الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حمد وأم شامات

محمد علي زيني

2017 / 7 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


سمعت أن السفر بين بغداد والبصرة أصبح الآن بواسطة قطار صيني، ولم يتسن لي ركوب هذا القطار. ولكني ركبت قطاراً من البصرة الى بغداد في سنة 2013 بعد إلقاء محاضرة بجامعة البصرة العتيدة. وكان الغرض من العودة بهذه الطريقة لمجرد التسلية بمشاق السفر بهذا القطار الذي بلغ من العمر أربعين عاماً كما أخبرني الضابط "العميد" الذي كان جالساً أمامي. لم يستهوني الجلوس طويلاً بمقصورتنا التي سميتها "الخلية" وقد أصبحت مكتضة بأربعة رجال وبالحقائب التي لم يكن لها مكان مخصص، ففضلت استكشاف القطار بعض الشيئ. كانت عربتنا الثانية من الأمام فتوجهت نحو الخلف. سِرتُ ببطئ في الممر الضيق وواجهت صعوبة بالغة في الحفاظ على توازني من شدة اهتزاز القطار بالأتجاهات الأربعة وكأنه سفينة في بحرٍ متلاطم، ما جعلني أرتطم بجدران الممر يميناً وشمالاً، فقررت السير ببطئ وكأني طفل يتعلم المشي لأول مرة. مررت بعدة خلايا بعض سكانها يمرحون ويتلهّون بتناول أطعمة ومشروبات غازية، وأخرى سكانها واجمون، فيما أمسكت بعض النسوة بأطفالهن خشية التصادم بينهم أو الأرتطام بالجدران وهم في طريقهم الى المرافق.

أثارت المرافق الصحية فضولي فانتظرت قليلاً حتى يأتي دوري، ثم دخلت ونظرت حولي وأنا أهتز مع القطار. وجدت مغسلة صغيرة كانت نظيفة سرعان ما بدأت تتسخ، ووجدت مرآة مكسورة مثبتة على الحائط. وبينما كنت أنظر الى المرحاض، وهي شرقية ونظيفة، ارتفع الجانب الأيمن من العربة فجأة "فتسرسحت" بسرعة الى اليسار وكدت أفقد توازني لولا أني أمسكت بمقبض متدلي من السقف، ربما وُضع هناك لأنقاذ المساكين مثلي في مثل هذه الحالات. تسائلت مع نفسي كيف لمسافرٍ أن يستعمل مرحاضاً شرقيةً إذا كان داخل عربة قطار "مسودنة" تتأرجح يمنة ويسرة، بشدة وبدون ضمير؟ إذ لا يمكن لشخصٍ أن يغامر بمثل تلك العملية إلا إذا كان شجاعاً ولا يبالي "إن هو وقع على الماء أم وقع الماء عليه".

دخلت عربة الطعام فوجدتها مكتظة برجال من مختلف الأعمار والأشكال، إلا أن عنصر الشباب كان هو الغالب. كان أكثر الحاضرين يدخنون بنهم، ما جعل جو العربة مملوءاً بضباب رمادي اللون. شاهدت البعض من الشباب يترنحون وقد استرخى الواحد منهم على كرسي فيما مدّ رجليه على كرسي مقابل، سانداً رأسه إلى الجدار الخلفي، مطيلاً النظر الى سقف الغرفة بعيون زائغة، يدل منظره وكأنه قد استهلك مادةً مُسكِرة أو مُخدّرة. بدأت أفكر بنكبة العراق، وشباب العراق الضائع. لا مدرسة ولا عمل ولا حتى آمال، يا خسارة! وبينما كنت شارد الفكر، أسيراً لشعورٍ من الألم والأحباط، تولتني سورةٌ من الغضب حين تذكرت ساسة العراق. تُرى بماذا تفكر الغالبية من هؤلاء وهُم يسكنون القصور داخل المنطقة الخضراء – ومنهم خارجها أيضاً - يحرسهم غلب الرجال المدججين بالسلاح؟ هل هم يفكرون بشباب العراق؟ هل يفكرون بشعب العراق؟ بل هل يفكرون بالعراق؟ أم أنهم لا يفكرون إلا بأنفسهم، لاهون بالنزاعات الأزلية بين كتلهم المتناحرة وبين بعضهم البعض، وبسرقة المال العام لاستثماره بالخارج، ولربما استبقاء جزءٍ منه لتمويل انتخاباتهم حتى يؤمّنوا البقاء على كراسي السلطة، وليذهب العراق وأهلُه الى الجحيم!

