الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
شاي بالنعناع : قراءة في فناجين القاص وليد بن احمد
جميل فتحي الهمامي
2017 / 8 / 17الادب والفن
يقول الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو : إنّ القلب نفسه يخفق في كلّ الصدور الانسانية. إنّ الصورة النمطية التي وضع فيها جمهور القصّة القصيرة القاص فيها ، هي صورة مجحفة في حقّ الاثنين معا ، أعني القاص و الجمهور ذلك أنّ المادّة السردية ليست هي نفسها في يد القاص و لا هي ذاتها في عين القارئ. ولم تظهر القصة القصيرة جدا في عالمنا العربي إلا في العقود المتأخرة من القرن الماضي بالشام والعراق لتنتقل عبر ربوع العالم العربي لتزدهر في المغرب مع مجموعة من القصاصين المتميزين، ونذكر منهم على سبيل المثال: الكاتب المغربي المبدع مصطفى لغتيري في مجموعته القصصية القصيرة جدا" تسونامي" التي صدرت عن منشورات أجراس بالدار البيضاء و في تونس سعى القاص المتميّز " وليد بن احمد " ابن جوهرة الساحل إلى خلق عالم سرديّ جديد داخل مجموعته القصصية " شاي بالنعناع" و التي صدرت عن دار " مومنت " للنشر في بريطانيا ، و هي عبارة عن مائة قصّة قصيرة جدّا ( شورت ستوري).
و في معرض حديثنا عن هذا الشاي و ما تخبّئه لنا فناجينه عند شربنا ايّاها ، نستشفّ من العنوان عتبة النصّ على نحو ما وصفه رولان بارط ، أنّ وليد يتّجه نحو الواقعية الاجتماعية أو السوسيو-سردي من خلال اعتماده لأشهر مشروب شعبي في تونس منذ مئات السنين ألا وهو الشاي بالنعناع. و كأنّ بالقاصّ يلمّح لنا منذ البداية أنّ أقاصيصه ستكون موجّهة لجميع فئات الشعب و أنّ مواضيعها تشغل أيضا جميع فئاته ، بل إنّها منتشرة انتشار الشاي في الشوارع و الأزقّة و الحقول ...
فوليد يعلم جيّدا و يظهر لنا من خلال قاعدة البيانات السردية داخل القصّة أنّه على علم بأنّ القصة القصيرة جدا من أهم الأجناس الأدبية الحديثة التي ارتبطت بالتحولات المعاصرة للإنسان في القرن العشرين، هذا القرن الذي بدأ يعرف حياة متقدمة سريعة بفضل التطور التقني والعلمي والصناعي والرقمي؛ مما جعل الإنسان يعيش في دوامة من الاضطرابات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومن جراء ذلك ،هاجر الإنسان حياة الفطرة والبساطة ، وابتعد عن نقاء البادية والطبيعة لينتقل إلى فضاءات المدينة التي ألغت التأمل والبطء في التفاعل مع الأشياء ليجد الإنسان نفسه في دوامة من التغيرات التي تستوجب السرعة في التكيف والتأقلم مع مستجدات العالم الموضوعي. وقد أثر هذا الجانب سلبا على المستويات الحياتية والثقافية والتعليمية، فتخلى الإنسان عن قراءة النصوص المسترسلة والروايات الطويلة، وعوضها بالنصوص الأدبية القصيرة وقراءة عناوين مقالات الصحف والأعمدة المثبتة على صفحات الجرائد والمجلات مع ملء الكلمات المتقاطعة وتأمل الصور الفاتنة المثيرة واللوحات الأيقونية البارزة، والمؤشرات الإشهارية الجذابة ... و لهذا حاول وليد بن احمد في مقاربته السردية هذه أن يخلق لهذه الأسباب والدواعي فناجين الشاي التي جاءت على شكل مائة فنجان سردي تشربه و انت تتأمّل ما فيه من ميكانزمات اجتماعية تتحدّث عن الراهن في شيء من البارادوكسيا الساخرة ، و كلّ هذه التحوّلات الانثروبولوجية التي فتحت الباب على مصراعيه أمام القصة القصيرة جدا لتستجيب لهذه التحولات المعاصرة السريعة،و وقد تفرعت كما هو معلوم عن مجموعة من الأجناس الأدبية المجاورة كالقصة القصيرة والأقصوصة والرواية بل لا افشي سرّا حين نتحدّث عن خطابات أخرى كالحديث والخاطرة والمثل والنكتة والنادرة واللغز... كما ارتبط هذا الفن المستحدث على مستوى التلاقح المرجعي والثقافي بالقصة القصيرة جدا Microrrelatos التي ظهرت بأمريكا اللاتينية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
على الرغم من صغر حجم القصص التي كتبها وليد بن احمد في مجموعته" شاي بالنعناع "، فإنها تطرح أسئلة كبيرة، وتعج بالقضايا الذهنية العويصة ، والإشكاليات الإنسانية الميتافيزيقية ذات الطرح الأنطولوجي والمعرفي والقيمي ... من خلال معرض حديثه عن المرأة و الموت و الولادة و جلّ القضايا التي شكّلت التمفصل الوجودي للذات الانسانية. كما يلعب القاص دور الفيلسوف في فضحه وحشية الإنسان وقسوته في عالمنا الجنوني القائم على الغرابة واللامعقول، والقيم الزائفة، والانتصارات الموهومة، والبطولات الدونكيشوتية الحالمة، واغتصاب الطفولة وسرقة أحلام الصغار ... وتجسد قصص وليد بن احمد اضمحلال الإنسان واقعيا وأخلاقيا ووجوديا، ذلك الذي يعاني من الوحدة الفظيعة والعزلة القاتلة ، والاستغلال البشع ، والمكر الداهم ، والفشل الإبداعي والانهيار الداخلي ...
