الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القصيدة المتوحشة - الفصل 22 من الرواية

ريتا عودة

2017 / 7 / 19
الادب والفن


-22-
عدتُ للبيت وكل تفاصيل اللقاء والمناقشة إنحصرت في فارس وكأنَه الشخصية الأكثر وضوحًا بين جمهور القرَّاء والمتابعين.
قال لي: "لا تشيري إليَّ حتى ولو بحرفٍ واحد. دعيني أكون فقط مستمعا".
كان فارس أوَّل شخص يُقيِّم ندوة إشهار ديواني. بصراحة .. تقيمُهُ كان أقرب للغزل منه للموضوعيّة.
استغربت من تودده لي فبادرته بسؤال : كيف هي زوجتك وابنك ، وما هي آخر أخبارك؟
أخبرني قصته الموجعة:
طلاق وولد وحضانة وحياة مشتَّتة بين دُبيّ والأردن وعودة مجبرًا لفلسطين وبيع حصته الإرثيّة لتحصيل هُوية بالواسطة وبناء بيت للسكن. وفعلا تم ذلك واقام هنا بلاعودة للأردن أو خارج فسطين.
بدأت قصته تشدّني فأنصتُ حتّى الثمالة. ثمّ... طرحتُ عليه فكرة أن أخْطَبَ له وكنت قد فرغتُ من تزويجِ إخوتي الذُّكور بعد وفاةِ والدي، وهذا واجب اجتماعي تؤديه كل أخت تقريبا. شجَّعتُهُ أن أقوم بدعمه ماديًا بكلّ ما يحتاج له من مال ودعم نفسي وعائلي بحكم صلة القرابة بيننا.
فأجابَ:"إن فكَّرْتُ يومًا في الزَّواج ستكوني أنتِ شريكة حياتي ولا أحد غيرك".
= لكن.... ألسنا إخوة؟
-لا لسنا اخوة . أنا منذ عدت إلى فلسطين زارتني خالتي.. أمِّك. وإذ عانقتني أحسستُ بوالدتي فبادرتها بسؤال:
=هل أرْضَعتني يا خالة كما أرضعت باقي إخوتي؟ هل انا ابنك بالرضاعة ؟
أجابت:
-لا يا خالتي لم أُرضِعْكَ.
أرضعتُ إخوتك.. أمّا أنتَ فلم أرضعك.
قلت:
-هكذا اذن ، يصبح زواجنا جائز شرعا . ولكن.. هل أنتَ متأكد ؟
أجابَ بنعم مُقرًا بصدق ما حصل مع أمّي.
...
..
.
هكذا.. بدأنا مشوارَ معاناة مع أهلي وأهله. جميعهم رفضوا ارتباطنا. منهم من قال:
= خولة أميرة وفارس مشرَّد. لا وطن له . حتّى وإن عاد ليستقرّ في فلسطين سيعود يوما ما ويرحل.
وآخر قال:
- لن نُخاطِرَ فيكِ يا خولة.
هم لا يعرفون جوهر فارس .
الصورة النَّمطية التي كوّنوها في مخيلتهم عنه صنعتها خيالات بعضهم أمّا الواقع فبريء من خيالاتهم.
= موتي!
قالتها امي بحزم حين عرفت أنّني وافقتُ على فارس بعدما خطبني رسميا من أخي الأكبر بحكم العادات والتقاليد المُتَّبعة.

إصرارهم هذا على قلع الفكرة من جذورها أرهقني وجعلني ألجأ إلى فارس كلَّما ضغطوا عليَّ لأبتعدَ عنه. كنت على يقين أنَّ ما يربطنا أقوى من كلّ العواصف.
تعبتُ كثيرًا ريتاي..!
خطبتُ وتزوجتُ في أقلّ من شهرين ولا أعرف كيف مرّ بناا الوقت. كان كل همِّي أن أحيا مع فارس.
تعبتُ كثيرا ريتاي...!
...
..
.
هكذا.. بدأتُ أحيا ملامح حياة مختلفة كليا عمّا إعتدته قبل فارس.
لأوّل مرّة في حياتي أعرفُ معنى" حُبّ" أو "عشق".. معنى أن تذوبَ شخصيتك في شخصية الآخر حتى تصيرَه بكلِّ تفاصيلِهِ.
بدأنا مشوار الألف ميل من لا شيء.
فارس رجل ناضج. خَبِرَالحياةَ بكلِّ قسوتها وبكلّ ما فيها من مباهج. خالطَ العربَ والعجمَ ، وخَبِرَ النَّاس. تأقلمَ مع كلِّ الأجواء التي عاشها.
عندما كبر وقرَّر أن يستريحَ من التِّرحال، أرسله الله لي ليكونَ مَلاكي الحارس ويكون حظِّي من دنيا لم تمنحْنِي إلاَّ القليل القليل.
التقينا فأكملَ أحدنا الآخر.
أشعرُ وأنا أنظرإليهِ أنَّني أنظرُ لذاتي في المرآة. التَّشابُه بيننا كبير وكبير جدًا. ربما لأنّ الدم ذاته يمشي في عروقنا فوالدته خالة والدي.
أنظر إليه.. فأراهُ يُشبهني ، ومرَّة يشبه والدي ، وأخرى أرى فيه خالتي ، وأخرى أخي. هكذا.. أرى فيه بعض الملامح من هذا وذاك من أفراد عائلتي فأبتهج.
ربما لم يفهمني أحد في هذه الحياة كما عائلتي، فجمعهم الله في فارس ليكونَ هُوَ جميعهم.. ليكون هوَ بعضي وكُلِّي.
معه.. أنسى أهلي والجميع. لا أفكِّر إلاّ في البقاء معه. يوميّا.. نتحاور ونتسامر. يطولُ السَّهرُونحن بينَ مدٍّ وجزرٍ. كلَّ ليلة نعيد قصَّ ذات التفاصيل ولا نملّ.
أكاد لا أشعر بالوقت معه.
في غيابه.. يتملّكني الإحساس أنّ ثقلا ما يحبسُ أنفاسي. أظل هكذا في حالة إختناق حتّى يعود فتدبُ الحياةُ في عروقي من جديد.
ها قد مضى عام ونصف، ونحن نتبادلُ الأدوار بيننا. لا نكلّ ولا نملّ.
خبرة فارس المعرفية واسعة.
لم يترك كتابا إلاَّ وقرأه. لم يترُك مسرحية ألّا وشاهدها. الشيء الغريب في حياته هو إدمانه على الأفلام الأجنبية ومشاهدة ذات الفيلم عشرات المرّات. في كل مرّة يعيدُ إقتناص ذات المشاهد المفخخّة وكأنّه يشاهدها للمرّة الأولى. أستغربُ استغراقه في تفاصيل أفلام الخيال العلمي والأساطير القديمة جدا والمُمِلَّة جدا فهو يعرف كل أسطورة ورواية عالمية.
أحيانا أشعر أنَّ معرفته الحياتيّة تفوق عمره. ما مِن برنامج أو وإكتشاف علمي لا يعرف عنه.
يعتبرُ نفسه مقصِّرًا في حَقِّ ثقافته إن أخفق في فهمِ مادة ما. يبدو لي أن الحِراك الداخليّ في جوفه لا يتوقف لحظة. كأنه جنديّ في مضمار الحياة والمعرفة.
آهٍ ريتاي..!
صقل فارس شخصيتي النَّرجسية ، وعجنني من جديد وأخرج مني خبزا طريًّا حسن المذاق.
أنا.. ريتاي .. أقرُّ وأعترف بكلّ هذا العجن . أصبحت كلّ يوم أمنحه ذاتي ليصقل شخصيّتي أكثر وأكثر فأبدو أكثر عمقا ممّا أنا عليه.
