الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
طه باقر ...
سعيد عدنان
كاتب
(Saeed Adnan)
2017 / 8 / 8
الادب والفن

1912 - 1984
لاشكّ في أنّ طه باقر مَعْلَم من معالم الثقافة في العراق الحديث ؛ نشأ ودرج على مقربة من آثار بابل ، فرأى فيها تاريخ البلاد وعمقها ، ورجع معه يقرأ الطين ، ويستعيد حضارة قديمة .
أخذ العلم على أصوله إذ درس التاريخ القديم والآثار ، وتخرّج بهما في جامعة شيكاغو ، وعاد إلى البلد في سنة 1938 ، فعمل ، أوّل ما عمل ، خبيراً في مديرية الآثار ، ثمّ كُلّف بتدريس التاريخ القديم في دار المعلّمين العالية منذ سنة 1940 ، غير أنّه لم ينقطع عن مزاولة التنقيب ، ولم يبرح مديرية الآثار . وإذا كان التنقيب عن الآثار ودراستها مقصوراً على البعثات الأجنبيّة ، أو يكاد يكون ؛ فلقد صار للعراق ، بطه باقر وبزميله فؤاد سفر ، عمل مرموق في ميدان التنقيب ، ودراسة المواقع الأثريّة . وقد سار التدريس لديه مقروناً بالتنقيب ؛ لا ينفصل أحدهما عن الآخر ؛ إذ كلاهما يفضي إلى صاحبه ويمدّه بما يحييه ، ويقيمه على الوجه الصحيح .
وتهيّأت الأسباب ، به وبصحبه ، لتأسيس قسم الآثار فأسسه في سنة 1951 ، وأقامه على ركن متين ؛ يجمع بين المعرفة النظريّة ومزاولة التنقيب .
وكان لا بدّ من مجلّة رصينة تتولّى نشر نتائج التنقيب ، والأبحاثَ الأثريّة ؛ فأنشأ ، مع آخرين ، مجلّة " سومر " وهيّأ لها الأسباب ، وجعل منها ، مع صحبه ، على الغاية من الجودة والإتقان حتّى صارت تُطلب في جامعات أوربا وأمريكا ، ويرجع إليها الباحثون ، وهم على ثقة ممّا يُنشر فيها . وعلت منزلته ، وشهدت منه ميادين المعرفة رجلاً رصين العلم ، متين الخلق ؛ مهارةُ فأسه في التنقيب لا تقلّ عن مهارة قلمه في الكتابة !
وحين تكاملت عنده مادّة وافية عن حضارتي وادي الرافدين ، ووادي النيل ؛ وضع كتابه : " مقدّمة في تاريخ الحضارات القديمة "؛ على نهج من التمحيص ، وحسن الاستيعاب ، وسلاسة البيان ؛ حتّى عاد مرجعاً لا يستغني عنه باحث . ثمّ رأى أنّه لم يستوفِ الحديث عن الأدب العراقيّ القديم حين وضع مقدّمة في تاريخ الحضارات القديمة ، وأنّ الأمر يقتضي كتاباً برأسه ؛ فألّف : " مقدّمة في أدب العراق القديم " ؛وأداره على الشعر والنثر مبيّناً ما تضمّنا من أفكار ، وما جريا عليه من صياغة . ثمّ وضع كتاباً ردّ فيه جملة من الألفاظ التي عُدت أعجميّة إلى أصولها في لغات العراق القديمة ؛ فهيّأ بذلك ما يصحّح ما وقع فيه أصحاب المعجمات العربيّة من وهم ؛ ذلك أنّهم لم يكن لهم علم باللغات القديمة . ولم يُغفل العلوم والمعارف القديمة ؛ فوضع : " موجز في تاريخ العلوم والمعارف " ؛ مستوعباً فيه تاريخها في العالم القديم كلّه حتّى بلغ الحضارة العربيّة الإسلاميّة فوقف عند الأعلام فيها . وسمة هذه الكتب كلّها ؛ إحكام التأليف ، ووثاقته ، وسلاسة الكتابة ؛ إذ لا غموض ، ولا التواء ، ولا حشو .
