الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المزامير قصة قصيرة

محمود يعقوب

2017 / 8 / 26
الادب والفن


المزامير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



خُيّل لي أنّـه حفر قبره بمبضعه وأراح نفسه فيه بفخر وجلال .
في هذا القبر ستنمو عظامه الناعمة بلا شك ، ثمة روح عظيمة كامنة فيها ستدفعها لترّتقي صاعدةً إلى السماء أشجاراً جميلةً وخفّاقة كالرايات .
حين جنّ الليل ، تسلّـلت إلى المقبرة ثانيةً ، وكنت مدجّـجاً بالسحر ؛ يهمي الشر من بين رموشي مثل وحش جريح ، أشقّ طريقي غير هيّـاب ، ويحدو بي هوى الانتقام .
نارٌ وتراب ..
نارٌ وتراب ..
نارٌ وتراب ..
نبشت القبر الذي لم تزل رماله نديّـة ، خضراء بعد ، ودسسّت تحت جثمان الطبيب القتيل ، حزمةً من القصب الفارسي الصلد ، ذي العقد الناتئة ، القاسية ؛ الذي انتقيته لهذا الغرض أفضل الانتقاء . ثم أعدت ردم القبر وساويت ترابه سريعاً .
احتضنت القبر وجلست لصقه متأوهاً . ما لبثت أن أخرجت عدّتي الشعواء ، ورحت أشتغل في حلكة الظلام الدامس ، الذي كانت تحوم في فضائه أرواح الموتى المُحلّـقة ، وهي تغمغم بكلمات مبهمة لا تشبه إلّا حفيف الرياح .
كنت وحيداً في المقبرة ، ولم تكن تلك الوحدة ترهبني . كنت ليلاً مدلهمّاً ، وشبحاً غير هيّاب ، اقتحمت عالم الموتى كالعاصفة الهوجاء ؛ ولذلك حدّجتني عيونهم الباردة ، وأحاطت بي الحدقات الحزينة مثل سور من الأصداف المُوحلة .
حتى الموتى متطفلون وفضولهم بلا حدود ، أرادوا معرفة ما كنت أخبئه ، وما كنت أفعله في هذا الليل . ولكنّ نظراتهم التي تثير الجنون ، جعلتني أكثر تجلّـداً وإقداماً على لعب دور المنقذ الذي يشك في حزامه سلسلة مفاتيح الخلاص .
نارٌ وتراب ..
نارٌ وتراب ..
نثرت بين يديّ ما كنت أحمله في مخلاتي ، والتقطّت من بينها قطعةً من الرق وأقلام السحر ومحابره العجيبة ، وشرعت أكتب طلسم ( عصا موسى ) المانع ، القاهر ، برويّـة وإتقان . حالما انتهيت دوّنت في أسفله أسماء أعدائي ، وكل من جئت أنتقم منهم . وبصوت راح يضرم الليل بنيرانه الحارقة ، أخذت أقرأ تعويذاتي وعزائمي السحرية الرهيبة حتى وهنت قواي ، وهدّني الحزن .
كانت الأرواح قد استكانت جميعها من حولي ، وبان عليها الوجوم ، وهي تشعر برهبة طقوسي السحرية ورعب هذيان عزائمي .
حالما فرغت ، عدت أدراجي قبيل انبلاج الصبح وإطلالة تباشيره الأولى .. عدت ولمّـا ينطفئ وجاق قلبي بعد .
نارٌ وتراب ..

♦♦♦♦


منذ أيام طفولتي وحتى اليوم ، لا أكاد أنسى ( عباس السمّـاك ) . أنسى الدنيا برمتها ولا أنسى مزنة الصيف تلك ، التي تمطر نبيذاً معتّقاً بالمحبة والمودّة .. المزنة التي أنعشتنا بنداها ، وخيّـمت فوق الطرقات بظلالها الوارفة الحنون .
كان ( عباس السمّـاك ) أروع عازف مزمار سمعت أذناي أنغامه ، من بين جميع من كانوا ينفخون في آلاتهم الموسيقية في المناسبات الشعبية السعيدة . كان أغربهم جميعاً ، وطالما كان يبهرني ، هل أقول إن شيئاً من السحر العجيب فيه ؟ ..

في تلك الأيام الغابرة اعتاد الناس على ختان أولادهم الصغار في أوجّ شهور الصيف ضراوةً .. شهر تموز المستعر ، وعند ساعات الهجير ؛ حيث رياح السموم التي تلفح الأجساد بسياط نيرانها المتوهجة ، كانت كفيلة بالتئام جراحات المختونين سريعاً .
عند الظهيرة كان الأطفال يتقاطرون جميعاً ، من كل مكان ، إلى الحمّام الرجالي العام ، في وسط المدينة ، حيث ينطلق من هذا الحمّـام موكب المختون .. الموكب الذي تزينه السلال المبرقعة بألوان من أقمشة الحرير الزاهية . من بين جميع الحضور يبرز ( عباس السمّـاك ) بجسده القصير ، النحيل ، وفي الحال يستلّ من طيّات ثيابه مزماراً قصبياً يلمع كالذهب الصافي ويبدأ بتجريبه قبل أن يباشر بالعزف . وفي تلك الأثناء نتسابق في مشاكسته بكل ما نمتلكه من تهوّر وطيش ، آملين إثارته ونفخ جذوة غضبه . كنا جميعاً نعرف حق المعرفة كيف يمكن أن يردّ على مشاكستنا بأروع الألحان وأكثرها حماسةً .
كان الرجل يهيج في الحال ، فتملأ صفحة وجهه الأسمر الأخاديد القاتمة ، التي تأخذ حبّات العرق تتلألأ في طيّاتها تحدّياً . كانت حبّـات العرق تمنح تقاطيعه صلابةً ، وتبدو كأنها كرات من الفولاذ الصلب .
يأخذ الموكب مسيرته إلى بيت الطفل المختون ، ويبدأ ( السمّـاك ) عزفه . في الحال تدور بنا دوّامة الرقص ، وسرعان ما تحتدم ، ونروح صغاراً وكبارا نقرع الأرض بأقدامنا العارية .. نقرعها حد الجنون .
مثل مزنة ، تنزل قطرها أولاً ، فتشيع الفرحة بيننا ؛ ثم تنبثق الزغاريد من أعشاشها تصفق بأجنحتها تصفيقاً مترنماً . وفي حُميّا غنائنا ورقصنا ، تطير فوق رؤوسنا الحلوى من كل صوب ، مثل فراشات قزحية الألوان .
إن ما عنيت بقولي عن ( عباس السمّـاك ) أن فيه شيء من السحر العجيب ، هو هذا الخرس المطبق على شفتيه ، وكيف يتفجّر ألحاناً رائقة ، تأخذ بألبابنا وترقصنا . كان يغمر الطرقات بلغة صادحة ، تجعل كل واحد منّـا منتشياً وراقصاً .
لم يكن يفرش حصى صمته فوق الدروب كما يفعل الصم والبكم من أمثاله .
بين يديه تنطلق أغنياتنا الموقّـّعة إيقاعاً راقصاً ، وكنت أندهش كيف يتسنّى له أن يرسل ألحانه مدوزنةً مع أغانينا وحركاتنا .
حين يمضي موكبنا قُدماً من مكان إلى آخر ، كان المزيد من الأطفال يلتحقون بنا ؛ كانوا ينبعون من كل زاوية ومكان ، كما لو كانوا فئراناً فزعت متدفقة من جحورها ومخابئها السريّة ، حتى يلوح مزمار ( السمّـاك ) في نهاية المطاف أشبه بذلك المزمار السحري ، الذي ذكرته الحكايات القديمة ، والذي قاد الفئران بعيداً عن المدينة .
كان يمضي متقدّماً موكبنا بعض الشيء ، وعيناه تقدحان بالنور ، بينما ألحانه تسيل .. تسيل في الشوارع .. تسيل في الأزقّـة . وكنّـا نغرق فيها هياماً . أسرتنا تلك الأيام بفتنتها ، وأخبلنا مزمار ( السمّـاك ) !.



♦♦♦♦


نبضت ذكريات ( عباس السمّـاك ) في مخيلتي في الوقت الذي كنت فيه أزور عيادة الطبيب الجرّاح ( سعد الواسطي ) ، المعروف بخبرته ، والذي طارت شهرته في كل الأرجاء . كنت في عيادة الطبيب في وقت ما قبل الغروب ، وكانت عيادته مكتظّـة كالعادة بعشرات المرضى .. مرضى جاؤوا من كل ناحية ومكان من أرض الوطن ناشدين هذا الجرّاح النطاسي اللبيب ..
جلست طويلاً حتى خيّم الظلام ، ولم يحن دوري بعد . وإذ مرّ الوقت بخطاه المتثاقلة ، التي ترهق الحواس ، أحسست معه بضيق غامض ، وقلق مبهم ، ينفد إلى صدري ، لا أكاد أعرف سرّه .
كنت مستغرقاً في أخيلتي وأوهامي ، في الوقت نفسه الذي كنت أطلّ فيه بوجهي على الشارع ، من خلل نافذة ضيقة في صالة الانتظار ، في الطابق الثاني لبناية قديمة . وفي غفلة استغراقي هذا دوّت أصوات توقّف فجائي لعدد من المركبات التي أتت مسرعة ، لفتت انتباهي وانتباه كثير من الحضور . أطاح صوت توقّـفها العنيف بضجيج المكان ، وأخرسه في الحال . رميت برأسي صوبها لأرى مجموعة رجال يتقافزون منها بمرونة وعجلة ، ولاحوا لي كالفئران التي تثب في غاية الخفة . وأعقب ذلك تصاعد وقع أقدامهم المسرعة في وتيرة واحدة ، متجهاً إلى الدور الثاني من المبنى . وما لبثوا أن تزاحموا عند باب العيادة بأسلحتهم المخيفة ، ووجوههم المدخّنة ، ونظراتهم الشوساء . لم تكن سحناتهم متشابهة ، ولكنها جميعاً اكفهرّت وحالت بلون الضباب القاتم .
انطلقوا بجسارة ، عبر صفيّ الكراسي التي رُصِفَـت على امتداد صالة الانتظار ، مخلّـفين فينا الرعدة والذهول .
بلا تردّد اقتحموا غرفة الطبيب بجعجعتهم ، ثم ماتت كل الأصوات في إثرهم ، وحبست كل الأنفاس . وفي غضون دقائق معدودات أخذ اللغط يعلو وسط ضجيج سحب الأثاث وجرّها جانباً . ثم شقّت تلك الأصوات سيول الشتائم واللعنات . لم يدم ذلك سوى برهة ليخرج أحدهم وهو يمسك بالطبيب من ياقة قميصه ، يدفع به خارجاً ، ويتبعه الآخرون .
في وسط الصالة ، وأمام أعيننا المرعوبة ، ركله من كان يمسك به ، وكاد يسقطه أرضاً .
هبطوا في سرعة خاطفة ، وقبل أن نصحو من ذهولنا كانت العربات قد أدارت محرّكاتها وانطلقت مولّـية كالسهام ، مزوبعة الغبار الذي غمرت سحبه الطريق .
انتزعوا الطبيب من بين مرضاه ورحلوا به ، مخلّـفين للتو أوار الرعب يلتهب عبر سحاب التراب ..
نارٌ وتراب ..
نارٌ وتراب ..
ما الذي يمكن أن يفعله رجلٌ وديع ، فاضل الخصال ، كبير السن مثله ؟ .
ساعتها تأكّـد لي أن سبب ذلك الضيق الغامض والقلق المبهم اللذين ما كانا يلمّـان بي إلّا لأن نجمة انطفأت .. نجمة هوت تاركة هالتها الحيرى تتخبّط في متاهة من العدم .
سرعان ما تناثر المرضى يميناً وشمالا ، واختفوا حاملين معهم أمراضهم ومرارة الخيبات .
وحالما تركت المكان برقت بين عيوني صورة ( عباس السمّاك ) .

في اليوم الثاني ، وفي اليوم الثالث ، سمعت بقية الحكاية .. سمعتها إلى حدّ الدفن وإهالة التراب على جسد الطبيب .
من أين أتت هذه الفئران ، وإلى أي جحور أوت ؟ .. ليس هنالك من يعلم بالضبط . كانت تبرز من الظلام ، وتختفي في تلافيفه سريعاً ، ولا تترك من ورائها أثراً غير الصرير .
هل تعقّـبهم أحد ، وهل شغل باله بأمرهم ؟.. كلا ، كانوا مطمئنين على مصيرهم ، طلقاء وبعيدين عن المطاردة ، ولهذا السبب تمادوا واستطالت أذرعهم .
وكان تشييع الطبيب ظريفاً حقّـاً ، جثمان ضئيل الحجم ، يمشي خلف نعشه رهط من الرجال المرضى ، وهم يئنون من فرط اعتلالهم .


♦♦♦♦



داومت ثلاث ليالٍ متوالية ، أجثو فيها عند القبر هامساً ، متضرّعاً ، ومردّداً أشد العزائم فتكاً وضراوة ، حارقاً بخوري ؛ ومرشرشاً حول القبر السوائل الممزوجة بكل ما يفقأ العيون ، ويثبط الهمم ، ويوهن القوى . حتى انتهيت من هذا الطقس السحري .
رجعت إلى المكان بعد مدّة من الوقت ، وفق ما اقتضته هذه الطقوس ، ورحت أنبش القبر مرّةً أخرى ، واستخرجت السحر الدفين من تحت جثّة الطبيب . وردمت القبر بسرعة ، وأنا أكرّر التماسي منه الصفح والغفران .
انتحيت جانباً بين القبور ، وأخرجت قصبةً من حزمة القصب الفارسي الذي كان مدفوناً في القبر ؛ وصرت أبريها ، وأشذّبها . ثم أخذت أثقبها ثقوباً من الأعلى والأسفل بدراية واحتراف ، لتمسي في النهاية ، بين يديّ مزماراً متقن الصنع .
طرحته أمامي على الأرض ، وباشرت أتلو عليه ما حفظت من التعويذات السحرية . وحين نصبته بين شفتي ، داسّاً فتحته قليلاً في فمي ، وشرعت أنفخ فيه بشيء من التجريب .
كاد يجن جنوني لهول السحر المنسكب من عمود الهواء الخارج منه .
لففته بقماشة بيضاء ، كما يلف الحرز المصون ، وعدت أدراجي إلى مدينتي . وها أنذا أحمل هذه اللفافة السحرية العظيمة التي هي كل عتادي ودوائي . أدور من شارع إلى شارع ، ومن زقاق إلى زقاق أبحث ، كالسائر في منامه ، عن شبح ( عباس السمّـاك ) .. أبحث عنه جزعاً ؛ ألقاه أو لا ألقاه ، سأظل أبحث عنه ، كي أمنحه المزمار السحري ليقود الفئران بعيداً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع