الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ارصدة الحزن عند فقراء العراق

عمر الداوودي

2017 / 8 / 18
الادب والفن


الأسطه (ابو نورية) كان بناءا بغداديا اصيلا ,,اتذكر اننا عملنا معه في اعمال البناء لبعض الوقت ,,كان عصبي المزاج ,, يجهد كثيرا ويصرخ كثيرا على العمال كي يسرعوا في اتمام العمل ومع ذلك كان يغادر قبل الثالثة عصراً ,, ولكن غناءه المستمر اثناء العمل كانت العلامة الفارقة الاولى تليها عادته في التدخين
بإستمرار إلا اننا كنا نفضل العمل معه لإسباب منها غناءه المستمر ونكاته وتعليقاته الغر يبة التي كانت تضحك الحجر ولإنه كان يلقي الكثير منها ولإننا كنا قد اعتدنا صوته الغنائي لهذا قرر صديقي ان يسجل صوته في احد الأيام شريطة ان يكون العمل تبييض الغرف الداخلية إذ انه وفي هذه الحالة سيكون التسجيل اوضح صوتاً .
اتذكر انه في ظهيرة احد ايام الشتاء البغدادي القارص بداية التسعينات ,, احضر لنا صاحب المبنى الذي كنا نعمل فيه الطعام ,طعام الغذاء ,,كان عبارة عن (فلافل) وخبز اسمر كوجه الليل , وحيث ان جميع عماله ومنهم أنا كنا من طلاب الجامعات وحيث ان الأسطه كان يأكل وهو واقف ويمضغ بسرعة لهذا قال له صديقي الذي كان يدرس آداب اللغة الانكليزية :
- اسطه ,لا تأكل هكذا ,,تعلم ,ان تتمتع بالطعام ,,
فصاح عليه (ابو نوريه) قائلاً :
- دگوم گوم ، هي فلافل , قابل اغنيلها !! ,,
كان انسانا طيباً ,,لكنه يتفادى الصمت ,, اتذكر انه قال مرة ( نفس الذي يضحككم الآن ستبكون عليه لاحقا) !! وبينما كنا نضحك نحن كان هو يرمقنا بإستغراب .
في فجر يوم شتائي آخر انتظرنا ابو نوريه كثيرا فلم يحضر ولم يك من عاداته التأخر فجرا ,,غادرنا المكان وفي الغد انتظرناه وايضا لم يحضر ,, وفي الثالثة ايضا لم يحضر ,, خلناه قد هرب واستولى على اجورنا لقاء العمل معه ,,
بعد الظهيرة قررت ان ازوره ,,كان بيته في (كسرة وعطش) وبالكاد عثرت على بيته الصغير جدا ,, فوقفت امام باب قديم صغير ورحت اطرقه لمرات وانا اسمع صوتا ينبعث من الداخل ,,فلما اكثرت من الطرق والإنتظار هممت بالمغادرة ولكن وقبيل ذلك انفتح الباب ببطء فشاهدت عجوزا في السبعينات من العمر كانت في وضع القرفصاء ويبدو انها كانت قد زحفت على قدميها كي تأتي لفتح الباب !! ,,
وبعد ترحيبها بي قالت بأنها قد تعرضت الى جلطة منذ سنوات وانها غير قادرة على المشي فلما سألتها عن ابي نورية امتلأت عيناها بالدمع وتحشرج صوتها وتبحح وقالت في خفوت :
- اوف ,, مات ,, قبل ثلاث ايام ,,
فتفاجئت فلما طلبت مني الدخول لمنزلها دخلت كي اقدم لها العزاء فتحركت هي زاحفة عبر الرواق الضيق ومشيت وراءها ,, كان بيتهم عبارة عن غرفة صغيرة جدا لكن مشهد الفتاة الجالسة في ركن الغرفة المظلمة تلك شد انتباهي وسردت عليَّ العجوز حكايتهم ...
كما ترى ,, انا زوجته وهذه نورية ,,عمرها اربعين سنة وهي لا تبصر ,,فقدت بصرها في سن الخامسة ,,تدري قبل ,, ماكو علاج للجدري ,, هو كان ابو غيره ,, كل يوم يرجع من وكت وكان ياخذها للتنزه ويشتريلها هدايا ,, ابو غيره ,, كنت اتوقعه يموت اب اي لحظة ,, لأن الطبيب قبل خمس اسنين كَله رح تموت وره شهر شهرين !! ,بس ظل قوي ومادار بال ابد ,, خو متطلبونه فلوس ؟,,
- لا ,, يمه ,,لا !!,,هو كان يطلبنه وبكره رح انردلكم الدين ,,
في الغد ,, حضرنا اربعتنا ,, اشترينا لهم بعض الإحتياجات البسيطة ,, مع مسجل كاسيت مع شريطين مسجلين لصوت الأسطه اثناء العمل ,,
في ذلك اليوم عرفنا سبب صراخه المستمر اثناء العمل وسبب نكاته وسبب غناءه المستمر مثلما عرفنا بإن صراخه لم يكن علينا بل على ماكان يلاقيه من صعوبة في حياته .
لا ادري ,,أحسناً فعلنا أم لم يكن ذلك أمرا جيدا ؟ ,,لكن نورية ,كادت ان تطير من الفرح ,,حين سمعت صوته مجددا !! ,,كانت تقبل المسجل وتضمه الى صدرها وهي تبكي تارة وتضحك اخرى .
انظر ,,منذ ذلك اليوم عرفت حقيقة وهي ان داخل البيوت العراقية رصيد هائل من الحزن قد يغرق المحيطات بدموعه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل


.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ




.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع