الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحصير والهجير

فيحاء السامرائي

2017 / 7 / 12
الادب والفن


الحصير والهجير
لا يمكن النوم على فرش اسفنجية بهذا القيظ السليط.. قد تكون نومة غير مريحة على هذه الحصيرة سبباً كافياً في جعل صغيري يواصل البكاء رغم كل محاولاتنا لإسكاته..تغطس والدته منشفة بالماء، تمسح بها رأسه وجسمه ، يتخلى ابن أخي عن مكانه المفضّل قرب المبردة وعلى الحصيرة المبللة له، تسقيه والدتي شراباً بارداً فلا يتوقف عن العويل.. يضطر الجميع بالتالي الى التضحية بقيلولة يومية مطلوبة.. أفكر ممتعضاً بأطفال تصطلي بهذا الحر داخل مخيمات النازحين في عراء وعزاء الوطن، يقطع عليّ تفكيري بكاء الصبي المتواصل.. هل أجعله ينام في الثلاجة؟
نسأله، تريد لعبة؟ يهز رأسه نافياً ويبكي، تريد نستلة، موطا؟ يصرخ باكياً، هل تريد أن نخرج حينما تهدأ حرارة الشمس؟ يرد علينا بالطريقة نفسها.. أفكر بأن الحصير ربما قاس على جسده البض، أو أن زحمة وجودنا كلنا بالغرفة معه، عشرة أفراد، قد تثير مخاوفه، غير اني لم أجرؤ على طلب خروج بعضهم منها، بل خجلت من مجرد التفكير بذلك، أين يذهبون والتبريد في هذه الغرفة دوناً عن فرن الدار وجحيم حجراته الأخرى؟.. لو يظل يبكي على هذا المنوال، أفكر أن أغني له، (أرد أبچي طين عليك صبح ومسيّة، لو يعرف المحروگ يلطم عليّه)، أو أن أضع قالب ثلج في ماء التانكي ليبرد فيغتسل، بما أن تغليفي لصفيحه لم يقِه من الغليان.
أحاول عبثاً تخيّل صورة للجحيم، كيف لها أن تكون غير الذي نحن فيه اليوم، نحن روادها الدائمون، نحن أصحاب السعير الحقيقيون وها هو عذاب السعير نصلى به ونحن أحياء.. لا أدري لماذا تمنيت أن يكون مطرب أغنية (الشمس شمسي والعراق عراقي) أمامي في تلك اللحظة.
كل شيء يبعث على الانفعال والاختلال والاشتعال، كل شيء مستعر، الصباح، الليل، الناس، الكهرباء، رداءة أخلاق، فساد مسؤولين على سلطات، سواد ضمائر أصحاب مولدات.. نحن كبشر نتحمل على نحو ما، لكني أعجب لطيورك يا وطن، كيف لا تهوي مشوية من سمائك الى لهيب أرضك!
غفوت لبرهة.. ثم استيقظت فزعاً، وكنت قد رأيت في قيلولتي القصيرة، صحراءً تزحف نحوي برمالها، وأنا أقفز من مقلاة الى أخرى، وصغيري يذوب ويسيح نحو بالوعة الحوش بعد أن كان قطعة زبدة أو جبن مقلمة من تأثير الحصيرة، كما وشممت رائحة حريق وسمعت صوت خشب يتفرقع، وأبصرت جمراً وجُذوة ولهيباً باشكال شتى ومفردات لا حصر لها، وخطف أمام ناظري تنين ينفث نيراناً وينطلق من مؤخرته زيت غاز (كاز) أسود.. فضّلت أن أقوم وأغسل وجهي لأطفئ حلماً سعيري الطابع.. حتى مناماتنا هنا صارت (بروستد)، مصطلية بالنار.
هدأت شمس غضوب مساءً، غير ان إنكفاءها لم يجعل الحر ناعماً.. خرجت مع صغيري الى شارع مكتظ بمقاهٍ يشرب زبائنها شاياً ساخناً ( في مثل هذا الحر؟)، و بمارّة متذمرين من تعرق ودبق وجور طبيعة، ينسري عنهم بعض الحر حينما يرمون بأجسادهم في سيارات أجرة، يرّكب سائقوها مبردات على سطوحها.. شغّل بعض أصحاب المحلات في مقدمة دكاكينهم، مراوح هوائية ترّش ماءً بارداً على مارين وزبائن من رشاش ماء مثبت في الشارع، تجلب الانتعاش والمرح لرجال ولأطفال لفترة وجيزة قبل أن يتخبر الماء والابتسام.. حملت الصغير ووقفت تحت الدوش منتعشاً بالماء حتى وصل البلل الى ملابسي الداخلية.
وصلنا الى ساحة عامة غير بعيدة عن البيت.. رأيت الصغير مبتسماً لمرأى أطفال آخرين يلعبون بأحواض سباحة بلاستيكية (ميد إن مريدي)، فرحت، تقدمنا صوبه، لكن هل هذا حوض ماء أَم ظاهرة السراب؟
- خمسة آلاف دينار لمدة ربع ساعة؟
دفعت للرجل صاغراً.. بكى الصغير حينما أخرجته من الماء عنوة، وعدته أن آخذه الى مكان فيه ألعاب.
بدأ يصرخ ويضحك وهو ينزلق من على الزحليقة، أعجب، لماذا يبكي وهو يقضي وقتاً ممتعاً؟.. أدركت السبب بعد حين بعدما لسعتني حرارة حديدها.. في طريق العودة الى البيت، لم يكف ابني عن العويل حتى وصلنا الى البيت عند انحسار الهجير فألقيت به وبدموعه على الحصير، غمرتْ والدته مناشف بالماء ومسحتْ بها مؤخرة صغيرة مكتوية بحديد زحليقة من سعير.. يا لسعيرك يا وطن!

فيحاء السامرائي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