وعليه، فقد أصبح الإنسان في زمن اللاعقلانية والفوضى والسرعة الجنونية يتعرض للتعليب الرقمي ، والتشيىء المستلب، والتهجين المدجن ، تفتك به أمراض العصر وتنخره الأوبئة الفتاكة وخاصة القيمية والطبيعية منها كالاستنساخ والعري الإباحي. كما عبر الكاتب عن الجدب الثقافي والبشري . و قد ترتب عن هذه الوضعية البشرية المزرية أن قرر الإنسان الهروب من عالم الامتساخ والانبطاح حيال عالم الروح والقيم والتنسك الجواني ...
فمن يدقّق النظر من خلال الترميز داخل هذه المجموعة و ما سعى اليه وليد في اعتماد المذهب السردي البانوبتيكي أنّه يعرّي القيم السلبية والظواهر المشينة التي تحط بالكائن البشري في هذا العالم المتردي المنحط الذي يحتاج إلى تطهيره بالقيم الأصيلة ونقاء الضمير وصفاء الروح. لذا، أصبح الإنسان في هذا الكون الشاسع الموبوء ذئبا لأخيه الإنسان على حد تعبير الفيلسوف الإنجليزي هوبز، فانتشرت الفلسفة الميكيافيلية التي تقول جهارا بأن الغايات تبرر الوسيلة، وذاعت الفلسفة البراجماتية ولغة المصالح والمنافع بالمفهوم البذيء للمنفعة والتعامل البشري. وبالتالي، يرثي وليد بن أحمد الكائن الإنساني، وينعى الروح البشرية، ويكتب مرثية انهيار الإنسانية بسقوطها في أوحال الامتساخ والحيوانية والتشييء المادي والخضوع لعالم الرقميات والاستلاب الإنتاجي على حساب القيم والروحانيات والذاتية الجوانية. كما يدين القاص عالمنا المأساوي الفاجر الذي قتلت فيه الطفولة العذبة ، والسعادة الروحية. وينتقد كذلك العالم الرأسمالي المعولم أو العالم" المغولم " المتوحش الذي تحول فيه الإنسان إلى شبح مخيف وكائن مرعب مرهب، العالم الذي امتسخ فيه اللعب الصبياني ، وشذ فيه التزاوج البشري، واحتقر فيه الآخر المماثل، وانهار فيه الحب العائلي، وتشوه فيه الجمال فعوض في الآن نفسه بقبح الأفعال ومكر التاريخ وسوء الأخلاق.
ختاما ، يمكننا الجزم بأنّ مجموعة " شاي بالنعناع " لوليد بن احمد قد تمثلت جل مقومات القصة القصيرة جدا تحبيكا وحجما، كما استجمعت كل مكونات الفعل السردي وخصائص التشويق والإدهاش الفني والجمالي . ومن هنا، تحمل هذه الكبسولات القصصية كما اسميتها منذ الوهلة الاولى لانهائي هذه المجموعة ، تحمل في طياتها رؤية ذهنية فلسفية إنسانية ذات طرح وجودي تراجيدي عبر طرح أسئلة إشكالية كبيرة على الرغم من الحجم القصير والنفس الجملي البسيط.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس