الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما خلا فلسطين، ديمقراطيات -بلاد بوش- على قدم وساق

صبحي حديدي

2006 / 2 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


البروفيسور فؤاد عجمي، الأمريكي اللبناني الأصل وأستاذ الدراسات الشرق ـ أوسطية في جامعة جونز هوبكنز، متفائل على نحو مطلق بما يفعله الرئيس الأمريكي في العالم العربي منذ غزو العراق، حتى أنه لا يتردد في إطلاق تسمية "بلاد بوش" Bush Country على تلك الأصقاع الممتدّة من المحيط إلى الخليج، بل ويتبنى كناية أخرى صاغها صديقه الكويتي: "جورج بوش أطلق تسونامي في هذه المنطقة"! وفي محاضرة بعنوان "خريف الأوتوقراطيين"، ألقاها في معهد هوفر ثمّ نشرتها فصلية Foreign Affairs، قال عجمي: "أن توغل في قلب العالم العربي، كما فعلتُ مؤخراً طيلة أربعة اسابيع في قطر والكويت والاردن والعراق، يعني أن تسافر في بلاد بوش. لقد التقيت بأناس من كلّ البلدان العربية تقريباً، وأصغيت إلى نقاش كبير حول إمكانية الحرية والتحرر"، قبل أن يجزم على النحو الدراماتيكي المألوف بأنّ "الربيع" الذي يعيشه العالم العربي شبيه بـ "ربيع الشعوب" الذي عاشته أوروبا بعد ثورة 1848، التي اندلعت في فرنسا ثمّ انتقلت إلى مختلف أصقاع اوروبا انتقال النار في الهشيم!
هذا التفاؤل المطلق الذي خيّم على مزاج البروفيسور أواسط العام الماضي كان، على الأرجح، نابعاً من تقديراته لحال الربيع العربي بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، وعلى أعتاب تقرير ميليس الأول، وقبيل الانتخابات التشريعية في مصر والعراق، وتصويت البرلمان الكويتي على منح النساء حقّ الترشيح والانتخاب. وكان، بالطبع، تفاؤل ما قبل النكسات التي توالت على أكثر من صعيد، حين لاح أنّ البروفيسور ينفخ في قربة مثقوبة وهو يناشد إدارة بوش أن تراهن بالمطلق على ربيع العرب. وكان، كذلك، قبل أن يتضح لكلّ ذي بصيرة أنّ البيت الأبيض لم يتخلّ تماماً، ولعلّه لم يتخلّ إلا قليلاً فقط، عن السياسات القديمة في التعاطي مع الحكام وليس مع الشعوب، وفي ترجيح كفة "الإستقرار" الذي تضمنه الأنظمة على كفة "الفوضى البناءة" التي قد تخلقها الشعوب في صراعها من أجل الحرّية وإسقاط الإستبداد.
.. وكان هذا قبل الفوز الكاسح الذي أنجزنه "حماس" في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية!
لا البروفيسور يبدو سعيداً بهذه الإنتخابات الحرّة النزيهة الفريدة التي لا سابقة لها في تاريخ العرب المعاصر، ولا جورج بوش صاحب الديمقراطية التسونامية على يقين من أنّ هذا هو طراز الإعصار الذي يريد إطلاقه في أرجاء العالم العربي. رُفعت الأقلام، وجفّت الصحف! وأقصى ما أنعم به بوش على الشعب الفلسطيني، بعد إقرار سيّد البيت الأبيض بأنّ التصويت كان سليماً ديمقراطياً بشهادة زميله الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، هو تجريد النتيجة من أيّ محتوى سياسي: لقد صوّتوا ضدّ فساد السلطة، وليس لصالح "حماس"! وأمّا البروفيسور فهو في حيص بيص، أعانه الله، لأنّ تسعة أعشار الأرصاد السياسية التي أذاعها جاءت الأيام بنقيضها: في العراق، وفي لبنان، وفي مصر، وفي فلسطين...
نتذكر، في السياقات ذاتها، أنّ اهتداءه إلى "إمكانية" الديمقراطية العربية مسألة طارئة تماماً على تفكيره، هو الذي كان يبشّر بالعكس على طول الخطّ! إنه صاحب القول الشهير: «الديمقراطية ستظلّ دائماً قضية خاسرة في العالم العربي، وعلى العرب نسيان موضوع الديمقراطية لأنهم ليسوا جديرين بها، وهي ليست مرغوبة هناك على أية حال». وصاحب القول الآخر الذي لا يقلّ شهرة: «أنا لم أكن أبداً إلى جانب إجراء انتخابات ديمقراطية في أي قطر عربي أو إسلامي، لأنّ المعركة تكون دائماً بين الدولة في جانب، والأصوليين في جانب آخر». ومع ذلك، في وسع المرء أن يمنح البروفيسور فضيلة الشكّ، عملاً بالحكمة الشائعة: جلّ مَن لا يخطيء، في انتظار تبرير ما يجعله اليوم واثقاً من "ديمقراطيات" بوش في مصر والعراق والكويت والسعودية ولبنان ومعظم "بلاد بوش" هذه، وحائر في ديمقراطية واحدة وحيدة تستعصي على أرصاده السياسية، أي الانتخابات الفلسطينية.

كتاب عجمي الشهير "قصر أحلام العرب"، 1998، يستعير عبارة العنوان من ت. إ. لورانس (أو «لورانس العرب» في التسمية الأكثر شيوعاً ومغزى)، ومن كتابه الأشهر «أعمدة الحكمة السبعة». وفي الأصل (أي قبل نحو ثمانية عقود!) كتب لورانس يصف طموحه الهادف إلى «صناعة أمّة جديدة»، وإلى «منح عشرين مليوناً من الساميين الركائز التي يشيدون عليها قصر أحلام مستلهم، يحتوي أفكارهم الوطنية». وساعة تأليف الكتاب، عندما كان القرن يجرّ أذياله الأخيرة، اعتبر عجمي أن العرب لم يكونوا بحاجة إلى رجل مثل ت. إ. لورانس لكي يحثهم على تشييد قصر خاص بأحلامهم: «في المتاريس كما في الأكاديميات، وفي مدن العالم العربي الرئيسية ـ بيروت، بغداد، دمشق، القاهرة ـ بنى العرب قصر الأحلام الخاص بهم، وأرادوا أن يكون صرحاً فكرياً للقومية العلمانية والحداثة».
ولكن أنى لهم ذلك والرياح جرت وتجري بما لا تشتهي سفن العرب!
هذه أمّة تبدأ طورها القومي في مطلع القرن التاسع عشر تارة، وفي عشرينات وثلاثينات القرن العشرين طوراً. عالمها القديم الكلياني «ينقطع» عام 1967 (ولكننا لا ندري من أين بدأ: من الفرس البارثيين والساسانيين، أم من المكدونيين والرومان والبيزنطيين والفرس مرة أخرى، أم من المغول والصليبيين والأتراك السلاجقة والأتراك العثمانيين والتركمان، أم من الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإسباني والإيطالي...). وهذه أمّة استهلكت جميع أساطيرها لتعيش الآن على الفوضى. والمجتمع، سواء في معناه التجريدي أو في مستوياته التاريخية العيانية، يغيب تماماً عن هذه الأمّة التي يضعها البروفيسور على مشرحته العجيبة. ليس ثمة بشر وشعب وطبقات وصراعات وعالم ودول إمبريالية وتاريخ كولونيالي. حتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982 يضنّ عليه عجمي بوصف «الغزو»، ولا يستخدم في تسميته سوى مفردة واحدة: «الحملة»!
وفي الفصل المعنون «القدّيسون والدنيوي»، والذي يخصصه عجمي لمصر والمصريين، يبرهن عجمي أنّ البروفيسور ذا الاصل العربي هو وحده القادر على التحلّي بشجاعة القول إن أنور السادات وقاتله خالد «الاسطنبولي» كما يسمّيه، وليس الإسلامبولي كما هي الكنية الحقيقية، هما وجهان لعملة مصرية واحدة: الأول توأم للثاني. كيف؟ هنا فلسفة عجمي في تركيب هذه التوأمة: «إن تاريخ مصر، وهويتها تحديداً، على قدر من السيولة يكفي لاستيعاب الحاكم المراوغ الذي ابتلع كبرياءه بقصد التعامل مع اسرائيل والولايات المتحدة، وكذلك لاستيعاب القاتل الذي روّعه الثمن الثقافي المدفوع لقاء الصفقة. وبمعنى ما، السادات والإسطنبولي توأمان».
ولأن البروفيسور تمرّس طويلاً في تقنيات اللعب الأكاديمي، فإنه يتكيء على الكثير من المداميك السوسيولوجية ليقول إن خالد الإسطنبولي (الإسلامبولي) هو «بكل المعاني» ابن ثورة الضباط الأحرار التي قادها جمال عبد الناصر عام 1952، ووالده اختار له هذا الاسم تيمناً باسم الابن البكر للرئيس. حين وقعت هزيمة 1967 كان الفتى في العاشرة من العمر، و«كانت ثورة عبد الناصر قد تكشفت عن الكثير من الصخب والعنف والوهم، وحياة الاسطنبولي لم تكن سوى مرآة لدوّامة البلد».
ورغم أن فؤاد عجمي يقتبس حقيقة أن خالد الإسلامبولي لم يكن «أصولياً» بالولادة، أي أن خياراته العقائدية لم تولد معه كما تولد العلامة الفارقة، فإنه يغمغم كثيراً دون أن يشدد على حقيقة أخرى طبيعية واجتماعية ـ سياسية، مفادها أن صعود الحركات «الأصولية» لم يأت من فراغ لينتهي إلى فراغ، وأنه سيرورة تجرّ وراءها خلفية تاريخية معقدة، مثلما تندفع إلى الأمام بتأثير محرك أكبر راهن هو عجز البرامج السياسية للأنظمة العربية، ومحرّك أصغر موروث هو التعطيل الكولونيالي والعطالة الذاتية على المستوى الثقافي والحضاري حيثما نهض برنامج اسلامي. كذلك يتجاهل البروفيسور أن الولادة العقائدية لأمثال الإسلامبولي لم تكن قيصرية، بل طبيعية ومنطقية وتاريخية.
والحال أنّ ما يُسمّى بـ "صعود الأصولية الإسلامية" عبر صناديق الإقتراع، كما في مثال الجزائر وفلسطين ومصر، لا يبدو شبيهاً في المنطوق الغربي بصعود القوى الإسلامية في انتخابات العراق مثلاً، أو حصراً ربما، وهي المفارقة الصارخة التي تكذّب ما تصنّفه رطانة المصطلح السياسي في باب «يقين التكهن»، حيث كانت قيادة "حماس" نفسها في عداد مَن باغتتهم نتيجة الإنتخابات المفاجئة. وهي، كذلك، مفارقة تذكّر بأن الماضي القريب يظل أشبه بالحاضر الراهن ما دامت نتائجه لا تكذّب الماضي، وما دام صندوق الإقتراع يتيح للمقترع أن يعاقب أهل الماضي دون أن يكون واثقاً تماماً من فضائل اهل المستقبل. وهكذا، دونما غوص في تفاصيل التاريخ القريب لوأد التجربة الإقتراعية الأولى في الجزائر، ثمّ ما أعقبها من إراقة دماء وتخريب هياكل اجتماعية وسياسية واقتصادية، واستبدال «الخطاب الأصولي» لأمثال عباسي مدني بالسلاح الأبيض لإرهاب أعمى لا يجيد فنون «الخطاب» قدر إجادته ذبح الأبرياء، يظلّ من الثابت أن انتخابات الإسلاميين هذه الأيام لا تجبّ عواقب انتخابات تلك الأيام.
الأرجح أنّ خطّ التفكير الرسمي الأمريكي ما يزال يعتمد المقولة العتيقة التي ترى أنّ الأصولية المعتدلة خرافة غير موجودة. هذه هي نظرية إدوارد شيرلي، الذي ذهب إلى حدّ لوم الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون لأنه كان يأمل في فتح حوار «مع المسلمين الراغبين في الإلتزام بقواعد الشعوب المتمدنة»، والذي تساءل في المقابل: ماذا استفاد مهدي بازركان، رئيس الوزراء الأسبق في إيران، من الحوار مع مستشار الأمن القومي زبغنيو بريجنسكي سنة 1979، في الجزائر بالذات، للمفارقة؟ لقد ساهم اللقاء في تسريع سقوطه، هو ونفر المعتدلين على اختلاف مشاربهم، وكانوا سيسقطون عاجلاً أم آجلاً في كل حال، والثورة الإيرانية لم تنقلب إلى «ثورة يعاقبة» لأنّ الولايات المتحدة فشلت في إقامة صلات وثيقة مع المعتدلين.
معضلة هذا الخطّ هو البحث عن تلك الصيغة السحرية الوسيطة بين معادلة السيطرة على صندوق الإقتراع خارج أيّ تكهن عقلاني، ومعادلة السيطرة على الشارع الشعبي الذي لا يتحرّك دائماً وفق القوانين الحسابية المألوفة، ومعادلة إخضاع "الديمقراطية التسونامية" لمقتضيات المصالح والسياسات العليا للدول راعية الأعاصير. الارجح أنّ هذا ما يحدث اليوم في تقييم فوز "حماس": كيف ولماذا تمكنت الحركة من اجتياح أيقونة الديمقراطية، أي صندوق الإقتراع، على هذا النحو غير المنتظَر أبداً؟ وكيف ولماذا فشلت "فتح" ـ التاريخية العلمانية العرفاتية... ـ حتى في الحفاظ على حجمها السياسي كما كانت تؤكده الحسابات؟ وهل يكفي أن تكون بعض قيادات "فتح" فاسدة لكي ينزل بها الشارع الفلسطيني كلّ هذا العقاب الشديد؟ أم أنّ المحاسبة على الفساد هي، أوّلاً، عقاب على فساد السياسات قبل فساد الذمم؟ وكيف ولماذا يتوجب أن تتحوّل "حماس"، أو تنقلب بالأحرى، من "غول"، "أصولي"، "إرهابي"، "متشدد"...، إلى "فريق يعاقبة" قادر على الإنخراط في لعبة سياسية من أيّ نوع، مع الغرب أوّلاً... ومع إسرائيل أوّلاً وآخراً!
ليس عجيباً أن تنتهي الإجابات على معظم الأسئلة السالفة إلى نقيض ما بشّرت به الإدارة الأمريكية من أعاصير ديمقراطية، أي إلى نقض المبدأ الديمقراطي ذاته، وبالتالي العودة بأرصاد أمثال فؤاد عجمي إلى الدرجة صفر: حيث التكهن يقول إنّ كلّ شيء وارد!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انشقاق في صفوف اليمين التقليدي بفرنسا.. لمن سيصوت أنصاره في


.. كأس أمم أوروبا: إنكلترا تفوز بصعوبة على صربيا بهدف وحيد سجله




.. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يحل حكومة الحرب


.. الحوثيون يعلنون استهداف سفينتين ومدمرة أمريكية في عملية جديد




.. حجاج بيت الله الحرام يستقبلون اليوم أول أيام التشريق وثاني أ