رجعت الى الخلية لأستريح وربما أخلد الى النوم، ولكن جذب انتباهي من خلال النافذة ضياء تراءَى لي من بعيد. وضعت ساعدي على حافة النافذة السفلى واتكأت وأنا أنظر في دامس الليل الى ذلك الضياء وقد أثار بنفسي الشجون. تذكرت قصيدة مظفر النواب الخالدة، للرَيل وحمد، والتي أمسَت منذ ستينات القرن الماضي أغنيةً فولكلورية جميلة تمرّ على ألسن الناس: "مرّينة بيكم حمد واحنه ابغطار الليل، واسمعنه دك اكهَوه وشَمّينة ريحة هيل. يا رَيل صيح بقهر صيحة حِزن يا رَيل....". سحبت هواءً عميقاً وخرجت آهة من صدري واغرورقت عيناي، وتسائلت تُرى ماذا حلَّ بحمد وبحبيبته "أم شامات" بعد مرور أكثر من خمسين سنة شاهد خلالها الشعب العراقي مصائباً لم يمر بها شعب في زماننا هذا؟ هل أُجبر حمد على التطوع في قادسية صدام؟ أم داهمت بيتهم في الثالثة بعد منتصف الليل قوة من جلاوزة النظام وسحبته حافياً و"بطَرِك الدشداشة" لتشبعه في الطريق ضرباً وركلاً وشتائم وإهانات، ثم لتودعه في زنزانة رطبة ومعتمة، يتعرض هناك للتعذيب بين آونة وأخرى؟ فإن كان ذلك ما حدث له ولم تكن نهايته في إحدى المقابر الجماعية، فلا شك أنه قد خرج من سجون النظام السابق، ليتنعم بأجواء الحرية التي عمّت العراق بعد سقوط النظام ولكنه، من جهة أخرى، بدأ يعيش ضيم النظام الجديد الذي تقوده حكومة تتمسك بالسلطة دون تحمل مسؤولية إعادة بناء دولة متكاملة بشعبها وسلطاتها ومؤسساتها. إن جُلّ ما تعرفه الحكومة الجديدة هو تسلّم ريع النفط - الغير متعوب به أصلاً – لمجرد تمويل الميزانية السنوية وهي تحوي الرواتب والمخصصات الفلكية للطبقات العليا من موظفي الدولة، وتعرف أيضاً كيفية التستّر على لصوصية وفساد العديد من كبراء المسؤولين.

فكيف لحمد أن يعيش سعيداً في أجواء هكذا دولة وهو الفلاح القروي البسيط، إبن الطبقة المسحوقة من الشعب، صاحبة الحقوق المهضومة؟ إن حمد – وهو يمثل أي فرد من أفراد هذا الشعب المسحوق – معرض لتحمل النوازل والآلام، من سيول قد تجرف زَرعَه، الى عبوة ناسفة قد تبتر أحد أطرافه، الى سيارة مفخخة قد تقضي على حياته وتحول جسده الى مجرد فحم. أما زوجته الحبيبة "أم شامات" التي مازالت قسمات وجهها تشي بمسحةٌ من جمال، فهي – كأي أُم من أمهات هذا الجيل المنكود - تتعرض هي الأخرى الى النوازل والآلام. وكأني بها الآن تخوض مياه المطر الآسنة، رافعة ثوبها قليلاً اتقاءً من البلل، كاشفة عن ساقين بدأ يزحف لهما بعض من الذبول، تنهر "الحكومة" على تقاعسها الأزلي في تقديم الخدمات، وهي تصيح بحرقة - صيحة حزن - إصالة عن نفسها ونيابة عن صاحباتها "وِلكم وَين وَدّيَتو فلوس الشعب وَين؟ صار الكُم أكثر من عشر سنين بس تلغفون وكُلشي ما سَوّيتو. من نوازل على عيونكم وأريد العباس أبو راس الحار انشا لله يصطركم ويطيّح حظوظكم".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض


.. واشنطن وبكين.. وحرب الـ-تيك توك- | #غرفة_الأخبار




.. إسرائيل.. وخيارات التطبيع مع السعودية | #غرفة_الأخبار


.. طلاب بمعهد ماساتشوستس يقيمون خيمة باسم الزميل الشهيد حمزة ال




.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