الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


?لقاء كوميدي مؤجل

احمد مصارع

2006 / 2 / 8
الادب والفن


لقاء كوميدي مؤجل
قرأت إعلان النعي ، وهي عادة حديثة في بلدتنا الريفية ، أصبحت مدينة كما يقال ، وهي ليست كذلك من كل النواحي ، لقد انتشرت وكبرت حقاً ،. ولا يندر أن تجد احدهم معتداً ، يحكي ببلاهة عن المدينة وكأنها أصبحت ( قطعة من أوروبا ) ومن يعرف الواقع وحقيقته غالباً ما يكون غير مستعد لإضاعة وقته لتفنيد هذا الكلام الجزافي , وهوان فعل , فسيقال عنه :.
ـ عاش أياما قليلة في أوروبة , وهاهو يدعي معرفة كل شيء .
ـ يحسب أن أوروبة لا يعرفها إلا من رآها … ! وليس كل من عاش فيها عرفها …
ـ لو كنا في أوروبة لصنعنا العجائب , دعك منه , انه مدع ولا فرق إن كان حاضراً أو غائبا.
إعلان النعي هو الجرس الحزين، قرأت حروفه النافرة بإمعان، وكأنني غير مصدق لمحتوياته ورغم أن الموت قريب منا، قريب أكثر مما نتخيل … سأكذب إن قلت هذا أمر عادي، فالأمر خارق للعادة بدليل صدمتي الكبيرة، فما هذا السحر الذي تحدثه مجموعة كلمات وحروف في إعلان نعي ؟ … ما هي المشاعر التي تجتاحني من الحزن والألم لهذا الفقدان ؟ شيء يشبه الحريق الصغير الذي يكبر شيئاً فشيئاً حتى أجد نفسي عاجزاً عن ممارسة حياة يقال عنها عادية أحيانا أو طبيعية أحيانا أخرى.
الصدمة حقيقية للغاية، هذا شيء أكيد، اهتز لها كقرار بلا جواب، وكصيحة بلا صدى، وكصدمة يهتز لها كيان الإنسان وحين تتحكم الغصة وتمتنع الدموع عن الهطول من الهول … نعم من الهول … لا ليس الهم وشدته ما يسبب الدهشة والاستغراب ، هنا تكمن الفهمنة والعلمنة الخاوية كأغصان الأشجار الجافة من العطش ، وادعاء المعرفة باطل … باطل كل ما يدعونه عن الموت وهو الحقيقة الكبرى ولكنه ينظرون إليه بمنظار مصغر , وهذا كذب مبالغ به حقاً .
إعلان النعي المثير ساق خطواتي نحو المقبرة قبل الأوان مشياً على الأقدام ، ولكي أمشي وحيدا , وذكراه تخاطر أمام ناظري , وكأنني على موعد للقاء معه هناك في المقبرة , كما لوكنا نتواعد ونهفو للقاء أثناء الغربة , وفي بلاد بعيدة , كما أن المقبرة غير بعيدة سوى بضعة كيلو مترات , حين شرعوا بالدفن، اطلعت على الجثمان المسجى والأيل إلى السقوط في حفرة القبر، شعرت بالرعشة وتهربت من التفاصيل بعيداً بين شواهد القبور وان ما حدث اليوم , برغم بقيني بأن النهاية الواحدة هي ملتقى لكل طرق الحياة , وذلك حين تستوي غمضة عين مع عقود من ليالي السهر ، انه مشروع حقيقي ينتظر فاغراً فاه لأي منا ولا مهرب منه حتى في الأحلام البديعة ولكن للموت كوميديته الخاصة , إنها لحظات ساخرة في السباق , لقد حملتها عنه , وتصورت أنها لحظة الحقيقة ستنفعني , في تخيل اللحظات العادية لسفرته الأخيرة , وفي موعد ليس فيه من الاختيار نفحة .
كان صديقي الميت الآن ،هو من سيدفن حقيقة بعد قليل يعذبه هاجس وحيد في لقاء أخيه الميت منذ عقود , وكان يسألني ساخرا :
ـ كيف سيلقاني أخي ؟!
