الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن عملي كتايبيست حقير.. عالم بلا حبر أو دم

نائل الطوخي

2006 / 2 / 11
الادب والفن


في اليوم الأول لتسلمي مهنتي كتايبيست في مكتب القاهرة بجريدة عربية ذهبت مترددا. جلست على لوحة المفاتيح. بدأت أنقر الكلمات المكتوبة أمام بخط اليد, بدقة متناهية, حرصا على إثبات الكفاءة. حاولت مراقبة شاشة الكمبيوتر و انا أكتب, ولما لم يفلح هذا, إذ كنت مبتدئا في مهنة التايبينج حولت نظري إلى لوحة المفاتيح. حاولت مراقبة أصابعي حتى لا تخطأ طريقها إلى الحرف المنشود. لم يمكنني في البداية رؤية الكلمات تتراقص أمامي على الشاشة, استعضت عنها برؤية أصابعي تنقر فوق اللوحة, و من ثم, ولعت بهذه الحركة, فكرت فيها كأنما أصابعي تتبختر فوق مفاتيح بيانو أسود أنيق.
(أفكر كذلك في كاظم الساهر وهو ينقر فوق أصابع حبيبته في كليب "حافية القدمين", هو ينقر فوقها بينما يتخيلها بيانو بالتأكيد, ليس هناك أي شيء يدل على غير ذلك, غير أنني أضيف أنه ليس ثمة ما يمنع كذلك من تخيله ينقر فوقها كما أنقر أنا فوق لوحة المفاتيح, ليس هذا فقط, فقرب نهاية الكليب, يصرخ الساهر "قاتلتي ترقص حافية القدمين في مدخل شرياني", هذا بينما نرى يدا تخط هذه الجملة فوق ورقة, و نرى الكاميرا تتقدم داخل الكتابة, في عمق النقطة فوق نون القدمين, لتظهر من داخلها حلبة رقص و راقصتان ترقصان, إحداهما حبيبة الساهر في الكليب, و التي هي قاتلته. هكذا يكشف الكليب عن معادلته من وجهة نظر تأويلي المفرط بالتأكيد: قاتلتي ترقص في مدخل شرياني, أي في داخل دمي, تساوي: قاتلتي ترقص داخل ما أكتبه, داخل حبري. الحبر هو الدم, و لا يتم التعبير عن هذا فقط في داخل مجاز قديم و ساذج من نوعية: أنا أكتب بدمي)
وصلني إيميل ذات مرة طولبت فيه بالمشاركة في عدد خاص لصحيفة إلكترونية عن المهن العربية. تم التأكيد في الإيميل على أن المهنة التي يمكن ان أكتب عنها هنا لابد أن تكون من لحم و دم و حبر. فكرت قليلا: ليس للحبر دخل في الموضوع إلا بوصفه مجازا للكتابة. هذا هو الرائع. سأكتب على الكمبيوتر ما أكتبه و أرسله إلى الصحيفة عبر البريد الإلكتروني و سينشر هو على الموقع. أين الحبر إذن؟ ليس هناك حبر, لا في فعل كتابتي الشهادة و لا في موضوعها, فالتايبست, (أتحدث هنا عن تايبيست الكمبيوتر لا الآلة الكاتبة) أتى لكي يحرم الحبر من بهائه, من مركزيته المتدفقة, من المجاز الذي يراه دوما صنوا للدم. عندما يكون النشر في جريدة ورقية يتم الاحتفاظ للحبر بدور الدمغ الحاسم على عملية إلكترونية من أولها لآخرها, هو الخطوة النهائية التي تحرم العملية من افتراضيتها المطلقة, أما في حالة النشر في موقع إلكتروني, فلا يتم الوصول أبدا لمرحلة الحبر , يظل الموضوع محروما من وسمه بالواقعية. ثم مركزية رهيبة للحبر. مركزية الواقع. الحبر هو شريان الحياة.
في عملي الآخر, حيث أقدم مواضيعي الصحفية إلى نفس الجريدة التي أعمل بها تايبيست, أكتب ما أكتبه على جهاز الكمبيوتر في بيتي, أحفظه على ديسك, و أذهب به إلى أي مكتب كمبيوتر. هنالك أطبع الموضوع الذي أبغي طبعه و أسير به إلى مكتب الجريدة, حيث يقرأه مدير المكتب و يوافق عليه فأحمله من الديسك مباشرة إلى إيميلي لكي أرسله إلى الجريدة حيث يتم طبعه. هكذا يتدخل الحبر بتصديقه النهائي مرتين, مرة بعد استيفاء الموضوع شروط الاكتمال من وجهة نظري, بعد مراجعته بدقة تامة على كمبيوتري الشخصي, أطبعه عند مكتب الكمبيوتر, و مرة بعد استيفائه شروط الموضوع الناجح من وجهة نظر الجريدة, يتم طبعه على صفحات الجريدة. هذا لم يحدث في هذا المقال, لمقال كهذا رائحة الشيء الذي حدث و لم يحدث, رائحة الحلم.
مع عملي كتايبيست, بدأ خطي (المكتوب بالحبر طبعا) يفقد رونقه, و بدأت عيناي تعتادان على الخط المتراقص على الشاشة, لا الحبر المنسال على الورقة, و شيئا فشيئا تدربت على النقر فوق لوحة المفاتيح و عيناي مثبتتان على الشاشة. أحب صوت النقر فوق لوحة المفاتيح, غير أن ثمة شيئا ما آخر هنا: الأغاني التي أشغلها على جهاز الكمبيوتر, و التي في الغالب تكون دبكات لفيروز و الرحابنة. هنا بالتحديد تندفع أصابعي لترقص فوق لوحة المفاتيح و بشكل ما تتحول أي كلمة غير ذات إيقاع إلى كلمة ذات إيقاع خاص, آت من مكان آخر, من سماعات الكمبيوتر, و ليس من ترتيب حروفها الداخلية. مرهق جدا للتايبيست أن يكون صاحب مزاج. و بشكل عام, فلو أخطأ و ركز في كلمات ما يسمعه سيكون ذلك بداية سلسلة لا تنتهي من الأخطاء الكتابية. بالكاد يمكن للتايبيست أن يسمع الموسيقى و يستعيض عن النقر بأصابعه على ركبته على إيقاعها بالنقر على لوحة المفاتيح. ربما لهذا تكثر الأخطاء في عملي. الأخطاء التي هي ابنة المتعة.
عندما أذهب لطباعة شيء من مقالاتي في أي مكتب كومبيوتر أنظر بحسد إلى تايبيست الآلة الكاتبة, ذلك غير المسموح له بالخطأ مطلقا, و أتسائل: ألا يخطأ حقا؟ أم أنه يستغل زبائنه من غير محترفي القراءة و يقدم لهم عملا مفخخاً بالأخطاء باعتبار أنه هو ما يريدون و أكثر. الاحتمال الثاني مريح لأعصابي جدا, لكنني تعلمت كذلك التغلب على الإزعاج الكامن في الاحتمال الأول: هؤلاء تايبستون لا يمارسون غير التايبينج, لا يسمعون فيروز و لا يفكرون فيما يكتبونه, وشيء آخر, فليس لعملهم مصير إلا الطباعة. في الآلة الكاتبة تنطبع الكلمة فور كتابتها. ليس فيها تدلل كلمات الكمبيوتر و كسلها. هكذا لا تكون الكتابة إلا انتظارا لتصديق حبري عليها, تصديق يأتي متزامنا مع الكتابة, و ليس لدى اطلاع هيئة تحرير جريدة أيا كانت على الموضوع. هذا ما يفعله الحبر: الحسم. انتفاء الأخطاء. هزة رأس قاطعة من إله صارم كأنما في روايات نجيب محفوظ, هو حسم الدم الذي هو الحياة أو الموت. و لذا كذلك ينتفي أي معنى للرقص بالأصابع فوق مفاتيح الكتابة. فالرقص, الذي يتطلب إيقاعا في البداية, يتطلب تأخيرا و تقديما و تسريعا للدق على الحروف, و أحيانا ما يتطلب الدق على حرف خاطئ بدلا من الحرف الأصلي, مهلك بالنسبة لصفحة الآلة الكاتبة. الرقص هو عدو الحبر الأول, بصفة الحبر التحديد القاطع لما حدث, و بصفته الوجه البليد و الصارم لإلكترونات تتراقص على شاشة الكمبيوتر لا يمكن الإمساك بها أو تحسسها مثلما لا يمكن تحسس إيقاعات دبكات الرحابنة التي تُرَقّص أصابعَنا طول الوقت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز