الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدار الاوراق _ قصة قصيرة

حيدر سالم

2017 / 8 / 17
الادب والفن


جدار الاوراق


جلسَ كمال على حافة السرير وأخذ يقضم أظافره بنهم ، لم ينتبه الى أصابعه التي بدأت تتداعى تحت وطأة قلقه ، كانت أفكاره تقضمُ صفوه ، لملمَ الاوراق بتمعّن و حذر أن تطير ورقة ، إشترى قبل أيام الاوراق متناسياً وجبة العشاء بسبيل الكتابة ، كانت الكتابة تُغلفّ ذاته و تمحي شقوقها ، الاوراق تتراصف كجدارٍ صلب يحجزه عن العالم ، تخْفي الرطوبة التي تتفشى في أعماقه الهشّة ، الشقة التي توارثتها العائلة أصبحت جزءأً حميمياً من تكوينه ، رائحة الجدار التي تنفذ منها بهاء أبيه ، و روح أُمه اللدنة التي تسيل من سخام المصباح الزيتي الذي يرسمُ لوحة عبثية تُغطّي الفراغ ، هذا الفراغ الذي ينشر نفسه في الشقة و ذات كمال ، تخررج كمال قبل أُسبوع من كلية الاداب قسم اللغة الفرنسية ، تحطمت أماله بإستكمال الماجستير لان العمل سيتقاطع مع أوقات الدراسة ، الكتب مبعثرة في كل مكان ، طالما آثر شراء الكتب على شراء الثياب ، وها هو يعود من المقبرة وقد نسيَ معطفه على قبر أبيه ، لم يحفل بأُمه كثيراً لا في حياتها ولا حتى في مماتها ، كانت صامتة تنتحب تحت المصباح الزيتي بثوبها الاسود ، يعلوها السخام الذي يتوحد مع حزنها و ثيابها ، كانت تشكل كتلة واحدة من السواد الي يُطرزّ الحائط ، كل الذي تغير بعد موتها بالنسبة له ، أن اللوحة السخامية الممتدة مع أُمه قد طالتها يد ما ، قصّ الجزء الذي كان يُكمّل اللوحة الغُرابية ، كما تقص ّ ورقة الى نصفين ؛ أُزيحت من المشهد ، زُجّت في بئر الغرق السرمدي .
بعد أن كان وحيداً، الان تُشغله حبيبته الساحرة عن تيهه المزمن ، غيّرت خطواته التائهه الى خطوات ناضجة لها سبيل واحد ؛ هي .
الاتجاه الذي كان يفتقد له قد صبغ خطواته بالوصول ، ليس من مُدّة طويلة لكن التغيير كان فعالاً ، فكّر بالزيارة المُترقبة بينما كانت الشقوق تبزغُ كأفاعٍ تنثرُ جلده بالتقزز ، البرد يمد أنيابه المحدودة بتمعن الى داخل جلده المهترئ ، لقد كان المعطف يخفف من حدة هذا البرد الذي لايراعي قفر المكان ، لكنه الان يدفئ قبر أبيه ! ، وعدته حبيبته بزيارة قريبة وهو الان يفكر ماذا سيقول لها لو طلبت العشاء ؟ هل يقول لها إنه مريض كي يتفادى هذا الموقف ؟ أم يلغي الموعد بحجة انه علق بالزحامات ؟ لا فائدة من كل هذه التراهات ، الجميع عالقون داخل ضجيج العالم المتجدد ، اللامحدود ، انتفض من السرير المتهالك الى الحائط ، اغطس يده في الشقوق التي تفتح فمها هازئة ، فارضة وجودها كجزء لا يستغنى عنه ، دفن كمال وجهه على يده ، تفيض شقوق ذاته المتصدعة على سحنته الغاصة باللاملامح ، وجهه متغضن يملئه حزن و كئابة و ابتسامة أقرب الى دمعة جافة على هيئة ابتسامة ! الرطوبة فعلت الكثير بوجهه الذي كان يوما ما ناعماً ، اصبح منذ سنوات بركة طفح جلدي ، و نتوءات مستمرة ممتلئة بالدم و السوائل الدهنية المقرفة ، هذه اول زيارة لهما في الشقة ، انه الموعد المرتقب ، فكر يمكنهما ممارسة الجنس لو ارادت ذلك ، ثم عدل من الكلمة حسب ماقرأ مرة في كتاب ، الممارسة تختلف تماما مع المعشوقة ، تخرج من كلمة ممارسة " الجنس " الى ممارسة " الحب " ، هكذا ملئ يومه بالافكار و السلاسل التي لاتنتهي ، القلق و الخوف و التربص بالوقت أغرقن الشقة طوال طوافه المستمر حول نفسه ، فكر ببيع كتب الشعراء الذين لا يحبهم ، كان يسند سريره بديوان بوكوفسكي ، لكنه خاف أن تاتي مريم بعد خروجه ، نظر الى القصة التي بدء بكتابتها ، نفس الموضوع الذي يتكرر في كتاباته لكن بشخصيات وحوادث مختلفة ، موضوعه الاهم " الضياع " ، دائما ماردد ان الذي يربطني باصدقاءي هو الضياع ، بل توسع بفكرته الى أن العالم جميعه يرتبط مع بعضه بقرابة سامية ، خصلة مشتركة ؛ الضياع ، هكذا حقن الكلمة دائما بكل مايحيطه ، غادر فكرة الناس الى فكرة ضياع الاشياء ، و فكر لأيام كيف له ان يصف بقصة ضياع أجهزة الراديو القديمة ؟ كيف يمكنه أن يعبر عن بحة الصوت التي غلفها التراب والنسيان ؟ بات أرقا من أن الاصوات قد تكون تنتظر آذاننا و تندبها و تعاتبها عتاب الاحبة ! كان كمال مشهوراً باسم التائه المجنون ، قال لهم مرة انه احب اليه من استلام جائزة نوبل ، الجميع يأخذ الكتب من كمال ، حتى صاحب المكتبة يشتري منه أحياناً ، شقته بحيرة كتب و اوراق متناثرة يحرص أن يلملم بعثرته آخر النهار كل يوم كي لا تضيع له مخطوطاته كما اختفت له مجموعة قصصية من قبل بسبب تيار الهواء العالي و الشباك الذي ينساه دائما فاتحا ذراعيه للشمس ، اشترى بعد ايام من الحادثة بطاطس مسلوقة كانت ملفوفة بورقة من قصصة ، اسمها اللا إتجاه ! . هرع كمال اتجاه البعثرة لتصفية الدوامة الغريبة ، لكنه لهث طويلاً دون جدوى ، مهما فعل تبقى عفونة ما تستبيح ارجاء الشقة ، كان في طفولته يسمع بان العفاريت و الجن تسكنها ، مرت الدقائق كقطارات تحفر صدره بالقلق و الانتظار ، الصمت و الجوع لم يبقيا له الا ملجئ الكتابة ، إنكب بكل ذهنه نحو تسويد الصفحات ، لكنه هرب من نفسه بين حين و آخر ، بعد ساعة رن الهاتف مفززا سكون المكان النائم ، هلع كمال للاجابة ، أخبرته حبيبته بانها قادمه مع صديقها الفرنسي ، المترجم الذي لايحبه كمال لانه يحب مريم و يحاول التقرب منها ، لطالما كره كمال الاغنياء ولم يخجل ان يصرح بمشاعره ، ردد بكل فخر للجميع تاركاً ذهولهم خلف ظهره ( الكره حق مشروع ، وما هو الا احساس سيء الصيت عكس الحب الذي أخذ الاضواء منه ! ) ، ركض كمال داخل الشقة من المطبخ للغرفة و من الصالة الى غرفة النوم كالمجنون ، حائراً كيف يغطي شقوق الجدران من عيون ( البير ) ، تعثر بالصالة ، كاد رأسه ان يكون مفتوحاً كالنافذة ، قال ما فائدة كل هذه الكتب و الاوراق ؟ لترميم شقوق ذاتي ؟ لو كان ادخر مبالغ شرائهن لكانت الشقة الان تزهو بترميم لا يكون معه مدفوعاً من ايادي الحيرة ، اصابعها سكاكين طائشة تحفر قلبه الهش ، سقطت دموع كمال كطفل وحيد ، بلل يديه من دموعه و انتفض باكيا الى الاوراق ، رشق الاوراق على الجدران ، مبللا الاوراق بدموعه كي تلتصق على الجدار ! لكنه نسي ان الاوراق لا ترمم شقوق جدران شقته ، بقي كمال يبكي وحيداً منتظراً مصيره القادم مع أقدام البير المترف .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_