يصمت ويضحك ساخراً كطفل صغير ثم يعقب :
ـ سيقول لي أنت تكذب, حتماً أنت كذاب من الطراز الأول, لقد تعلمت في الحياة من بعدي شيئاً وحيداً اسمه الكذب .
ـ من سيقنع أخي بأنني لست بالكذاب ؟!. هذه مشكلتي يا صديقي …إنني احتاج لشاهد يموت معي !.
لا أحد يراني بين شواهد القبور على البعد ولكنني لا أقدر، نعم لا أقدر على الابتسام.
حتى هؤلاء دعاة الطقوس الاحتفالية بإعلان الأفراح والأعراس والغناء على قدم سواء، كالموت وكالميلاد. الآن ولد ، والآن مات .
فمن رحم الحياة إلى رحم الموت . . أشك بقدرتهم على الابتسام الصادق من القلب ، والكذب بالحياة الدنيا صعب للغاية . بل هو صعب دائماً . حتى بالحياة الآخرة لمن لا يمتلك القابلية على الكذب .
صديقي الميت ليس ضعيفاً , إنه قادر على موته ، وغني ، غني أكثر مما تتخيلون أيها السادة . . لقد كان إعلان موته مكتوب بحروف مذهبه. أما جنازته فقد كانت أضخم مما تتصورون . . ولن أخبركم عنها شيئاً. فليس ذلك هو الحدث الاستثنائي . . وتسألوني بلا فضول . . . ما الذي تراه ولا نراه، ولماذا تقف هناك بعيداً عنا وكأنك من كوكب ثان غير كوكبنا الأرضي، ولكنها الحياة حديثة من مختلف الألوان. .
كنا قد بدأنا حياة الهجرة معاً في وقت سابق ، ومثل كولومبس اكتشفنا الثروة في القارة الجديدة ولكنه بمجرد أن حصل على بعض مقومات الثروة ودعنا قافلاً إلى البلدة التي يقال عنها صارت مدينة أو قطعة من أوروبة . أما أمريكا فلا أحد يعرف عنها الشيء الكثير إلا من عاش فيها، فمن في بلدتنا يعرف ما معنى نداء الشباب الحالم.
ـ أمريكا هي حلمي الوحيد .
صديقي عاد منها في وقت مبكر لغاية وضع الكثير ، بل صنع ما عجزنا نحن الأمريكيون عن القيام به ، فقد دخل عالم المقاولة في بلد لا يعرف ما معنى المقاولة وما هي شروط المشروع ، بل واستطاع أن يفرض نفسه بجداره ، وكان شعاره حسب ما شرح لي أثناء السهرات الليلية : هو النجاح بأي شكل من الأشكال أي مشروع كان أبنية ، طرقات, سيارات. . لا يهم وتحقق له ما يريد.
عدنا إلى البلدة غرباء ، بعد عقود طويلة من الزمن .
لم نجد إلا القلة القليلة من الأهل والمعارف وكان هو الميت الآن هو أحد المقربين إلينا، فماذا افعل ؟ . . ولا أحد منا يستطيع دفع الموت عنه ، فالموت حقيقة خرساء تهزأ من كل الألسن أريد أن ابتسم. . .من يمنعني من الابتسام ؟ . . . لا شيء إلا ما أخفيه في نفسي من شجون كنا في القرية معاً ، وكان يشكو دائماً من ربقة الفقر في بلادنا . . .
لم ينسى للحظة واحدة ونحن نعيش حياة النعيم . . . لحظات الجوع المريرة. والفقر الشديد في بلادنا ويصرخ بين حين وآخر . . .
ـ يا حرام . . . . يا حرام . . . تذكروا الجوع في بلادنا . . .
وكان البعض يرد عليه بقسوة : كفاك نكدا , عش حياتك يا رجل .
ولكنه عاد بدون تردد مكتفيا من دفع السرعة الابتدائية الأولى , ليحقق النجاح الأكيد في بلده .
حين التقينا. ـ أهلا بالهارب من الجنة والملهوف للقاء الجحيم . . .
ثم يقول ساخراً .
ـ يا صديقي . . لم تفهم بعد ، ما المشكلة ؟ .
لقد قتلنا الجوع . . . الجوع الحقيقي يا صديقي. . أصغ إلي للحظات أرجوك فعند ما توفي أخي كان الخوف يملؤه ، كيف يردم في القبر ؟ تحت حفره , بدون كفن فمن سيدفع ثمن الكفن ؟ إما من يعيل أبناءه فذاك من أبعد الأماني بالنسبة إليه.
ثم أسأله معاتباً . ـ ألم تقم أنت بذلك ؟ الم تسد الثغرة ؟ . ويضحك من أعماق قلبه . ..
ـ أي ثغرة ؟ هل توجد في هذا العالم ثغرة ؟ إن كل ثغرة قد سددتها بإحكام . . إلا ثغرتي أنا. . . ! .
ـ كفاك غروراً وكفاك افتعال مواقف سرية للغاية . وكأن العالم مؤامرة لا نهاية لها.
ويضحك بائساً بدون سعادة حقيقية . . . ويردد بكل أسى .
ـ هناك مشكلة . . . توجد مشكلة فقط لو تفهم ما هي مشكلتي ؟ .
سهراتنا معاً لم تمض دون فهم المشكلة.. . ! . . والآن فقط يضعني صديقي في ختام حياته أمام المشكلة ، ويجبرني على الابتسام في غير لياقة بالمقام وهذه بعضاً من كلماته العالقة بمخيلتي الساخرة على الدوام .
ـ يا أخي . . .أولاد أخي اليوم من أغنياء البلدة التي لن تصبح مدينة أبدا . .
ولا يوجد احد منهم إلا ويملك سكناً غير عادي ومحلات ، وسيارات فارهة . أنهم أغنياء . . وكأن لسان حال بعضهم نقول:
ـ لقد ولدنا ونحن نأكل في ملاعق من الذهب.
وأتذكر تفاصيل ملامح صديقي، المهمومة من الألم. . .
ـ يا أخي . . . اسمعني جيداً يا أخي وصديقي. . . ماذا سأقول غداً لأخي حين يلاقيني عند الموت . الموت. . نعم الموت . . أحس بالموت قريباً مني وعلى بعد خطوات .. افهمني . .فقط افهمني . . هل تعلم ماذا سيقول لي إن قلت له أن أبناءك هم من اغني الناس في البلدة التي قد تصير مدينة . . . فماذا سيكون رده .؟
ـ سيقول لي ببساطة :..أنت كذاب . . .. وأنت الآن تكذب .
أنا المبتسم بلا معنى بين شواهد القبور. . .! . لن أخرج من المقبرة . . كلماته تأسرني .
ـ أنا متخوف للغاية يا صديقي من لقاء أخي .
أخي الذي مات يحلم بمجرد كفن . بينما أصبحنا اليوم أغنياء بلا حدود. . . أغنياء نموت حسب ما نشاء من طقوس .
لقد فوجئت بالقارة الجديدة . . . فالقارة الجديدة حياة ولكن الموت هو أقدم القارات على الإطلاق . . ونحن حين نمضي إليه بالرغم عنا : حكماً سنخشى من كوميديا . اللقـــــاء .. . .
أنا الآن أقف وحيداً عند رأسك يا أخي: لقد تمت الآن مراسيم الدفن وغادر قبرك الأهل والخلان .
وأتساءل مع ثيابي الخفيفة : ما هو الشيء العالق بي . . حيث لا مهرب من القارة القديمة كما هربت وفي الوقت المناسب من القارة الجديدة. . ومن الواضح لكل قارئ مجهول بأنك تبحث عن مشاهد ينفي عنك صفة الكذب. . . هل تريد مني أن أموت مؤقتاً حتى اشهد لك بالصدق أمام أخيك, إنني صديقك بالفعل، سأصرخ بصوت خفيض , نعم ما يقوله صديقي صحيح جدا , ترى هل سيصدقني أحد ؟ أنى لي أن أعرف متى سيزورك أخوك ؟! وهل سيسمع صوتي ؟ ولذلك من الواجب عليك انتظاري ريثما أعود وعند ذلك سيكون اللقاء الكوميدي كما تصورته مضحكاً للغاية.
احمد مصارع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي