الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر شيركو بيكه س : وطن واحد لايكفي لرقصته الكونية

كاظم الواسطي

2006 / 2 / 3
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


بدت لي الكتابة عن قصائد- ملاحم الشاعر شيركو بيكه س ، بعد قراءة مختاراته الشعرية ( أنتِ سحابة.. فأمطرك )، أشبه بمحاولة الصعود إلى سفوح وقمم كردستان تجول بين غاباتها الكثيفة ، وكهوفها المعلقة على المنحدرات الحادة ، والبحث هناك عن فرسان تجّذر في أرواحهم صوت المعذبين ، فاتخذوا من لون الورد ، وشكل البلوط ، وطيران القبرّات الصغيرات ، فضاء يحجبون عنه غبار خطوات غريبة ، وثقيلة ، بقوة تأصل جذور الحياة في تلك الكائنات ، ورموزها الحيّة في ذاكرة طفولتهم ، وحاضر أبنائهم المهدد بالفناء . وهي ، أيضا ، توليفة عطر يتضوع من حقل زهور متنوع الروائح و الألوان ، كما هي روح الشاعر . حيث لكل زهرة – كلمة..رائحة- معنى ، لا يفهمها المنبوذون من الورد ، وحمقى النفوس المتيّبسة ، بلونهم الواحد . وانك كي تستطيع أن تفهم ، وتستنشق كلمات- أزهار شيركو بيكه س عليك أن تُعيد تركيب حواسك ، لتنظر بإذن الأصم ، وتسمع بعين الأعمى ، وتتذوق شيئا لم يعتده لسانك من قبل . فروح الشاعر مخلوقة لأكثر من عطرٍ ، أو معنى واحد.
ولكي تكون قريبا من قصائد- طيور شيركو ، تحتاج إلى أجنحةٍ ملّونة تُطلقك في فضائه الرحب ، وبين غيومه البيضاء ، التي تعكس على صفحاتها ، إشراقات قمم وصخور أرضه الصلبة ، وصوت قبّراته الحزين . إن الشاعر لا يهرب في الهواء من طواحينه ، فأجنحته مقدودة من لحاء الشجر ، وصوت الشلال ، وكركرات الصبايا ، بثيابهن المزركشة ، بين الورود . لذا ظل شيركو باحثا ، بصلابة تلك الأجنحة ، عن الحرية المفقودة ، في أزمنةِ قيّدت كل شيءِ بضراوتها ، وقسوتها..من البلوطة الصغيرة على الأرض ، حتى قمة الجبل في الفضاء . بل الفضاء والأرض نفسهما لم يسلما من غازات تلك الأزمنة السامة ، يوم انتشرت في سماء حلبجة ، وأسقطت الطير من هناك في أحضان أطفال ميتين ، على أرض فقدت خصوبتها، ومات زرعها . ويوم غادرت طيور اهوار الجنوب ، مذعورة من صرير جرافات الموت الفاشي ، تاركة الأرض والفضاء بلا حياة . هي غازات ، وجرافات حرث الماء ، والهواء ، والنسل .
من هناك نعرف ما يعنيه شعر بيكه س ، الذي وجد السواد واحدا ، من قطرة الماء الناشفة في أهوار الجنوب ، إلى زهرةٍ ميتة في حلبجة ، مرورا بأصغر بقعةٍ معتمة في كوسوفو . مثلما يجد ضياء الحياة ذاته في ابتسامة فتاة كردستانية ، أو عطر امرأة حسناء من الغرب . ولأن الشاعر ابن للسلام والحب ، ومدافع عن الحياة في أصغر ذرّة تتعرض للهلاك والموت ، فأن قصائده تواصل كسر قرميد الجدران العازلة للحب ، هنا أو هناك . تلك الجدران التي بنتها أناشيد الحماسات الزائفة ، وشعارات القناعات المغلقة ، والمتحجّرة في أذهان من نتاج أسمال التاريخ ، أغرقت حياتنا بالبلادة ، والعزلة ، والتلذذ بموت الآخر . ألم يكسر شيركو ذلك القرميد بشعاع روحه حين سافر بحلبجة إلى بغداد ، جاعلا من أبناء تلك المدينة المنكوبة فراشات ، و من غازات الفاشية غيوما بيضاء ، تحط سلاما على دجلة ، التي هي دجلته ، مثلما العراق ، أو أي مكان في العالم ، هو عراقه ، وعالمه .

ستذهب حلبجة إلى بغداد قريبا
عن طريق غزلان سهول ( شيروانه)
........................
تنهض دجلة بوجل
تنهض بكامل هيبتها.. وتحتضنها
ثم تضع طاقية الجواهري على رأسها
بعدها....
تقترب يمامتان من النجف
يفجّر حنجرتيهما الهديل
تحطان على كتفيها ( من قصيدة حلبجة تذهب إلى بغداد.. من خارج المختارات) . وتظل روح الشاعر تتسع ، وتتسع لكل تنويعات الوجود الإنساني ، التي تتوتر ، وتُختزل بقوة الشعر ، وموحيات ذاكرة الشاعر، ذات الصلة الحميمة بالوجود والحياة، لتصبح روحا لكل الدنيا . أو كما أوضح ذلك ، جليّا ، الكاتب والمسرحي العراقي محي الدين زه نكه نه ، في مقدمته للمختارات ( أية دنى في المساواة والحرية والسعادة تلك التي تحلم بها وتتطلع إليها .. وتأمل خلقها قصائدك ، يا شيركو، يا روح كردستان التي تضم تحت جناحها الامومي الرؤوم روح الدنيا كلها وتحنو عليها .) .
ويُنزل شيركو الشاعر أو الإنسان من برجه الوحيد المغلق على ذاتيةٍ مفرطة بالتضخم ، وأل ( أنا ) التي تحاول أن تجعل كل شيء دونها . فأن يكون هو ( الشجرة الجميلة الحيدة ) و ( الخيل الأصيل الذي لا يموت صهيله ) و ( الجبل الشاهق الوحيد ) .. يعني تحويل كل الأشياء من حولها إلى رماد حروب :

هذه الدماء لن تتوقف كما يبدو
إلى أن أشعل حقيقة
داخل رأسي
وهي أنني لست الجمال والألوان كلها .
ويبقى المسكن الذي لا تحل الشمس والحرية ضيوفا عليه ، وينأى القمر والحب عن شبابيكه ، وتطرد أسواره الضوء والنسيم والمطر، هو مسكن غارق في الموت :

مسكننا ، أي مسكن عبوس الوجه
وحاد المزاج نملك ، مسكننا
تابوت هو مسكننا . ( قصيدة مسكننا )
ولان للشاعر قلبا ينبض بكل ما يحدث حوله في هذا العالم ، فأن صور الحياة تتداخل في ذاكرته ، ومخيّلته ، عابرة حدود الجغرافيا إلى حرية ومسؤولية أكثر اتساعا .. حدودها الألم أو الفرح ، أينما وجدا ، وبكل ألوانهما البشرية :

يتلاقى الضحايا ويختلطون ببعضهم
وتصبح حلبجة مدينة في كوسوفو، وتصبح كركوك كروزني
وأرى رأسي المذبوح يخرج من كم معطف الدنيا ( المرأة والمطر )

وتنعكس صورة المرأة في مرآة المدن ، والأمكنة المحاصرة بالتسلط ، والجهل ، وهضم الحقوق ، على يد قوى جائرة تفرض الحظر والانكفاء على كل شيء يتحرك خارج أسوار طغيانها . فهي ( دربونة في حلبجة ، امتنعت عن الضحك ) .. و ( الزجاج المُحطّم للحرية ) .. و( مكتبة الأحلام الجميلة ، حين تُنهب ) .. بل هي ( الجغرافيا المحظورة ) كلها .. ما دامت حريتها حرام أكثر من لحم الخنزير ، في بلاد الأقفال والعباءات المنسوجة من ظلام التاريخ ، وتكفير الحياة والحب .
ويبقى شعراء ، مثل ( مولوي) ، رموزا حيّة في ذاكرة شيركو ، يصدمون ، ببرق أفكارهم ، غيوم حياتنا ، وينشرون في أرواحنا نور مجدهم :

أيا وميض رسالة الروح
امنحني بعض تغريداتك
واسقي النور في كلماتي ( مولوي )

ولكنه لا يغفر ، أبدا ، للذين سودوا الحياة بطلاء نفاقهم ، وأربكوا الصدق والحقيقة بزيف أفكارهم ، وساوموا على شرطهم الإنساني بأبخس الأثمان ، مثلهم مثل( خنجر بروتوس ) ، وهو ينتقل من يدٍ إلى يد :

كان رفيقي يفرز جلدا جديدا كل ليلة
ويرتدي جلدا جديدا
وفي الصباح يضع سجادة محمد على كتفه
في محاضرات ماركس
كان ينادي
بأن يهودا برئ
والمسيح لم يكن الرأس رأسه ( التلّوي )

ولأن الشاعر مخلص لحقائق الوجود الإنساني ، ولا يريد للعتمة أن تخترق فضاء الإنسان الرحب ، فأنه لا يسمح للشعر بنقل الظلال التي تخفي تلك الحقائق .. بل ويطالب القرّاء بعدم مسامحته أو الغفران له إن فعل ذلك :

اخنقوا سفينة أحرفي
إن نقلت هي الظلال إليكم
إهدموا سور قصائدي
إن ركع هو أمام خزينة الملوك ( أنتِ سحابة.. فأمطركِ )
ويصر الشاعر على البقاء ابنا للطبيعة والحياة ، عاشقا وممجدا لهما أينما حلّ. ولا تفارق قصائده الأشجار ، والجبال ، والطيور ، والأنهار ، والمدن.. بل إن شعره يصمت إجلالا لغياب أصغر المخلوقات على الأرض :

وحين يبلغني في كل مرة
نبأ الوفاة المبّكر لبلوطة ما
وغرق قبّرة
يلبس قلمي
قبعته
صمتا
ثم يبكي ( قبعة )
ومن بين تلك القمم الشواهق ، ومنحدراتها الملوّنة بأجواء الربيع الكردستاني ، تطل علينا ملحمة ( ما مه ياره ) ، حيث قصص عشاق جبل بوتان ، وشاهو ، وكويزه ، يصدحون بأغاني ال ( لاوك ) و ( ( هوره ) و ( قه تا ) ، وفي أعماقهم نشهد حزن فارس الورد ، وصديق القبّرات ( ما مه ياره ) ، الذي يحترق من الأسى والألم على غياب أماكن مواعيده . و ( تجف قطرات الدمع على اخدود ذقنه ) ، يوم يرى الأشجار تبكي ، بحسرات موجعة ، وسط الديار الخالية . ولكن روح الفارس المنذور لعشق المكان ، والدفاع عن الحياة المهددة على أرضه ، تدفعه إلى الصراخ مناديا :
إن لم تقتلوا هذا الصمت
سيقتلكم
إن لم تذبحوا أنثى الغول تلك
ستذبحكم
إن لم ترفعوا هذا الضباب
فستضيّعوا ربكم أيضا ( ملحمة مامه ياره )

وهناك ، أيضا ، قصة الصخرة التي احتضنت بطولات الشيخ محمود الحفيد ، وانعكست على أخاديدها الحجرية ملحمة حبه لوطنه ، وشجاعة موقفه ، وثراء روحه. إنها الصخرة – الملحمة ( به رده قاره مان ) .. هي ملحمة البساتين والقمم والكروم . هي الإصغاء النقيّ لقلب الجبل ، وجروح العشّاق ،وصفاء المروج ، التي لن نجد ، بدونها ، ( لؤلؤة قلب التاريخ في الماء النزر ) .. وهي ملحمة القرى الجائعة بين سياط الغزاة ، وتخمة من يفكرون ببطونهم ، تاركين القليل ، أو العدم لمن حولهم :
وجبة واحدة لأفواه عدة
ووجبات عدة لفم واحد ( ملحمة به رده قاره مان )

ومن يملك قلبا يتسع لعطر الطبيعة ، وروحا تنشد الخير والحب ، وتنتهك الظلال التي تحجب الحرية ، وحقول البراءة ، تسكنه صورة الطفل ، وتبلل قلبه بطراوتها، وقوة انتمائها للحياة . وبدون هذه الصورة ، لن يكون هناك أحد يخرج الشاعر من عبوس شيخوخته ، وضياع روحه :

هذا الطفل الذي يشبه
ابتسامة الأمواج ورعشات اللحن
وهديل القصيدة
يحرج دائما عبوسي والمزاج المتعكّر لشيخوختي

كما أن قلبا رقيقا ، كقلب الشاعر شيركو ، يأبى غياب الحب ، وذبول الغرام ، الذي يعني ، إذا ما حصل ، ذبول الفصول و المدن والبلدان نفسها . بل أن الأشياء تفقد معناها ، ويطير صدى العالم ، بهذه الفاجعة ، إلى الأعلى ، حيث تتساقط أمطار الكون ، ويجهش الرب ذاته لهذا الفقدان . وبهذا الحب يتلاحم الشاعر مع مخلوقاته حد التداخل والانصهار وتبادل الأدوار :
هنا هذه الليلة
الجبل شاعر
والشجرة قلم
والسهل صفحة
والنهر سطر
والحجر نقطة
وأنا علامة تعجب ( هنا )

وتتحول الكتابة ، عند الشاعر ، إلى ( قطرة ضوء على ليلة المعنى ) ، توقد همومه وأشجانه . ويصير الشعر ( هديل عاشق ناصع ) و ( أصابع أطفال ) . ولهذا ينكسر فعل الشعر في غياب صوت الحب ، أو حين يتسع الجحيم حول الطفولة ، كما حدث لأطفال كردستان ورواندا وكل المدن المحاصرة بالقهر والكراهية .
ويبقى العالم ، بكل مساحاته الإنسانية ، هو المساحة الحقيقية التي تسع رقصة الشاعر الكونية :

مساحة وطن واحد
لهي ضيقة على رقصتي الكونية
أنا ، العالم جسدي
وبطاقتي طائر يحلق أبدا
ويحط على غصن شجرة مختلفة كل يوم ( بيا )
كما يبقى شيركو بيكه س شاعر التنوع والألوان ، كما الأزهار والفراشات ،لا يسع حريته المنظور الواحد ، أو اللون الوحيد . ويجد الجمال ، كل الجمال ، في تعدد لون الكلمات ، وعطر الزهور ، وفي رفقةٍ تُثري ، بتنوعها ، روحه الحرّة :

رفيقي طائر سنونو
وشريكة حياتي حديقة
تلد لونا مختلفا في كل يوم
............
لا لون سيصبح قائدا أبديا
ولا صوت سيصبح عبارة أبدية

وعلى تخوم تلك القصائد ، ستكون العواصف مضطرة للانحناء أمام ( أكثر الأزهار نعومة ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصام في حرم جامعة أوكسفورد البريطانية العريقة للمطالبة بإن


.. القوات الإسرائيلية تقتحم معبر رفح البري وتوقف حركة المسافرين




.. جرافة لجيش الاحتلال تجري عمليات تجريف قرب مخيم طولكرم في الض


.. مشاهد متداولة تظهر اقتحام دبابة للجيش الإسرائيلي معبر رفح من




.. مشاهد جوية ترصد حجم الدمار الذي خلفته الفيضانات جنوب البرازي