الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وسكتت الجزيرة عن الكلام المباح!

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2017 / 7 / 13
مواضيع وابحاث سياسية




قصص قناة الجزيرة القطرية توشك على النفاد. ولذا تخشى الآن أن تلقى مصيرها المحتوم على يد أمير قطر القادر على إنهاء حياتها بكلمة واحدة. حكاية الجزيرة فيها أوجه شبه مع شهرزاد في حكايات ألف ليلة وليلة. في مجموعة القصص الشهيرة تنجح جارية الملك شهريار في إنقاذ رأسها من سيف الجلاد بفضل خيالها الواسع في اختراع أحداث خيالية كل ليلة. وهذا ما تفعله كل يوم الجزيرة التي تعرف جيدا بأن مصيرها معلق على رضا ربيبها وولي نعمتها أمير قطر وعلى مدى قدرتها في تلفيق أخبار وتقارير وقصص "مشوقة" هدفها الأول إثارة البلبلة لدى آخرين.
بفضل هذه الموهبة لم تنجح الجزيرة في البقاء على قيد الحياة فقط وإنما أيضا في الحصول على شيك على بياض وميزانية مفتوحة من الأمير السابق الأب حمد والحالي الابن تميم. وساعدتها هذه الخلطة الخطيرة التي تجمع بين المال والمزايدات والشعبوية الرخيصة والدعاية والتحريض السافرين في إشعال النار والتدخل في شؤون بلدان تفوق قطر بمراحل من حيث السكان والمساحة والعمق التاريخي والحضاري مثل العراق وسوريا ومصر واليمن وليبيا وتونس وغيرها. لا غرابة إذن في أن تصاب قيادة قطر ومعها أيضا ذراعها الإعلامي بجنون العظمة، وأن يُصور لها خيالها بأنه قادرة على التحرش بالجميع وسط هوس بعقلية المؤامرة ومحاولات الإيقاع بين أعداء حقيقيين ومفترضين.
غير أن الوضع انقلب تماما مع اندلاع الأزمة الخليجية ودخول المملكة العربية السعودية ومعها الإمارات والبحرين ومصر في مواجهة مفتوحة مع قطر. فجأة وجدت الجزيرة نفسها في قلب هذا الصراع وهدفا مباشرا له الأمر الذي فرض عليها إجراء تغييرات معينة في أسلوبها التحريري المعروف والقائم على نشر مزيج غريب من التقارير والقصص والإشاعات يصعب التمييز فيه بين ما هو حقيقي وما هو ملفق ومفبرك.
هكذا وبعد أكثر من عشرين عاما اضطرت الجزيرة للتخلي عن نهجها الثابت وهو تجنب نقل الأخبار عن قطر، البلد الذي تبث منه. وكانت القناة القطرية تبرر هذه الوضع الشاذ بأنه لا توجد أخبار مهمة في قطر! هذه المفارقة انطلت على كثيرين، وتقبلوها وكأن من البديهي أن تضخم الجزيرة على سبيل المثال أخبارا صحيحة أو ملفقة وتبث برامج حوارية مطولة عن علاقات إقليم كردستان العراق بإسرائيل، بينما تصمت صمت القبور عن الصفقات العلنية والسرية المبرمة بين الدوحة والدول العبرية. وكانت الجزيرة لا تتردد في سرد روايات مطولة عن أي دولة تقبل بإقامة قاعدة عسكرية أمريكية على أراضيها، في حين تمر مرور الكرام على قاعدة العديد التي لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن استوديوهاتها.
أما قصة الجزيرة مع الحرية وحقوق الإنسان فأغرب من قصص سندباد، وربما تستحق جائزة نوبل للآداب. ففي مسرحية ساخرة نصبت الجزيرة نفسها مدافعا شرسا عن الديمقراطية في مصر والعراق والبلدان القريبة والبعيدة باستثناء قطر وكأن القطريين ينعمون بكل الحريات والصحافة فيها تتمتع بحق انتقاد الحكومة "بلا حدود" وأمير البلاد "المفدى" لا يحكم بل ترك كل الصلاحيات لحكومة منتخبة مباشرة من الشعب. طيلة هذه السنوات كانت القناة القطرية ترفع بدون أدنى شعور بالخجل شعار "الرأي والرأي الآخر"، بينما لم يظهر على شاشتها أي صوت مغاير من قطر، بل وكانت حتى وقت قريب تتجنب بطريقة مثيرة للاستغراب استضافة محللين وخبراء قطريين. ولم تتخل عن هذه السياسة إلا مضطرة بعد أن فرضت الأزمة الأخيرة نفسها على الأحداث.
كان من الملفت للنظر رؤية مذيعي الجزيرة وهو يتحدثون بنبرة عالية عن مشكلة تفشي الفساد في العراق والصومال وأفغانستان والدول الأوروبية والأفريقية ، ولكن دون أن ينبسوا بكلمة واحدة عن قطر، وكأنها البلد الوحيد الخالي من الرشوة وسوء استخدام المال العام، وكأن التصرف بأموال الغاز والنفط فيه يخضع لرقابة برلمان قطري قادر على محاسبة أفراد العائلة الحاكمة، وكأن ميزانية إمبراطورية الجزيرة تُناقش على الهواء مباشرة في جلسة علنية لبرلمان الدوحة.
حتى الآن لا تلتزم القناة بأوامر أميرها في خطها الإعلامي العام فقط وإنما ايضا في اختيار ألفاظ وتسميات بعينها. فهي تعرف تماما متى يتعين عليها التمييز بين "الشهداء" و"القتلى" وبين "الثوار" و"المتمردين" وبين "المقاومة" و"الميليشيات" وبين الرئيس "السابق" و"المخلوع". ولا بأس أن تُغير ذلك إذا ما اقتضت مصالح السياسة الخارجية لقطر.
كل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن الجزيرة ليست وسيلة إعلام حرة ومستقلة مهمتها تغطية الأحداث وإيصال المعلومة وإنما جهاز دعاية وتحريض بيد مشيخة قطر، بل ويمكن القول بإنها لا تختلف كثيرا عن منظمة سياسية تضم نشطاء سياسيين، خاصة من الإسلام السياسي والذين يعملون على تنفيذ أهداف أطراف معينة ودعم وصولهم إلى السلطة. من دون شك تضم الجزيرة عاملين يجيدون حرفة الصحافة ويعرفون أسرارها ويستخدمون أدواتها ببراعة ويملكون خبرة كبيرة في العمل الصحفي، ولكن كل ذلك يُوظف لخدمة أجندة معينة وكما فعل قبلها وزير الدعاية النازي (غوبلز).
إذا كان للأزمة الخليجية جانب إيجابي فهو بالتأكيد فضح حقيقة وسائل الإعلام الممولة خليجيا. لقد كشفت هذه الأزمة بوضوح عن الوجه الحقيقي للجزيرة وأخواتها مثل العربية والحدث وسكاي نيوز التي تحولت علنا إلى أبواق دعاية تُطبل للجهات الممولة، وأصبحت تتنافس فيما بينها في الابتعاد عن المهنية والحيادية. كما بينت الخلافات بين قطر وجيرانها الخليجيين بؤس الإعلام العربي وأزمته الهيكلية المتمثلة في أن أكبر وسائل الإعلام وأوسعها نفوذا تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر للأنظمة وتعتمد أولا وأخيرا على التمويل الحكومي، بينما يواجه الإعلام المستقل ليس فقط قيودا وقمعا من قبل الأنظمة الاستبدادية وإنما بالدرجة الأولى صعوبات مالية كبيرة بسبب ضعف القطاع الخاص وسياسة التمييز من قبل الحكومات. وبهذا يجد الإعلام المستقل نفسه إزاء منافسة غير نزيهة وغير متكافئة مع الإعلام التابع.
يأتي إغلاق الجزيرة على رأس مطالب الدول المقاطعة لقطر. ويصعب تصور أن الإمارة الخليجية ستقبل بالتخلي بسهولة عن أحد أهم مصادر نفوذها الإقليمي، وستدافع عنها بشراسة تحت شعار "حرية الصحافة" التي تدوس عليه بأقدامها يوميا. غير أنه من المؤكد أن الأزمة الحالية تركت بصماتها بوضوح على أداء الإمبراطورية الإعلامية، وستجد قطر نفسها مضطرة لتقليم أظافر بوقها الإعلامي ولإجراء تغيير جذري في سياستها التحريرية، هذا إذا لم تُجبر على إسكات هذا الصوت النشاز، وإن لم يكن الوحيد في العالم العربي.
من الواضح أن الجزيرة لم تعد تسلي أمير قطر وإنما تحولت إلى عبء كبير عليه يقض عليه مضاجعه بدلا من أن يساعده في النوم باسترخاء.
فمتى يدرك الجزيرة الصباح وتجد نفسها مطرودة من حضن الأمير الدافئ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال


.. روسيا تواصل تقدمها على عدة جبهات.. فما سر هذا التراجع الكبير




.. عملية اجتياح رفح.. بين محادثات التهدئة في القاهرة وإصرار نتن


.. التهدئة في غزة.. هل بات الاتفاق وشيكا؟ | #غرفة_الأخبار




.. فايز الدويري: ضربات المقاومة ستجبر قوات الاحتلال على الخروج