تجمدت الكلماتُ في فمي. ما عدت قادرة على البوح إلا كما يريد فارس.. حتّى قلمي أعدت تشكيله كي يُرضيه ويأتي على مستواه الفكريّ.
كثيرا ما أوْحَى لي فارس بنصٍّ ما وطلبَ مني كتابته بإسمي ولكنّني تردَّدْتُ مرارًا في أن أنسبَ لي نصًّا هو في الأصل فكرته وابداعه.
يقول لي.. وهو صانع التُّحف الفنيّة من الرّمل الذي يقوم بتلوينه وخلق عوالم منه:
= أكتفي أنا بالرَّمل. ك
أنا هنا وُجِدْتُ وسأبقى.
أتيتُ مِنَ الرَّمل وإلى الرَّمل أعود.
...
..
.
كان دومًا يقول لي:
= أكتبي ما يحلو لك.
لن أقول لكِ سوى إستمري.. أكتبي.
لكن... إعلمي أنَّ كلمتك تُوثَّق على ورق والورق فِكْر ومسؤولية، ستحاسبين عليها إن أخفقتِ، فحاذري من الإخفاق.
...
..
.
ريتاي...
الكلمات عاجزة عن وصف جمال الحياة مع فارسي..!
أكتفي بالاستماع لقلبه ينبض بكلِّ هذا الحُبّ. صرتُ أخشى أن أتحدّث عنه لأحد كي لا تحسدني عليه النّفوس فأفقده!
انا اؤمن بفكرة: "ما بِحْسِد المَال إلاَّ صاحبه."
صرتُ أخشى على حبنا مِن الحَسَد.
...
..
.
ترك فارس خلفه كل ما مضى من ذكريات وأتى إلى حياة مختلفة أنا فيها الملكة، وهو مَنْ:
"يتوجَّب عليهِ إسعادي"
كما يقول لي دومًا.
= لا تُجْهدي نفسَكِ. أنا أُرْسِلتُ إليكِ بحكمةٍ ربانيَّة لأُعوِّضَكِ عن السَّنوات العجاف التي مررتِ بها. لا تجزعي وكوني على سجيتك.
ريتاي...
أكاد لا أصدِّق كلَّ هذهِ التَّفاصيل الصغيرة ولكنّني أعيشها بكل ما في الكلمة مِن مَعنَى.
ربما حاجة كلّ منَّا للآخر في هذا العمر هو ما يربطنا ببعض بقوَّة ويبعثُ على إستمراريةِ الحُبِّ بيننا دون كلل أو ملل.
كثيرا ما أردّد على مسامعه:
- ليتك بحثت عني منذ عدتَ الى فلسطين سنة 2008
فيجيب:
ليتكِ فكَّرتِ أن تزوريني في العقبة عندما زرت الأردن في 2003
...
..
.
كنا قريبين جدا من بعضنا البعض وبعيدين جدا في ذات الوقت.
ولكن.. شاء القدر أن يجمعنا بعد عشر سنوات من عودته ربما إمتحانًا لي وله لنؤمن أنَّ الله معنا.. يعرفُ ب تعبنا ويريد أن يعوِّضَ كلينا عن سنواتِ الشَّقاء والإغتراب.
هو عن وطنه.. وأنا عن واقعي المؤلم حتّى النّخاع.. فقد كنتُ أشعر بالإغتراب وأنا بين أهلي وناسي وكتبتُ بعضًا من وجعي هذا في ديواني.
أمّا هو فقد كتب وجعه على صفحة القدر ...إلى أن شاء لنا القدر أن تلتقي بوصلتينا الاثنتين في ذات القارب لتشيرا إلى ذات الرّحلة.
...
..
.
ريتاي..
كوني الفرح حبيبتي.
وطمئنيني عنك وخالد؟
أهو فارس أيضا؟
أحبُّكِ بالثلاثة يا توأم روحي وحلمي.
أتوقُ أن نلتقي.
.
.
خولة
..




















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تغطية خاصة | روح أكتوبر حاضرة في أغاني النصر وسينما الحرب |


.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال




.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية


.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري




.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد