الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الأدب الموصوف بأنه عبري. عن الجامعات المصرية و الإسرائيلية

نائل الطوخي

2006 / 2 / 5
الادب والفن


عندما تتحدث أقسام الأدب العبري في الجامعات المصرية, باطمئنان و استرخاء وثير, عما يسمى ب"الأدب العبري", فهي تقسمه وفق أجيال متعاقبة, تنمو بتسلسل منساب, بدون انقطاعات, و بدون تنافسات داخلية, و الأهم, بدون مجموعات عرقية مختلفة, و إنما فقط أجيال زمنية تنمو في اعقابها تيارات أدبية. لا يتعلق الأمر بسوء طوية, و إنما ببلادة أكاديمية دفعت تلك الأقسام إلى احتذاء خطى نظرائها في الجامعات الإسرائيلية, في القدس و تل أبيب, أقسام أرادت التكريس لفكرة صهيونية تقليدية, رأت في اليهود شعبا واحدا من متحدثي العبرية, و بالتالي فهم ينتجون أدبا واحدا, تتماسك عناصره و يتميز عن الآداب التي نشأ اليهود بينها في بلدانهم. يتصل أمر كهذا بالتفكير غير النقدي, الذي تربت عليه الجامعات المصرية, و أساتذتها الذين يحبون إظهار أنفسهم كمناضلين ضد الصهيونية في نفس الوقت مع عدم مسائلة أية مقولة صهيونية كبرى, و أولها مقولة "الأدب العبري". هذه المقولة التي شُرع في تفكيكها مؤخرا على يد أستاذ للأدب الإسرائيلي بالجامعة العبرية بالقدس.
في كتابه الأخير, "الارتخاء بغرض اللمس", يتحدث دان ميرون عن مفهوم الأدب العبري, كيف نما و انطلاقا من أية دوافع تمت صياغة تلك الكتلة المصمتة المسماة بالأدب القومي. يتحدث عن رغبة صائغي الهوية الأدبية اليهودية في أن يحوزوا لأدبهم وحدة يرونها في الآداب غير اليهودية, الآداب القومية "الطبيعية" التي, لا تتسم أصلا, بوحدة و لا بصلابة كتلك. يقول: "هكذا تبدو لنا هذه الصلابة غير الموجودة كدليل على "طبيعية" أو علامة صحة ثقافية, علينا أن نسرع بحيازتها ".
يفحص هذا الكتاب مفهوم الأدب الإسرائيلي, يحاول نقض ما شاع داخل إسرائيل من اعتباره أدبا واحدا, و بلمسة الساحر, يرده إلى ما هو عليه, آدابا عدة لمجموعات عرقية مختلفة, تنتمي كل جماعة إلى بلد أصلي. يتحدث ميرون عن الأدب القومي, أي الأدب الذي يتم تصوره في إسرائيل, و الذي سعت لتصويره الصهيونية, على أنه ينتمي "لنا", أي اليهود و الإسرائيليين, فيتحدث عن النظرية القديمة للأدب الإسرائيلي و التي أملاها حلم الصهيونية - و بالمناسبة هو لا يذكر كلمة الصهيونية - بأن يكون اليهود شعبا "طبيعيا" من الناحية الثقافية, أي شعبا ككل الشعوب, و هو الحلم المرتبط تنفيذه بلم شتات الشعب سواء بالمفهوم الجغرافي الديمغرافي أو بالمفهوم الثقافي. هكذا يصل إلى نتيجة مفادها أن "الحديث عن أدب يهودي موحد و مستمر في العصر الحديث هو حديث خال من المضمون, فليس في العصر الحديث إلا آداب يهودية مختلفة و إبداعات ذوات عناصر يهودية تنتمي في نفس الوقت لآداب أصل غير يهودية, و في نفس الوقت لقائمة واهية من الكتابة اليهودية. و لذا فعلينا تبني نظرة ترى في التاريخ الثقافي لليهود وحدات مختلفة, منفصلة, هجينة, و لا تخضع بأي حال من الأحوال للتصنيف وفق أطر ذات معنى واحد". هذه الهجنة هي ما تتحشاها أقسام الأدب العبري في الجامعات المصرية, محتذية في ذلك الجامعات الإسرائيلية و أساتذتها المجندين للدفاع عن الهوية الإسرائيلية, مثل باروخ كورتزفايل و جرشون شاكيد, تتحاشى تصوير الاضطراب و الانشقاقات الداخلية لمجتمع من المهاجرين يحاولون صوغ أنفسهم في "شعب" انصياعا لمقولة أيديولوجية كبرى, نشأت على مرأى من القوميات الأوروبية الكبرى, قوميات النار و الحديد. يقول ميرون في هذه النقطة: "لم يمكننا الوضع التاريخي من خلق بنى قوة اجتماعية و سياسية يهودية شاملة "أو حتى يهودية محلية" مستقرة, و لذا فلم يتواجد في الواقع اليهودي الحديث مفهوم له معنى واحد للأدب القومي و إنما تواجدت به آداب "قومية" تنافس بعضها البعض".
لا يقدم دان ميرون فقط نقدا للتصور الصهيوني عن الأدب العبري و إنما للتصور الصهيوني عن يهود ما قبل الصهيونية الذين لم يكتبوا بالعبرية و إنما بلغة بلدانهم, و هم بالتأكيد لم يكتبوا أدبا عبريا, ففي سعي الصهيونية لخلق أدبها الخاص, المكتوب ب"اللغة القومية" التي تصورت أنها لغة اليهود, و في احتقارها لكل دعوات الذوبان بين الشعوب التي نادي بها بعض يهود القرن التاسع عشر فيما عرف بحركة التنوير اليهودية, قامت بإلغاء ما قبلها تماما, أو بالأصح, قامت باحتكاره لصالحها, و هذا يعني أنها ألزمت اليهود بأثر ارتجاعي أن يكونوا صهيونيين, خالقة في هذا نموذجا جديدا للاقتداء, هو نموذج الصبار, اليهودي المولود في إسرائيل, اليهودي الجديد, المؤمن بالصهيونية, الذي يكتب بالعبرية, العنيف و الجسور. هذا جيد من دان ميرون, و هو ناقد تخصص في الأدب الإسرائيلي و الأدب المكتوب بالييدش "لغة يهود شرق أوروبا و وسطها في القرن التاسع عشر", و بالتأكيد فقد درس كثيرا عن الانقطاع ما بين الأدبين " أدب الييدش و الأدب الإسرائيلي", حيث الأول أدب منفوى منبوذ, لا يتسم بالروح اليهودية القومية, بينما الثاني, و قد كتب بعد ارتباط الشعب المتأخر بأرضه القومية, على العكس تماما, هذا جيد منه أن يؤكد أنه حتى في الأدب الإسرائيلي لم تكن هناك أبدا "روح يهودية قومية" و هو ما نشأ أكاديميا على إنكاره العنيف, هذا جيد أن يبين لنا ليس فقط كيف عملت مؤثرات كثيرة في أدب اليهود بل أيضا كيف لم تتوقف يوما عن العمل, و هي مؤثرات لم تكن أبدا مؤثرات قومية, على غير ما أرادت الصهيونية و معها أقسام الأدب الإسرائيلي في المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية الآن أن يبينوا لنا.
يختار ميرون تفكيك الصهيونية من زاوية الأدب الإسرائيلي, لا يتطرق إلى كافة المقولات التي بنت عليها الصهيونية رؤاها, و هو ما يجعل من بحثه عملا رقيقا, يتوج في نهايته بتبرؤ ميرون من تيار "ما بعد الصهيونية", ذلك التيار الذي يفكك المقولات الصهيونية التقليدية و يراها وفق ما توافر حديثا من حقائق في أرشيفات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. يبدو أن تبرؤا كهذا هو ضريبة يدفعها المرء في إسرائيل لأجل الحفاظ على وضعه الاجتماعي, لكي لا يكون مستفزا إلا بقدر, ألا يتخطى الحد المسموح به, فلهذا رجاله الذين لا يتمتعون بمنصب أكاديمي, ففيما يشبه سباق التتابع, تناول منه الراية الشاعر الإسرائيلي المعادي للصهيونية يتسحاك لاؤور, استطاع عبر عرض قام به للكتاب في هاآرتس أن يدفع بنظرية ميرون إلى حدودها القصوى, الأكثر تطرفا كما يدعوها بعض الإسرائيليين ممن يخدشهم أي نقد لتصورهم عن ذاتهم و عما يريدون ان يكونوا. يتحدث لاؤور عن تصور الأكاديمية الإسرائيلية, و التي يسيطر عليها, بحسب لاؤور "منظومة, يقف على رأسها بعض الأساتذة, ليسوا أكثر من اثني عشر, عالمهم ضيق, و معرفتهم محدودة, تربوا على ما قد قيل بالفعل, و ما كتب بالفعل", يفحص لاؤور تصور هذه المنظومة لمفهوم الأدب الإسرائيلي, الأدب الإسرائيلي التي تراه, و قد بدأ مجندا مع جيل الأدباء الذين حاربوا في 48 ثم انتهى عدمياً في أدب الشباب اليوم, أما لاؤور فيراه مجندا كله لخدمة المقولة الصهيونية الكبرى. يقول أن سؤالا عن "ماهية الأدب العبرية يتلقى دوما إجابة: هو ما يريد أن يكونه الأدب العبري: خلاص الشعب الإسرائيلي في أرضه. و في الحقيقة فإنه لدى قراءة نصوص تاريخية من "الأدب العبري" يبدو كل شيء و كأنه مباركة لله على أننا "نحيا و نكون". هذا يتجلى أكثر فأكثر في الاهتمام النقدي الحاشد بالأدب المكتوب عن الهولوكست, و على رأسه كتابات أهارون أفيلفيلد, فليس هناك شيء مهم في هذا الأدب إلا أننا مازلنا أحياء, حتى بعد الهولوكست. ليس هذا هو العَرَض الوحيد لتحجر أقسام الأدب في المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية. يقول لاؤور أنه غير مطلوب من دارس شعر العصر الذهبي لليهود في الأندلس أن يعرف العربية, و هي اللغة التي كتب بها الشعراء اليهود حينها أشعارهم. هذا أمر يتصل بجوهر الصهيونية, ليس فقط محاولة تصوير الأدب الذي كتبه يهود و كأنه أدب عبري بالضرورة و إنما كذلك محو ذلك الجزء الشائن من تاريخ اليهود, و الذي يشوش على الصورة التي تحاول رسمها لهم باعتبار العرب هم الأعداء البديهيون, لليهود و ليس للصهيونية, و بالتالي تعميق الفارق الثقافي بينهما لصالح أهداف استراتيجية آنية, تتصل بالصراع الحالي, الذي لم يعشه بالتأكيد العرب و اليهود في الأندلس.
تتوقف دراسة ميرون عند الأدب كما أسلف, و لا تحاول نقد ما يترتب على هذا, مثل الهوية القومية لليهود, إلا في جمل عرضية, فيتحدث عن الهويات القومية الأوروبية التي أرادت الصهيونية الاقتداء بها وجعل اليهود "شعبا ككل الشعوب". يقول عن الصلابة التي تخيلتها الصهيونية في تلك الهويات, و من ثم الآداب: "هذه الصلابة المثيرة للحسد, و على الرغم من أنها معيارية, أي أنه تم إملاؤها على يد نماذج أيديولوجية, فهي ليست طبيعية أبدا, و في الواقع فهي غير موجودة كذلك أبدا في أي مكان أو زمان". في أي زمان و مكان, هكذا يخفف ميرون من أثار كتابه عن طريق عزو هجنة كتلك إلى كل آداب العالم و هوياته, و بدون تمييز بين مجتمعات نمت عبر قرون, و عبر حروب و اقتتالات داخلية و هجرات متفرقة, و بين مجتمع مهاجرين صرف تم تشكيله تشكيلا بقرار سياسي. هكذا لا يكون من فرق بين المجتمع الإسرائيلي و سائر المجتمعات, حيث كلها تسعى إلى الصلابة و التماسك المستحيلين. هنا بالتحديد يمكن للناقد الإسرائيلي اليميني آساف عنبري أن يسدد سهما صائبا للكتاب, في مقال بعنوان "العالم الروحاني لدان ميرون" في دورية "القوس الجديد", بقوله: "إذا كان الوضع الثقافي المتشقق, المنقطع, الهجين, ما بعد القومي, أصبح هو الوضع الطبيعي لثقافة الغرب كلها, إذن فما هو "غير الطبيعي" في الكيان اليهودي في منتجه الثقافي؟" هذا صحيح, فطالما يتورع ميرون عن الاعتراف بأن القومية, و معها الأدب, اليهوديين, هما أكثر هجنة و انقطاعا من سائر القوميات, أوروبية أو غير أوروبية, طالما لا يلاحظ أنه ليس هناك هوية تنشأ بقرار سياسية بإنشائها, كالذي قدمته الصهيونية, يبقى عمله محافظا جدا, و غير ثوري كما أراد نقاده من اليسار أن يروا. يصبح "كل شيء طبيعي و تمام" كما يتمنى أن يكون نقاده من اليمين, ويصبح الكتاب امتدادا لسلسلة نقد المتواصل لل"أدب العبري", أي: مباركة على أننا نحيا و نكون, أننا شعب كسائر الشعوب, ولكن بشكل معكوس و حاذق هذه المرة.
ليس هذا هو كل شيء, ففيما سبق كان دان ميرون يدافع عن وجود هوية قومية لليهود, أما الآن فقد حدث تحويل للاتجاه: هو ينقد الهويات القومية التي أراد اليهود الاقتداء بهم حتى يكونوا شعوبا "طبيعية", غير أنه لا يتحدث عن الهوية اليهودية بتفصيل كاف, و دعنا لا ننسى أنه يتبرأ في نهاية كتابه من كونه بعد صهيونيا. هنا بالتحديد يمكن للناقد الإسرائيلي اليساري حانان حافير أن يدفع بأمنيته عن بالكتاب إلى ذروتها الراديكالية الأمثل. حيث النظرية الأساسية في الكتاب "لا تذهب إلى النهاية, ففي نهاية الأمر هي تمتنع عن إبداء استنتاجات قاطعة, حيث هناك أمر واحد تركته غير محلول, و هو الهوية اليهودية نفسها". و هو الجهد الذي يبدو أن الكتاب لم يطمح إليه أبدا, أو أنه رغب و لم يجرؤ, مثل الكثيرين دائما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال