزة كارثية ج


.. جهاز الشاباك: حذرنا بن غفير والأمن الوطني من استمرار الاعتقا




.. شهادات أسرى غزة المفرج عنهم حول التعذيب في سجون الاحتلال


.. مواجهة شبح المجاعة شمالي غزة بزراعة البذور بين الركام




.. مدير مستشفى الشفاء: وضع الأسرى في السجون الإسرائيلية صعب ومأ