ومع التأليف زاول الترجمة ؛ فترجم ملحمة كلكامش وجعلها ميسّرة بالعربيّة ، قريبة من قرّائها ؛ يقرؤها القارئ فلا يشكو عسراً ، ولا يجد ثقلا . وترجم : " بحث في التاريخ " لتوينبي ، وساهم في ترجمة : " تاريخ العلم " لجورج سارتون . وكلّ ترجمته بريئة من عيوب الترجمة ؛ تؤدّي النصّ المترجَم على أحسن ما يكون الأداء .
ووراء ذلك كلّه منهج محكم سديد البناء ؛ قال عنه أستاذنا علي جواد الطاهر في مقدّمة كتابه : " منهج البحث الأدبي " وهو يتحدّث عن نشوء الوعي بالمنهج : " وإذ حان العصر وحلّ درس التاريخ القديم ؛ طلع علينا الأستاذ طه باقر فأكبرناه منذ الدرس الأوّل ؛ وبدأ الأستاذ يمهّد لدرس التاريخ محاولاً أن ينقل إلينا أطرافاً من مادة شغلت الغرب فوعاها : هل التاريخ علم ؟ وتحدّث لنا في ذلك غير قليل عارضاً طبيعة المسألة ، مبيّناً آراء المعارضين والمؤيدين حتّى انتهى إلى أنّ التاريخ علم بالطريقة التي يتّبعها في بحثه وتحرّيه الحقائق ."
على أنّه ، مع كلّ عنايته بالتاريخ القديم والقيام على المواقع الأثريّة ، لم يُغفل الزمن الحاضر ، ولم ينصرف عن مشكلاته ، وقد كان انشغاله بقضية العدالة الاجتماعيّة لا يقلّ عن انشغاله بالتاريخ القديم . وإذ قامت الجمهوريّة ، وزال النظام الملكي كان في صميم العاملين في العهد الجديد إيماناً منه بما يحمل من أمل ، وما يمدّ من أفق . غير أنّ الجمهوريّة التي كانت معقد أمله سرعان ما سقطت ، وتسلّط الأذى على كلّ من ناصرها ، فلحقه ما لحق غيره من سجن وفصل وتشريد .
وعمل في ليبيا من سنة 1965 إلى سنة 1970 ، وهو على نهجه في الصدق والإخلاص وتحرّي الحقائق . ثمّ رجع ليستأنف عمله في جامعة بغداد ، في قسم الآثار بكلّية الآداب ويخرّج أجيالاً جديدة أخرى ليستمرّ بهم البحث الآثاري . لكنّ جسده يضعف قبل الأوان ، وتدركه علل لا يدفعها طبّ ، ولا ينفع فيها علاج ؛ حتّى بدا شاحباً واهن الخطو وهو في أبواب الستين ! لكنّه لا يني يكتب ، وينشر ، ويوجّه طلبته !
وكنتُ ذات يوم من سنة 1984 عند أستاذنا الطاهر في بيته ، وكان مجرى الحديث في الأدب ، والثقافة ، وما يتّصل بهما ؛ وإذا بالهاتف يرنّ ، وإذا بالمتحدّث يُلقي إلى الطاهر خبراً يفزع منه ، ويشحب وجهه ، وتعلوه سحابة حزن ، وتفتر الكلمات على لسانه ؛ قال بعد أن أعاد سمّاعة الهاتف إلى موضعها : لقد مات طه باقر ، أوا أسفا ...!
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. وزيرة التنمية المحلية ووزير الثقافة ومحافظ القاهرة يزورون مو

.. الفنانة الدنماركية ليزا تقبل اعتذار مها الصغير وتكشف كيف وصل

.. وليد شميط، قلب ينبض في ذاكرة بيروت السينمائية ويثير حنين عصر

.. في حال انشغل في عمله بالشأن العام... هل يعتزل طوني عيسى التم

.. مها الصغير: أنا غلطت فى حق الفنانة ليزا.. أنا أسفة وزعلانة م
