الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الباب المتبقّي

سهير فوزات

2017 / 6 / 20
الادب والفن


أمام الباب الموصد وقفَتْ، يختلط المطر المتقاطر من أطراف ناصيتها مع الكحل الذائب على وجهها المبتلّ وأنفها وشفتيها، ثم ينعقد خيطًا في أسفل الذقن ليسيل كجدول صغير على عنقها بين جهتي ياقة القميص الزهريّ ثم يغيب في عتمة ما بين نهديها.
هل كانت تبكي أم أنه المطر وحسب؟! كانت حنجرتها تغصّ بما تبقى من صوتها بعد أن نادت عليه مرارًا، كفّاها معقودتان تمسكان طرفي ثوبها الذي جمعت فيه توتا بريا قطفته لأجله.
- عمر افتح... قطفتُ التوت هذه المرة! جملة تعني أنها لم تجمع الصبار أو الأحجار النادرة كمرّات أخرى، جملة تقول بها: أحضرت لك ما تحب ولا شيء آخر.
هذه كانت آخر جملة كرّرَتْها على مسامع الباب الخشبي المتشقق الصامت كجد عجوز. هذا الباب القديم الذي يشبه ماردًا هاربًا من حكايا الأطفال والذي أخفى قصتهما لأكثر من أربع سنوات.
المطر غزير ومتواصل يذكرها بنهاية رواية مئة عام من العزلة، والليل قطّ شرس يغرز أظافره في لحم وحدتها. لم تكن تريد أن تصدّق أن هذا الباب السحري الذي يفصلها عن الشمس قد أغلق في وجهها إلى الأبد دون أن تدري سببا لذلك.
في المرات الكثيرة التي كانت تأتي هنا كانت تناديه باسمه عدة مرات:
عمر... عمر هل أنت هنا ...
ثم تطلق جملة السر: عمر يلعن ربك
تلك الجملة التي تعني في قاموسهما اشتقت لك كثيرًا -أوفي سياق آخر: ما أجملك!
وكأن لعنة الرب هي كلمة السحر لكهف كنوز فِكرٍ يتشاركانها معًا، والتواطؤ السري الذي تقوم عليه كل علاقتهما. تلك الكلمة كانت تخرجه من صبره على مشاكستها ضاحكًا ليفتح الباب كما ذراعيه فيطوقَها مجتازّا بها العتبة نحو الداخل الذي لا يعرفه سواها- أو هكذا كانت تحب أن تعتقد- لتقضي معه عدة ساعات مسروقة من الزمن لا يحسبها حراس العمر كما كان يقول.
حين لا يفتح كانت تنتظر قليلا، تنصت... تطرق بقبضتها رشّة إيقاع مختلفة كل مرة، ثم تخربش بعض الكلمات المجففة والكلام العابث وتمضي مبتعدة.
اليوم لا تستطيع أن تغادر، كانت تعرف أنها إن أدارت ظهرها للباب هذه المرة ستكون آخر مرة تطرقه فيها، ليس الكبرياء ما يمنعها من العودة، لكنها بدأت تجد صعوبة في العثور على الباب في الدروب المتشابكة وبدأ يراودها الشك بأنه باب افتراضي غير موجود إلا في رؤاها.
ذاك الشك الذي زرعته نظرات صديقتها المقربة في المرة الوحيدة التي حاولت فيها أن تحكي لها عنه، فبدأت تطرح عليها أسئلة غريبة وكأنها تشك في صحتها العقلية، حينها استدركت الأمر وقادت الحديث بروح الفكاهة نحو تشويشها وصرف نظرها، فحتى إن كانت أعز صديقة لها، لن تفهم هذه الحالة النادرة والمغامرة الفريدة التي تعيشها بعلاقتها مع عمر، ومن يدري ربما تخربها مدفوعة بالحرص أو ربما الحسد.
لن تعود أيضا لأنها كانت تعرف أن رسائل الحبر المالح لا تعيد حبيبا قرر الرحيل.
المطر ينقر رمل الطريق خلفها والريح بدأت تولول في جذع شجرة فارغ قربها، وهو وبابه الموصد في ضفة المجهول، لم تكن تشعر بالبرد فهنا يهطل المطر حتى في الصيف، أما هناك عنده، في بلد الشمس، في الوجه الأخر للباب، فالمطر هو لعنة الروح ووجهها العابس، يحمل معه غضب السماء وعنفها ويخرج من الأرض كل أوحالها وأوساخها... لكنه نادرا ما يهطل.
راحت تفتش في ذاكرتها القريبة عن سبب غيابه، كان رجلا بمئة ثوب ومزاج كسماء الخريف، رجل كالحب كلما عرفته أكثر جهلته أكثر.
(قربَ قبلتِنا الأخيرة
غيمةٌ تعدو
عالقةً برقبتِكَ)* هكذا قال لها آخر مرة وهو ينسج حصيرة من أصابعه وخصلات شعرها.
لم يخطر ببالها أن تسأله لماذا الأخيرة، أيّةُ حمقاء تكون إن طاردت غزلان المجاز ببندقية السؤال!
أغمضت عينيها علّها تخطو داخل بابه، مجرد أن تخطو بين ذراعيه كمن يخطو فوق شاطئ المتوسط، ينفخ على وجهها وينفض بأصابعه الماء عن قميصها الذي شفّ، فيكسوها الربيع حتى نهايات شعرها... فتحت عينيها والباب لا يزال مغلقًا.
تحاول أن تستعيد تفاصيل آخر لقاء... فتفشل، فقط لو كانت تعرف أنه اللقاء الأخير لتابعت كل حركة وسكنة فيه.
في بعض المرات كانت تحمل بين ذراعيها ثمار الصبار بدل التوت، كانت تلقي بها أرضا بعد أن تدخل ضاحكة، وتتظاهر بالمرح وعدم الاكتراث وتبدأ في نزع الشوك من كفيها وذراعيها
دون أن تتوقف عن الكلام، لم تكن تريد اقتسام الشوك معه، يكفيه ما به، كانت تقول، أما هو -وكما يليق بعاشق- كان يجلس بجانبها واضعا ذراعه الطويل النحيف على كتفها وهو يزيح شعرها عن وجهها كمن يزيح الأوراق عن وجه فاكهة قبل تذوقها، ويطالع كل تفصيل في قسماتها، كان يتظاهر بتواطؤ خفيّ أنه يصدق لا مبالاتها وعدم تألمها، ويتشارك معها الضحك على لا شيء، أليس هو من قال: (نحتاج أن نقهقه كي لا نسمع الأصوات تحت الأنقاض)
لكن جراحه كانت تبدأ توّا الحديث السري مع جراحها بلغتهما الخاصة.
(كطائرينِ لم يغوِهِمَا العشُّ
بل شرارةُ الصدفة العظيمة
نعيشُ الحبَّ ونفترقْ
بلا ذنوبٍ ولا أضاحٍ
تماماً كما يليقُ بهذا النهارِ الفسيحْ)*
نعيش الحب ونفترق !
كيف لم تنتبه لكل رسائله الخفية تلك، كانت تسبح في نشوة كلماته ولا ترغب أن تفكر في لحظة الصحوة، لا ترغب أن تعكر جمال اللحظة بفكرة العودة إلى خراب العالم الخارجي.
لكن لماذا كل هذا الشك؟! لماذا تظنه في الداخل ولا يريد استقبالها، ربما لم يعد بعد من جولة جمع ذكريات الرفاق، أو جثثهم. أتراها اصطادته عين القدر في إحدى جولاته الخطيرة؟
لكنه حتما سيعود، أليس هو من قال:
(قلبكَ أبعدُ من عينِ القنَّاصْ
قلبكَ هرَّبَتْهُ الطيورُ إلى الجنوبْ
من سيموت؟
هناك
ستنبتُ قلوبٌ
لها شكلُ شتائِكَ حولَ الحَطَبْ
قربَ قبلتٍنا الأخيرة)*
أتراه رحل إلى الجنوب لينبت قلوبا كثيرة، إنه مجنون قد يفعلها، حتى بعد أن جادلته مرارًا في هذه الجملة، وأقنعته -أو كادت- بأن مطر السماوات أصبح على مزاج الكوكب لم يعد ينبت من القلوب قلوبا بل أسلحة! بل وأصبح يتلف ما يرفض التبرعم.
طقطقة من ناحية الباب تخرجها من شرودها فتزحف ابتسامة ذهول وأمل على وجهها، الباب ينفتح بمصراع واحد يروح ويجيء على مفصله السفلي مصدرا صريرا حادا. هناك في الداخل لم يكن ثمة شمسٌ أوعواصفُ أو أدنى مظهر حياة، لم يكن هناك أكثر من ملامح بيت يبكي، كانت قد استباحته للتو قذيفة!
_______________________________________
*كل الأشعار الواردة بين قوسين في هذه القصة هي للشاعر السوري عمر يوسف سليمان.
القصة من مجموعة قصصية قيد النشر (ذكريات من سفرجل)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل