الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقلية الراعي والقطيع بين الماضي والحاضر

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2017 / 7 / 3
مواضيع وابحاث سياسية



حتى يومنا هذا لا يزال الإعلام العربي يستخدم كلمة "رعايا" عندما يدور الحديث عن شيء ما يحصل لألمان أو فرنسيين أو عراقيين أو آخرين في الخارج. يرد هذه المفهوم بكثرة في أخبار وتقارير وسائل الإعلام العربية دون أن يثير استغراب أحد، وكأن من البديهي أن يوصف المواطنون بأنهم رعايا تابعين لدولة ما. لكن هذا اللفظ يعتبر من الصفات المستهجنة جدا في كثير من المجتمعات، لاسيما الديمقراطية منها. هنا لا يتجرأ أحد على وصف أفراد الشعب بالرعايا. وعندما يشعر الفرنسي أو الألماني على سبيل المثال بأن أحد السياسيين يتصرف بطريقة متعالية، فإن الرد يكون عادة : "احذر! نحن مواطنون ولسنا رعية". لكن مبدأ المواطنة الذي رسخته الثورة الفرنسية منذ أكثر من 200 عام، يبدو أنه لا يزال غريبا على الخطاب السائد في العالم العربي حيث لا يجد كثيرون غضاضة في استعمال مفهوم "الرعايا". وبحسب معاجم اللغة فإن لفظ "رعايا" هو جمع "رعية" ومعناها "عامة الناس الذين عليهم والٍ يرعى مصالحهم وأمورهم". هذه النظرة للإنسان بصفته عضوا في مجموعة لا حول له ولا قوة وتحتاج إلى والٍ يعتني بها ويدجنها ليست جديدة وإنما هي إحدى ركائز العقائد الدينية.

الجذور الدينية
منذ أن شاع الحديث المنسوب إلى النبي محمد "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، والعربي يحلم بأن يكون "راعيا" ولكن مصيره يُحتم عليه في الغالب الانضمام إلى القطيع. هذا الحديث الذي يحاول الإسلاميون الترويج له بأنه مبدأ خالد للحكم الرشيد، يُعمّم عمليا علاقة التبعية والخضوع بين الحاكم والمحكوم على كافة مجالات المجتمع ويُرجع سبب وجودها إلى الإرادة الإلهية. فالله بحسب وجهة النظر الدينية هو الذي يختار الراعي لتولى دفة القيادة، بينما تتلخص مهمة الرعية في السمع والطاعة وتنفيذ الأومر وترك ما نهوا عنه، كما تنص على ذلك الآية 32 من سورة الزخرف {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}.
من الملفت للنظر أن المصادر الإسلامية تروج لفكرة أن رعي الغنم هي المهنة التي انتقاها الله للأنبياء، ومنهم محمد الذي أكد ذلك في حديثه المعروف "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ" ويرى فقهاء المسلمين ومنهم "شيخ الإسلام" ابن تيمية في ذلك حكمة لأن مهمة راعي الغنم المتمثلة في العناية بخرافه لا تختلف كثيرا بحسب رأيهم عن مهمة النبي (أو الحاكم) في قيادة العباد. وذهب البعض إلى أن سبب وقوع الاختيار على الغنم بالذات يعود إلى أنها أسرع انقيادا من البقر أو الأبل. ويبدو أن سهولة الانقياد ستبقى أيضا الصفة المطلوبة من رعايا العصر الراهن بعكس المواطن الراشد.
من الواضح أن الإسلام ورث فكرة "الراعي والرعية" من اليهودية والمسيحية. فصورة الراعي الصالح الذي يعتني بخرافه تتكرر كثيرا في التوراة والإنجيل. ولا يقتصر الأمر على الأنبياء الذين مارسوا مهنة رعي الغنم مثل إبراهيم وموسى ويعقوب، وإنما تُلصق هذه الصفة بالرب ايضا كما يرد في المزمور 23 من العهد القديم {الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ}. بعدها في العهد الجديد يكتسب المسيح صفة الراعي الصالح أيضا. وعلى غرار المسيح يُلقب قس الكنيسة حتى في يومنا هذا بالراعي، بينما يوصف أتباعه بـ"الخراف". لكن هذه العلاقة تُفهم في الدول المتحضرة بمعناها المجازي الذي يقتصر على المجال الديني، بينما يتحكم مبدأ المواطنة والحريات الأساسية في العلاقة بين الفرد والدولة. في المقابل لا تزال هذه العلاقة في المجتمعات الإسلامية في الغالب أسيرة أفكار الماضي وتقاليده الأمر الذي ينعكس أيضا في نظرة المجتمع والقوى السياسية إلى الدولة ومهماتها والتوقعات المنتظرة منها.

الدولة الريعية: النموذج الحديث للراعي
تتجسد العلاقة بين الراعي والرعية بأحدث أشكالها في الدولة الريعية التي لا تزال ظاهرة طاغية في معظم اقتصاديات العالم العربي، ومنه العراق حيث تعتمد ميزانية الدولة بالدرجة الأولى على صادرات المواد الخام من النفط والغاز. غير أن مظاهر الدول الريعية لا تقتصر على الإيرادات فحسب وإنما تشمل أيضا جانب الإنفاق العام. لهذا تؤكد الكثير من الدراسات أن إحدى السمات الأساسية للدول الريعية تكمن في أن مستلم الريع حر التصرف فيه بحكم احتكار الدولة للموارد الطبيعية وعدم خضوعها للمنافسة التي تسري عادة على القطاع الخاص. وتتجسد هذه السهولة النسبية في الحصول على الريع المالي والتحكم في إنفاقه بأوضح صورها في المجال الاجتماعي-الاقتصادي وفي المجال السياسي. من جانب ترى الدولة الريعية نفسها غير مجبرة على جباية الضرائب من السكان، بل على العكس هي قاردة على "التصدق" على "رعاياها" من خلال توزيع المكرمات والهبات والعطايا والخدمات المجانية والعقود والوظائف والصفقات المغرية. من جانب آخر تستغل الطغم الحاكمة المال العام لشراء سكوت فئات شعبية واسعة وضمان ولاء القوى المؤثرة. والنتيجة هي ضعف المجتمع المدني وتهيئة القاعدة المادية للدولة الشمولية التي تهيمن على كل شيء.
مثل هذا السيناريو تحقق عمليا في العراق حيث يسود نظام يمكن وصفه بدولة الصدقة التي بدأت مقدماتها في خمسينيات القرن الماضي وبلغت أوج تطورها في ظل سياسة توزيع المكرمات لـ"قائد الأمة" صدام حسين. ولم تنتهِ هذه السياسة مع الإطاحة بالطاغية وإنما ازدهرت بعد 2003 واتخذت أشكالا فجة على خلفية تصاعد أسعار النفط. فالدولة العراقية لا تكتفي بالاستحواذ على الريع النفطي فحسب وإنما تقوم أيضا بإنفاقه بطريقة لا تخدم التنمية المستدامة على المدى الطويل وتهدف بالدرجة الأولى إلى ترضية الشارع وشراء الولاءات وتأجيل الإصلاحات الضرورية. وتتمثل أهم مظاهر ذلك في استمرار العمل بنظام البطاقة التموينية وسياسة دعم الأسعار للمستهلك وسوء استغلال مساعدات الشبكة الاجتماعية والقرارات غير المدروسة في رفع مرتبات موظفي القطاع العام والمتقاعدين وغيرها. من جهة أخرى سخرّت الأحزاب المتنفذة المال العام من أجل تأبيد هيمنتها من خلال التضخم غير المسبوق في أعداد العاملين في أجهزة الدولة ومؤسسات القطاع العام ومكافأة المقربين والموالين بالوظائف والمناصب والعقود الأمر الذي يؤكد الترابط العضوي بين الدولة الريعية وتفشي منظومة الفساد.
وإذا كان من المفهوم أن تدافع الأحزاب المتنفذة عن الدولة الريعية فإنه من المفترض أن تكون قوى المعارضة اليسارية في مقدمة المطالبين بتجاوز هذه الظاهرة فعلا وليس قولا. غير أن الواقع لا يؤكد ذلك. صحيح أن الجميع ينتقد الدولة الريعة ويفضح مساوئها، إلا أن تصورات القوى اليسارية تقتصر عمليا على المطالبة بتنويع مصادر الدخل من خلال تطوير قطاعات الصناعة والزراعة وغيرها. ومع أهمية ذلك إلا أنه لا يمثل سوى جانب من المشكلة. في المقابل نجد أن أغلبية القوى اليسارية تتحفظ إزاء المطالبات بإلغاء البطاقة التموينية أو فرض ضرائب على السكان أو تشجيع المبادرة الخاصة وإعادة هيكلة القطاع العام وتنفيذ إصلاحات اقتصادية ضرورية للحد من هيمنة الدولة المطلقة على الاقتصاد. بطبيعة الحال لا بد من التأكيد على ضرورة مراعاة العدالة الاجتماعية أثناء تنفيذ مثل هذه الإجراءات. ولكن بدونها ستبقى الدولة الريعية القدر المحتم للعراقيين. ويؤكد ذلك حقيقة انتشار عقلية الدولة التي ترعى الفرد من المهد إلى اللحد وتسلبه حرية اتخاذ القرار.
إن البديل الأمثل لدولة الصدقة هو اعتماد مبادئ الدولة الاجتماعية القائمة على فكرة المواطنة والعدالة ونبذ مفهوم الراعي والرعية السائد حتى الآن في المجتمعات الإسلامية والذي يوحي وكأن أفراد الشعب يعيشون ضمن قطيع وليس في إطار عقد اجتماعي يحدد للجميع حقوقه وواجباته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قتلة مخدّرون أم حراس للعدالة؟.. الحشاشين وأسرار أول تنظيم لل


.. وكالة رويترز: قطر تدرس مستقبل المكتب السياسي لحركة حماس في أ




.. أوكرانيا تستهدف القرم.. كيف غيّرت الصواريخ معادلة الحرب؟| #ا


.. وصول وفدين من حماس وقطر إلى القاهرة سعيا لاستكمال المفاوضات




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - وفد من حماس يصل إلى القاهرة لاستكم