الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في حضرة ماناس برفقة جنكيز أيتماتوف (1)

عماد الدين رائف

2017 / 8 / 1
الادب والفن


تلقيتُ دعوة رسميّة للمشاركة في ملتقى دولي يُعقد في النصف الثاني من الشهر الحالي في العاصمة القرغيزية بشكيك، بعنوان "قراءات أيتماتوف للحوار بين الثقافات". ولعل أول ما بدر إلى ذهني إثر تلقيّ الدعوة كلمتان "آيكول ماناس" (ماناس ذو النفس العظيمة)، ولا أعني بذلك ماناس الملك المحارب الأسطوري، الذي يحتلّ مرتبة جليلة من الاحترام لدى الشعب القرغيزي، بل الملحمة الكبرى التي تحمل اسمه، والتراث الشفوي المتناقل منذ أكثر من عشرين قرنًا لدى القرغيز.. أي الملحمة بذاتها لا بطلها. الملحمة التي تتخطى حدود الجمهورية القرغيزية لتغدو الركيزة الثقافية الأهمّ لدى شعوب آسيا الوسطى.

ربما يعود السبب في ذلك إلى استعادتي لحظاتٍ قضيتها قبل أشهر في الاستماع إلى صوت الفنانة القرغيزية غولزادا ريسكولوفا، في حفل إطلاق أغنيتها التي تحمل الاسم نفسه "آيكول ماناس"، في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي. وقبل أيام، حين أردت إعادة الاستماع إلى تقرير عن ذلك الحفل كانت قد أعدّته الزميلة زولايكا إركومبايفا وبثّته قناة "لِميُون" على صفحتها الالكترونية، تفاجأت بأن نسخة أصلية من فيديو كليب الأغنية باتت متوفرة على موقع "يوتيوب". وتتخطى أهميّة هذه الأغنية، وهي عبارة عن عدد من أبيات الملحمة والتي استغرق إعدادها عامين، خاصيّة التناقل الشفهي للملحمة الخالدة. فللمرّة الأولى تخرج تلك الكلمات على الملأ في رحاب التكنولوجيا الحديثة بصوت امرأة. وذلك يُعتبر جرأة كبيرة من الفنانة، التي كانت قبلذاك قد استخدمت موضوع إحدى الملاحم القرغيزية الصغرى في أغنية لها بعنوان "كُرمانبيك". إلا أنّ لملحمة ماناس بالتحديد مكانة مميّزة يُعدُّ رواتُها الذُكور (الماناستشي) أوصياء على التاريخ الشفهي. وقد عبّرت غولزادا عمّا تعنيه لها الملحمة (على حسابها على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك)، تقول: هي جبروت الروح البدوية لقيرغيزستان والانسياب السحري الحميم للعيش في جبالنا. يمكنكم التعبير عن هذه المشاعر الصادقة بالصوت والموسيقى، فكانت أغنية آيكول ماناس. ذلك وتبقى ملحمة ماناس إرثًا ثقافيًا ذا أهمية كبيرة لقرغيزستان. فقد عملنا على الأغنية لعامين بلا كلل، للخروج بنتيجة بحث عميق ومحترف في قرون من الثقافة القيرغيزية القديمة الرائعة.
خِلتُ للحظة أنّ الملحمة بصوت امرأة ارتقت إلى بُعد آخر جديد، وربما لا يجافي هذا التخيّل جانب الحقيقة لدى القرغيز، الذين يُحيطون ماناس بهالة من القداسة، أولى مراتبها قداسة الانتماء وتعظيم الأسلاف الكرام. ولا تعتبر أغنية غولزادا تحدّيًا للسلطة الأبوية في بلادها، برأيي، بل استذكارًا وتأكيدًا على دور المرأة الكبير في الملحمة إلى جانب أبطالها من الذكور.

ولتلمّس جانب من قداسة هذا الإرث الشفهي نستمعْ إلى شاهدين اثنين، كانا من الأوصياء الفعليين على الثقافة القرغيزية الموغلة في العراقة. ركزتْ في ذهني، أوّلًا، كلمات قليلة للكاتب القرغيزي السوفياتي الكبير جنكيز أيتماتوف عن الملحمة، يقول فيها: ملحمة ماناس في المقام الأوّل إبداع منقطع النظير، يجسّد عبقرية الشعب القرغيزي النابعة من أرضه. هي ملحمة مبنيّة على أحداث حقيقيّة ووقائع وأبطال، تناقلتها الأجيال من قرن إلى قرن شفاهًا من راوٍ إلى راوٍ، فتقولبت وتجدّدت وتطوّرت، وتخفّفت من أحمال زائدة، وولجت مساحات استيعاب جديدة وتلقّحت بعناصر ضروريّة لاستمرارها ولبعثها المتجدّد. وقد وصلت في المُحصّلة اليومَ إلى مستوى باهر من الكمال.

أما الشاهد الأمين الآخر فيعتبر أحد أهمّ الماناستشي في القرن العشرين - قرن تدوين الملحمة، الراوي والكاتب الكبير ساياقباي كارالايف، ففي تصديره لأقسام الملحمة الثلاثة، يقول: القارئ العزيز، نطلب منك أن تقرأ هذا الكتاب بقداسة وأن تُحافظ على طهارته. فقد مرّ هذا النصُّ الذي فيه لقرون عديدة من فم إلى فم، وهو إرث ثمين لا تقدّر قيمته بالذهب، إرث أسلافنا، فما دامت البشريّة مستمرّة على وجه البسيطة سيستمرّ وجود الشعب القرغيزي وسيتواصل، بإرادة الله، تكريم هذا الإرث العظيم على أيدي ذريّتنا. عند وضعنا لهذا الكتاب استخدمنا نماذج متعدّدة لملحمة ماناس. وسعينا جهدنا أن نغطّي جميع فصولها، وأولينا عناية خاصّة بالغنى الفنّي للتراث الشعبي. إنّها محاولة أولى لتعريف القرّاء، وخاصة جيل الشباب، والمجتمع الثقافي الدولي كلّه إلى عظمة ملحمتنا وعظمة أسلافنا وسماحة نفس ماناس العظيم.
و إذا كان الكاتب الكبير جنكيز أيتماتوف غنيًا عن التعريف لدى القارئ العربي، فساياقباي كارالايف (1894-1971)، هو شاعر قرغيزي سوفياتي وماناستشي عظيم. ولد في أسرة كارالاي الفقيرة في قرية سيميز بل التابعة لمقاطعة ايسيك كول القرغيزية، وعمل أجيرًا منذ نعومة أظافره، وشارك في الانتفاضة المحلية ضد السلطة الروسيّة القيصريّة في بلاده سنة 1916، وحارب طوال فترة الحرب الأهليّة الروسية ضد الروس البيض التابعين للقيصر على الجبهة التركمانستانيّة. ظهر ميله إلى الشعر منذ طفولته، بعد استماعه إلى أبيات من ملحمة ماناس روتها عليه جدته، وكان يردّدها خلال خدمته في الجيش الأحمر على الجبهة. وبات ساياقباي أحد الماناستشي المشهورين في بلاده أواخر عشرينيات القرن الماضي. وفي ثلاثينيات وأربعينيات ذلك القرن، عمل مع عدد من الباحثين في التراث على تدوين الملحمة الكبرى، وقد لقّبه جنكيز أيتماتوف بهوميروس القرن العشرين. اليوم يحمل الشعب القرغيزي ذكراه الطيّبة، وتحتل صورته العملة الورقية القرغيزية من فئة خمسمئة سوم. في العام الحالي، تمّ تصوير فيلم وثائقي عن كارالايف بعنوان "ساياقباي: هوميروس القرن العشرين"، ولعب الدور الرئيسي في الفيلم الممثل مارات جانتالييف، وهو من إخراج إرنست عبديجباروف.

فما سرُّ هذه الملحمة؟ وما الرابط بينها وبين المبدعين القرغيز وعلى رأسهم جنكيز أيتماتوف؟ وكيف استمرّت الملحمة لأكثر من عشرين قرنًا من الزمن من دون أن تتغيّر فصولها وأبياتها، وهي ليست بالقليلة؟ فالقسم الأول وحده من الملحمة، والذي يروي حياة الملك الأسطوري ماناس يقع في نحو مئة وثلاثة وثمانين ألف بيت شعري، أما الملحمة كلّها، التي تحفظها ذاكرة الماناستشي فتتخطّى عتبة النصف مليون بيت. فهل تحلُّ روح ماناس في أعمال المبدعين على مرّ القرون لتخرج نثرًا وشعرًا ورقصًا وفنونًا أدائيّة وموسيقيّة وتشكيليّة؟ سأحاول تلمّس الإجابات على هذه الأسئلة، مع الإضاءة على أثر الذاكرة الشفهية على أعمال أيتماتوف، والبحوث العلمية العديدة التي تناولت تلك الملحمة التي تفلّتت في أحداثها وشخوص أبطالها من علوم التاريخ والفلسفة المادية نحو رحاب إنسانية عالمية.

-----------------------------------------------------
في حضرة ماناس برفقة جنكيز أيتماتوف (الحلقة الأولى) - مقدّمة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي