الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
النائب الحقير
علي بداي
2017 / 6 / 18الادب والفن
في تلك الأيام التشرينية، وقت طارت في كل الأصقاع أخبار" أبو طبر" الذي يفتك بالناس نياماً بفأس بتارة ، كما يفتك الجزّار بأشلاء خروف، وعندما شكل جيراننا فرق الحراسة التي كانت تجوب الطرقات بحثاً عن غرباء يتسلقون السطوح ، كنا نحن اليافعين ننهمك بالتساؤلات عن من يكون "أبو طبر" هذا الذي يتحدى الحكومة كل ليلة ونرسم في مخيلتنا أشكالاً مفترضه له تقترب في بعض الأحيان من أشكال جيراننا ضخام الأجسام أو الهاربين الموسميين من الخدمة العسكرية. كنا نتسلى بقصة " أبو طبر" التي كانت تقترب في كثير من مفاصلها مما نشاهده يومياً من أفلام رعب وجريمة في التلفزيون. وحتى الدوريات التي شكلها الأهالي كانت تنتهي الى ملتقيات إجتماعية في المقاهي ومناسبات لهو غير جادة بسبب من أن لا أحد كان يصدق واقعية القصة. ولكن بعد أن زار " أبو طبر" محلتنا وقتل ثلاثة من جيراننا من بينهم صاحب المخبز تاركاً في الحي هلعاً لامثيل له وبصمات غامضة حيرت الجميع، عندها أحس الكل أن " أبو طبر"حقيقة تتجول بين بيوتهم.
مُنع التجول ونظمت الدولة زيارات للبيوت للتعرف على مايقود الى الجاني. كانت القصص تتوالى عن شكوك هنا وشكوك هناك تولدت لدى فرق التفتيش، وعن آثار غير محسوسة خلفها "أبو طبر" على مايلامسه من أوان، وقبضات أبواب ،وجدران ،وملابس وجثث الضحايا، وأن تحليل بصمات أصابعه تطابق مع بصمات البعض من جيراننا فعم الهلع والرعب سكان حينا... الى أن تجمدنا صباح يوم التفتيش أمام أفراد فرقة من المفتشين دلفوا لبيتنا كمجموعة توزعت محتلة مواقعها بين المطبخ والصالة والسطح وحديقة الدار.إنهمك أحدهم بتفتيش المطبخ مولياً إهتماماً إستثنائياً للثلاجة والفرن الغازي اللذين تعرضا لعمليات فتح وغلق أبوابهما وتفريغهما بوتيرة متكررة وبشكل إختباري. وكنا، ونحن نتجمد على حافة الهاوية و لفرط إنشدادنا للمشهد المثير وما قد ينتج عنه، نحدق بخوف لامثيل له بكل من الفرن والثلاجة خائفين من إنفلات " ابو طبر" فجأة من مخبئه الدافئ أو المتجمد. ترك المفتش محتويات الفرن والثلاجة خارجهما وهرع لنصرة صاحبه الذي كان يعاين سطح الدار. لم يعثروا في بيتنا على مسدس ولا على "طبر" ولا على أي سلاح آخر، لكن قائد المجموعة، المتمتع بصلاحيات غير محدودة على مايبدو، أراد أن يبرهن للجميع على عبقريته في التحقيق فصاح بشخص ضخم:
"مطشر"..تعال أحفر هنا .."
وبدأ "مطشر" الذي مدت قامته الشاهقة ظلاً هائلاً لها على الأرض توجيه طعنات قاسية من معوله الى عشب حديقتنا الذي كان يصرخ ألماً ، كنا نحرص على رونق العشب وإخضراره و لكأن مطشر عرف بمكانة حديقتنا في حياتنا فكان يوجه لنا بين طعنة وأخرى نظرات شاكة متهمة مهينة . حوّل " مطشر" مقدمة الحديقة الى منطقة تحريات وساحة حرب خلال دقائق فحفر قرابة خمسة أمتار ناثراً العشب والتراب على وجوهنا المرعوبة المحملقة بالأرض بعد أن تخيلنا أن معجزة ستحدث وستصطدم فأس " مطشر" بمعدن من العصر السومري، أو آنية نحاس من بقايا البابليين وستُسجل على أنها "بقايا طبر" أو أن يعثر "مطشر" بالفعل على مسدس أو أي سلاح كنا متأكدين من عدم وجوده .. وفي هذه الأثناء صاح واحد من المفتشين من بعيد بزهو:
" سيدي..... عثرنا على هذا!"
ولوّح من بعيد بشئ ، وعيونه تبحث عن جمهور يصفق ويهتف، فكادت الدماء أن تتجمد في عروقنا ..لقد عثروا على دليل سيطيح بنا جميعاً ..عثروا على ماسيفضح ضلوعنا في تأسيس "مؤسسة " أبو طبر" للأعمال الإنتقامية" ...نظرت الى أبي، كان مبهوتاً وقد غادرت وجهه ملامح الحياة ، وفي تلك الأثناء كان المفتش قد وصلنا ملوحاً بما إعتقدناه بقايا "طبر" لكن الدهشة عقدت ألسننا ثانية حين تيقننا أن المُلوّح به لم يكن سوى كتيّب هزيل من الطبعات التجارية لا أعرف كيف كان إستقر على رف الكتب بين كتبي الدراسية. كان كتاباً قديماً أثار حفيظة قائد المجموعة المفتشة فصاح مخاطباً أبي: "لمن هذا الكتاب؟"
أجاب أبي بإسارير منفرجة وقد أعاد له الكتاب الذي خاله أول الأمر طبراً بعضاً من توازنه: "هذا من كتب إبني عمار.."
كان الكتاب رواية " النائب الحقير" المترجمة عن الإيطالية أو الأسبانية لكاتب لايعرفه أحد.
"هل هذا الكتاب لك؟""من أين أتيت به؟""ماالمقصود به؟ "
سأل قائد المجموعة ثلاثة أسئلة متلاحقة كأنما صلية رشاش وعيناه تتفرسان بي.
فجأة شعرت بطعنة في صدري ! ياربي كم كنت غبياً ؟ منذ أن دخل بيتنا قبل أربع سنين ولحد الآن، لم أكن قد فكرت ولا مرة واحدة أن هذا الكتيب التجاري البائس، أو على الأصح أن إسمه.." النائب الحقير" قد يوصل للهلاك! حين إستعدت إسم الكتيب في ذهني شعرت بالفزع، ومن خوفي فقدت السيطرة على أعصابي فقلت دون أن أقصد توجية سؤال:
"هل من المعقول أن "أبو طبر" كان يقتل الناس بالكتب؟"
إستدركت بسرعة، كي ألحق جملتي المخبولة التي تدحرجت من فمي حين كان مفتوحاً من الدهشة:
"هذا الكتاب.. يا أستاذ ..يتحدث عن ...مندوب في شركة ..كان هو أجنبي..وكان........"
ولم أتمكن بسبب هلعي من ترتيب الجملة بشكل مفيد ومقنع الى نهايتها فإمتدت يدي الى الكتاب بحركة غير مسيطر عليها لكي أبرهن لقائد مجموعة التفتيش أن ليس النائب وحده هو الحقير بل من يُبقي على هكذا كتاب " مشبوه" يستفز مجرد إسمه قائد مجموعة تفتيش تتحرى عن مجرم خطير..قمت بتمزيق الكتاب على مرآى من القائد ومجموعته. لكن فعلي لم يقع موقع الرضى التام في نفس القائد فصرخ:
"الآن؟ هل هناك كتب أخرى ضد "الحزب والثورة" لاتنسجم مع "قيمنا وشمائلنا العروبية التاريخية" ؟
ولأن الكلمات كانت تتزحلق في حلقي فوق بعضها خائفة يلوذ بعضها ببعض، لم أفلح في تركيبها بشكل قول مايمكنه أن يقنع قائد المجموعة بأن " النائب الحقير" قد وجد صدفة في دارنا، صدفة نحس مثل الصدفة التي تدفع "أبو طبر" لإختيار ضحاياه، او الصدفة التي جعلتنا نعيش في هذه البلاد، ولأني كنت متأكداً من خلو دارنا من أي مطبوع غير كتب المدرسة، سارعت الى إيكال مهمة التعبير ليديّ اللتين بدأتا بإنزال كل الكتب وعرضها على قائد المجموعة.
وكان أبي أيضاً قد سارع الى إخماد اللهب قبل أن ينتشر فقال بلهجة مصالحة يخاطب قائد المجموعة: "بخلاف كتب الدراسة لا أرى أي داع لوجود أي كتاب آخرفي البيت"
وهنا إقترف أبي خطأ غير مقصود فكان كمن يطفئ النار خطأ بالبنزين، فبدلاً من النتيجة التي كان يروم الزحف بإتجاهها وهي أن تنتهي ورطة التفتيش بإنتهاء حياة كتاب" النائب الحقير" وتنسحب مجموعة التفتيش بتقرير يفيد بأن "أبو طبر" لم يُصنع في بيتنا، لاهو ولا طبره..بدلاً من ذلك، أثار رد أبي قائد المجموعة الذي صرخ: " كلا... ليست كل الكتب . كتب "السيد النائب" و "الحزب القائد" نور لكل بيت"
فقال أبي جملة إستدراكية مستعجلة خرجت من فمه متيبسة تماماً: " نعم ..قصدت كتب الحزب.. والدراسة..نعم..نعم.."
ورآى عمي "ناطق" الذي لقبناه " ناهق" في الواقعة فرصته لكي يستعرض معارفه وولاءه أمام القائد وفرقة المفتشين فأضاف: " كل الصدورات المستوردة "اللي مو من واقعنا العربي الإشتراكي هي دخولية ومو نظريات حرة وصميمية"
ثم أردف: " وكُتب السيد النائب نور "لمن هدى" ونار "لمن عدى"!"
كدت أضحك، أو أبكي، أو ألطم على صدري، أو أضرب على رأسي، أو أنطح الحائط أو نفسي، أو أنطح عمي في رأسه الذي يشبه بطيخة فاسدة. ماذا أفعل ياربي مع هكذا عم ؟ لكني كنت على العموم مبتهجاً بالزوال التدريجي لخطر الكتاب الذي تمزق مشيعاً بنظرات وعيد وإزدراء من قبل المجموعة وقائدها.
منذ ذلك اليوم المشهود، تقرر أن تتعرض الأوراق الداخلة والخارجة من بيتنا الى فحص دقيق، وتقرر كذلك إلغاء مايسمى بدفاتر المذكرات، واليوميات نهائياً وإحراق الرسائل العائلية، ودعوات الحفلات ، والتعازي بمجرد الإنتهاء من قرائتها. كل ذلك بسبب" النائب الحقير" الذي لم نحصل منه على غير الرعب والكوابيس...
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. كيف تفاعل مشاهير وفنانو سوريا مع سقوط بشار الأسد؟ | هاشتاغات
.. المملكة العربية السعودية تسدل الستار عن مجمع استوديوهات للإ
.. رسالة مهرجان البحر الأحمر..السينما المصرية تخطف الأضواء.. تك
.. الفنان جمال سليمان للعربية: قد أترشح لمنصب رئيس الجمهورية ال
.. رسالة مهرجان البحر الأحمر مع علي الكشوطي .السينما المصرية تخ