الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القدر الوضيع

إبراهيم خليفي

2017 / 8 / 12
الادب والفن


" ورب اخ أصفى لك الدهر وده.. ولا أمة أدلت إليك ولا الأب " .
إستيقظ " البروليتاري القذر " - كما كان يسميه أحد أصدقائه المقربين - بعد نوم ثقيل كعادته على صوت أبيه المثقل بالشفقة على حاله من هول الأشغال و أتعابها " بني إستيقظ إنه وقت العمل " . إنتفظ من فراشه لتراه ثابتا مستقيما أشد إستقامة و كأنه لم يغمض له جفن طوال الليل ، نظر إلى هاتفه فإذا بها الساعة السادسة صباحا ، تثاقلت خطاه نزول السلم الخشبي ، إغتسل و ٱستعد للعمل تمام الإستعداد ككل يوم مضى . نظر إلى بدلة العمل ، تأبط شرا و سب البرجوازيين أيما سبا ، راودت قلبه أحاسيس الشفقة على حاله الذي لم يشفق عليه يوما ، على والد شهم أفنى عمره في العمل لأجله و لأجل عائلته ، خسئ و ذاب حياءا من تبذيره اللامتناهي أيام الدراسة دون محاولة في تخيل أوضاع بائسة مرت على قلب أبيه و جسده ليوفر له مالا كافيا من أجل مواصلة مسيرته الدراسية ، من أجل أن لا يحس بتفاضل طبقي بينه و بين أترابه و زملاءه بالجامعة ، من أجل ذكاءه المهدور الذي طالما حلم هذا الوالد المسكين أن يأتي يوما و يطوع ذكائه ليصبح كما أراد له أن يكون . إستفاق من سجن جلد الذات و إرتدى ملابس العمل التي دخل بها واقعه المرير من فرط ما شتمها . كان عليه أن يبكي و ان لم يكن لحاله المؤسف فلحال أبيه على الاقل لكن تخونه ملامحه ككل مرة في إظهار ما بداخله . حمل عشيقته و ولده - مطرقته و مسماره - وراح في سفر ساعات ثمان طوال ، ساعات من التعب و الشقاء مرت بين ضحكاته مع صديقه الذي لاتفوق أوضاعه قساوة هو الآخر ، بين سخرية من باقي العاملين ، وبين سجائر إلتهمها شر إلتهام أملا في الهروب من عالمه المغلق .
شرع في العمل كعادته ، لم يكن متقاعسا و لا بالنشيط تمام النشاط لكنه كان يعمل بجد على قدر ما يقدر . راح يقتلع ما تم تركيبه من قطع خشبية يوم أمس ، يدق الأخرى على أخرى و يدندن بصوت خافت ما عشق من أغاني أم كلثوم و جورج وسوف و فيروز خاصة ، يختلس نظرات لأبيه ليزداد نقمة على نقمته .
على غير العادة لمح أباه من بعيد يضع الهاتف على أذنه مذعورا فزاد يقينه بأن حدث مكروه لكن أين و متى و لمن !!! من عادة أبيه أنه " قداحة عمل " كما ينعته البعض في الجهة ، ينثني على عمله دون توقف حتى موعد الفطور - الساعة الثانية عشر و صفر دقيقة - لا يستعمل هاتفه أثناء العمل ، لا يعرف عن الخمول سوى ما يراه عن بعض العاملين معه . خبأ ولده في جيبه و إصطحب عشيقته بيده اليمنى و إتجه نحو والده فإذا بأسوء الجمل التي لم يرد سماعها تصعق أذنه .
" متى !! وكيف كان ذلك !! هل أن الإصابة بليغة !! " و كثيرا من العبارات التي تحيل عن سوء اليوم و تعاسته .
إستدار و فهم أن عليه ان يغير ثيابه و انتظر أمر أبيه .
- " بني أنت أشجع أبنائي و أكثرهم قدرة و تعويلا على نفسه " ...
قطع كلامه بسؤاله الذي ساقه عارفا نسبيا إجابته .
- " ماذا جرى بابا "
- " دعني أنهي ، عليك أن تتجه الى المستشفى ، "
هم بقطع كلامه ليسئله أي مستشفى لعين عليه أن يقصده ، لكنه واصل خطابه المتقطع .
- " مستشفى الرابطة يا بني ، حيث ستجد أخاك هناك و ... " تركه دون الإستماع إلى بقية الخطاب وهرول ليغير ثيابه و ينطلق في رحلة الشؤم تلك .
كفر و لعن و سب و شتم ولم يهدأ خاطره بعد .
غير ثيابه بسرعة البرق ، أخذ هاتفه المغلق لأول مرة لما أحسه من يوم تعيس قبل الإنطلاق في العمل .
إنتظر على الطريق و هو يردد في نفسه " تبا لك يا أخي ، تبا كم أحمق أنت لا تستطيع أن تنتبه لنفسك و لو مرة " .
لمح سيارة الأجرة " التاكسي " قادمة و كأنها تأتي من آخر نقطة في البر ، و كأنها " التاكسي " الوحيدة في العالم القذر .
وقفت و إنطلقت و سأله السائق عن الإتجاه و هو لا يزال شارد البال يفكر تارة و يتخيل تارة أخرى حالة مزرية سيجد عليها أخيه .
رحلة طويلة رغم قصر المسافة إستفاق فيها بعد سبات ألف ليلة و ليلة على صياح سائق سيارة الأجرة .
- " خويا وين قاصد ربي يا معلم "
- " عذرا محطة الميترو بباردو من فضلك " .
ثم عاد الى خيالاته و الصور التي تشغل باله قبل الوصول .
تذكر أبياتا لمحمود درويش
، " لا شيئ يعجبني ،
يقول مسافر في الباص لا شيئ يعجبني ...
لا الراديو ...
لا صحف الصباح ...
و لا القلاع على التلال ...
أريد أن أبكي .
أنتهت القصيدة و انتهى السفر و قد وصل الى المحطة و أستعد للنزول .
رن هاتفه فإذا بأبيه أن هو المتصل .
- بني ! بطاقة العلاج ، الصندوق الوطني للحيطة الإجتماعية ، رقم التسجيل . تلك هي المفردات الثلاث التي سجلتها ذاكرته ، مذعورا يعود أدراجه دون أن يدخل المستشفى حتى و يطمئن على حال أخيه .
من أين يبدأ يا ترى !
توجه إلى مقر الصندوق الوطني للحيطة الإجتماعية أولا ، قطع كيلومترات مترجلا و العرق يكاد يغمض عينيه لولا أهداب تفانت في عملها من أجل الأخوة .
كم كان نشيطا على غير العادة فقد وصل .
دخل المقر و ملأ فراغات كثيرة من أوراق جافة بقلم ضبابي ، طلب ما إبتغى من السيدة لكنها تطلب نسخة من بطاقة هوية صاحب بطاقة العلاج .
توسل و توسل أنه أتى من أقصى المدينة لكن دون جدوى ، وكأن السيدة طوال مسيرتها الدراسية لم تتلقى سوى جملة حفظتها عن ظهر قلب .
" لا ، آسفة ، القانون هو القانون "
كان عليه أن يهمس لها في تلك اللحظة : " القانون يا إبنة القحبة ، قانون في دولة اللاقانون ، وهل تعرفين القانون أصلا " كان عليه أن يسقط عليها كل ما تعلمه من عبارات التمرد عن الدولة و السلطة ، كل ما قرأه لميشيل فوكو و ميخائيل باكونين و فريديريك نيتشه عن السلطة و جور السائس .
تماسك و خرج دون أدنى ردود أفعال فإذا به أمام المعهد الذي درس فيه .
عجبا !! كيف لم أنتبه إليه ! راح يتأمل جدرانه القديمة وكأنه بناه حجرا بحجر ، أخذ نفسه يصاعد شيئا فشيئا ، و حمله الحنين إلى عالم الذكريات و الأيام الجميلة .
أيام الدروس ، أيام الأصدقاء ، أيام الرحلات الإستطلاعية ومقهى " شدلية " رفقة صديقه الجنوبي وطربيات أم كلثوم الصباحية و التغيب عن الدروس ، أيام " العكاري " الذي يصطحبانه كل صبيحة ليضحكا منه ومن خجله وإيقاعه في الإحراج مع عم " الفرجاني " نادل المقهى ، مع الفتيات خاصة من زميلاته و فتيات المعهد عامة .
آه كم كانت أياما جميلة ، و الأجمل فيها ذكريات الفتاة التي عشقها .
ترك هذا الجزء من المخيلة للأخير لينتشي من جمالها الأسطوري ، ليثمل من جميل بسماتها و حور عيناها . آه لكم تعقب مشياتها و حركاتها و ضحكاتها في المعهد .
يتبع ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف