الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان أمام غياب اليقين

رحيم العراقي

2006 / 2 / 3
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


ايليا بريغوجين، المشرف على انجاز هذا الكتاب، حائز على جائزة نوبل للكيمياء عام 1977 يحمل الجنسية البلجيكية وهو من اصل روسي.. جعل مهمته الاولى هي الربط بين العلوم «البحتة» بالمعنى الرياضي والفيزيائي وبين العلوم الانسانية والاجتماعية
قام بالتدريس لسنوات عديدة في الولايات المتحدة الاميركية. له العديد من المؤلفات والدراسات التي جمع فيها كلها بين العلم وحياة البشر في افق محاولة فهم العالم. كان «بريغوجين» قد غادر روسيا مع اهله عام 1921 بعد ان قام النظام البلشفي بتأميم مصنع الكيمياء الذي كان يمتلكه والده ووصلت الاسرة كلها الى بروكسل للاقامة نهائيا عام 1929 بعد «محطة» لسنوات في برلين.
كان اختيار بلجيكا لكون ان والدته كانت تتحدث اللغة الفرنسية، ان مثل هذا المسار يذكر كثيرا بذلك الذي عرفه روسي آخر واشتهر كثيرا في الغرب وهو الروائي فلاديمير نابوكوف مؤلف رواية «لوليتا» الشهيرة فكلاهما كانا قد تعلما منذ سنوات الطفولة اللغتين الفرنسية والانكليزية فضلا عن الروسية بالطبع والى حد ما اللغة الالمانية ولعل هذا التنقل والترحال من مكان الى آخر هو الذي اعطى «لايليا بريغوجين» الاحساس بـ «عدم الاستقرار» و«غياب اليقين» ومن هنا كان اهتمامه بالفلسفة وضرورة الربط بينها وبين العلوم
وتتمثل احدى الافكار الرئيسية التي يتم تطويرها في هذا الكتاب «الانسان امام غياب اليقين» في اعتبار ان الاهتمام بالفلسفة يجعل مسألة الزمن أساسية لانها تطرح مشكلة المسئولية والاخلاق وادرك بريغوجين ايضا بان مسألة الزمن هي في صلب الميكانيك.. لكن مسألة الربط هذه كان قد توقف التفكير بها منذ زمن نيوتن واينشتاين وبهذا المعنى يبدو ان المسائل الفلسفية بل والميتافيزيقية هي التي دفعت بريغوجين نحو الاهتمام بالعلوم ويروي انه اهتم اثناء شبابه بعلم النفس على قاعدة رغبته آنذاك في ان يصبح محاميا يدافع عن «المجرمين» وقد اكتشف ان فهم الانفعالات الانسانية يستدعي معرفة الخلايا و«النورونات» وعلى هذا الاساس قرأ بعض المراجع «الخلايا النباتية» مما قاده الى الكيمياء ومنها الى الفيزياء.
ويجد بريغوجين بان «الديناميكية التقليدية» للعلوم اعطت نوعا من «القناعات الثابتة» حسب قوانين محددة بل ان بعض التيارات تحدثت عما أسمته بـ «قوانين التاريخ» وكأن مسيرة المصير الانساني حقل لـ «الفيزياء» وما يلفت الانتباه هو ان هذه النزعة «التحديدية» للمسيرة التاريخية وجدت قبولا كبيرا لدى اغلبية المهتمين وذلك لانها كانت تستجيب لحاجة البشر الى «اليقين» في عالم يمور ويموج..
ومن هنا وضع الفيلسوف المعروف «لايبنز» العلم في مكانة سامية لانه يقدم هذا الاحساس باليقين او على الاقل «وهم اليقين» ولايبنز هو صاحب المقولة الشهيرة «المتفائلة» والتي مفادها بانه «لم يكن بالامكان احسن مما كان» ومن هنا ايضا قام بـ «تمجيد» اللحظة الحاضرة بعيدا عن الماضي والمستقبل ويرى بريغوجين ايضا بان «النزعة التحديدية» تسمح بالاعتقاد بـ «امكانية السيطرة على العالم» اي بمعنى آخر: «اذا تم تحضير الشروط الجيدة الاولى يمكن ان نتحكم كما نريد بالعالم».
وعلى الرغم من تأكيد بريغوجين بان «النزعة التحديدية» لاتزال مقبولة من اغلبية الفيزيائيين فانه يرى بالمقابل بان جميع المعلومات المتوفرة تؤكد بان البشر يعيشون في عالم شديد التنوع وهذا ما يمكن ملاحظته بـ «الملاحظة» المجردة ان القناعة «اليقينية» بعكس ذلك أي بسيادة «النزعة التحديدية» لابد وان تؤدي في الوصول الى عمق الاشياء الى الغاء مفهوم الزمن ذاته وبالتالي لابد في هذه الحالة من ان تنفصل الفلسفة عن العلوم لكن بنفس الوقت تؤدي «القناعة اليقينية» في مجال العلوم وقوانين الطبيعة الى نوع من «التحرر» من ضغط «غياب اليقين» ان بريغوجين يرى في هذا «نوعا من التبسيط» ان هذا الفيزيائي الشهير
وفي مواجهة «التحديد» يتحدث عن عالم «الاحتمالات اي ان تطور العالم يقبل عدة احتمالات ممكنة. هذه المقولة تعيد لمفهوم «الزمن» دوره بحيث يصبح هناك «اختلاف اساسي بين الماضي والحاضر فهذا يعني التماشي مع التطور الذي تشهده الانسانية في تاريخها الطويل وفي الحقبة الاخيرة التي شهدت ثورة المعلوماتية والاتصالات في ميادين البيولوجيا وعلوم الفلك وغيرهما من العلوم ومن هنا ايضا يصبح «مؤشر الزمن» هو بمثابة «السمة الاكثر قوة ـ يونيفرسال ـ لعالمنا. انه يدل على الشيخوخة وانما ايضا على الابداع والاختراع.
وتتعرض عدة مساهمات في هذا العمل لمفهوم «الفرد» او بدقة اكبر «فردية الفرد» ضمن اطار العلاقة مع المجتمع الذي يحيط به وبحيث يبدو ان هناك نوعا من «التوازي» بين اختراع مفهوم «المجتمع» ومفهوم «الفرد» ضمن اطار المسيرة التاريخية للانسانية، اذ «لايمكن تصور الانسان ـ الفرد ـ معزولا عن محيطه الاجتماعي» كما ان المنظومة الاجتماعية تمثل اطارا لتفاعل عمل الافراد الذين تتكون منهم.
وضمن مثل هذا المنظور يتم رفض الرؤية «الكلاسيكية الميكانيكية» التي ترى في الوجود الانساني مفهوما ساكنا «جامدا» ويرى بريغوجين وآخرون بان الوجود الانساني يعني فلسفيا المساهمة في العملية الابداعية التي يساهم فيها الكون والانسان معا ذلك انما ما ينتجه الكيميائيون مثلا او «يكتشفونه» انما هو موجود اصلا في الطبيعة «الخلاقة» عبر توليفات رياضية لم يفعل الانسان سوى انه اكتشفها وتابعها.
ومن الواجبات الاساسية التي يتم التأكيد في هذا الكتاب على ضرورة ان يتصدى الانسان لها هناك «فهم العالم المحيط» ولكن ايضا وخاصة فهم علاقة الانسان مع الطبيعة.. ثم ان مثل هذه العلاقة كانت دائما بمثابة «محرك» تطور مسيرة الانسانية الحضارية ثم ان الثقافة نفسها هي باحد ابعادها الرئيسية نتاج لـ «ملاحظة» الانسان للعالم الذي يحيط به عبر هذه الملاحظة كانت «ولادة» الشفافة.. ثم ان العلم نفسه بصيغته الحديثة هو بمثابة استمرار لدراسة الوسط المحيط» ضمن نفس الاطار ايضا هناك نوع من «التوازي» بين الابداع في العلم والابداع في الادب.
لكن يمكن هنا فتح قوسين والقول بان الابداع الفني قد يكون «ارفع» من زاوية الابداع نفسها من الابداع العلمي اذ ليس هناك من يشك لحظة واحدة بان بيتهوفن او موزارت او ليوناردو دافنشي كانوا مبدعين كبار اما كريستوف كولومبس فقد اكتشف اميركا لكن اميركا كانت موجودة قبل ان يكتشفها مثله في ذلك مثل باحث يتوصل الى اكتشاف «جزئية» ما حيث ان هذه الجزئية تكون موجودة من قبل. ايضا مسألة الابداع هي اذن ايضا نسبية.
ان السمة الاساسية للعالم الذي نعيش هي، وكما يراها المساهمون في هذا الكتاب، هي انه عالم متبدل كما ان الانسان يمتلك فيه هامشا اكبر فاكبر من الحريات الامر الذي قد يسيء للصرامة العلمية بشكل خاص وكما قال هيغل ذات يوم بانه «من السهل اكثر على المرء ان يكون عبدا مما ان يكون سيدا» ذلك انه مطلوب من السيد ان يتخذ قرارات ويقوم باعمال لا عودة عنها ومن هنا تأتي «صعوبة مهمته». وبعد والحديث عن «تصور التاريخ» يتم تطوير الفكرة القائلة بان مراقبة مسيرة تطوره رغم الازمات التي عرفتها وستعرفها الانسانية فانه يبدو باننا نتوجه نحو هامش اكبر من الحرية ومن الاستقلال الذاتي ولكن بنفس الوقت ليس نحو قدر اكبر من السعادة ذلك ان التداخل بين عمل الناس سيغدو اكبر وسيكون له مستلزماته الجديدة.
كما ان التغير سيصل الى النشاط العلمي نفسه لقد كانت النخبة وحدها هي التي تمارس النشاط العلمي بل وكان «اينشتاين» قد رأى بانه ينبغي على العلماء «الانفصال» عن المجتمع من اجل ان يتمتعوا بامكانية «الابداع بحرية» اما اليوم فقد تعمم وسيتعمم اكثر فأكثر اهتمام رأي العامة ـ عامة الناس ـ بالعلم وهذا يترتب عليه «مسئولية اكبر على عاتق العلماء ومسئولية وقلقا ايضا انه القلق امام «غياب اليقين» حيال المآل الذي ستؤدي اليه الثورة العلمية الجديدة المتحدثة بتكنولوجيات المعلوماتية والاتصالات وحين يبرز السؤال الكبير: الى اين يذهب العلم؟
هذا في ظل «آلانقلاب الخطير» الذي عرفته طبيعة النشاط العلمي ذاته ذلك ان الانسان وخلال مسيرته الطويلة كان يسعى للسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم اما اليوم فانه يريد ان يسيطر على العلم نفسه «ايليا بريغوجين» يرى بان هذا القلق «مشروع» فالعالم لايزال يعيش في ظل التهديد النووي وماذا عن منظور المستقبل؟ يبدو ان المشاكل المطروحة على البشر هي ذات طابع اخلاقي والمطلوب اولا وضع حد لحالة اللامساواة المرعبة السائدة في العالم والتي تتفاقم اكثر فأكثر مما يزيد من حالة «غياب اليقين» حول مصير العالم. ان هذا الكتاب يجمع في الواقع بمشاركة ايليا بريغوجين وباشرافه سلسلة من الدراسات التي كان اصحابها قد اعدوها للاحتفال به بمناسبة بلوغه سن الثمانين وباعتباره صاحب رؤية للعالم تجمع بين العلم الدقيق والعلوم الانسانية وتقوم على اساس «نهاية القناعات الصارمة» و«قوانين الفوضى» كما جاء في عنواني كتابيه الاخيرين
واذا كان العلم هو وسيلة السيطرة على الطبيعة فما هي وسائل السيطرة على العلم؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تحرك تصريحات بايدن جمود مفاوضات الهدنة في غزة؟| #غرفة_الأ


.. ممثلة كندية تتضامن مع غزة خلال تسلمها جائزة




.. كيف سترد حماس على بيان الوسطاء الذي يدعوها وإسرائيل لقبول ال


.. غزيون يستخدمون مخلفات جيش الاحتلال العسكرية بعد انقطاع الغاز




.. صحيفة الغارديان: خطاب بايدن كان مصمما للضغط على إسرائيل