الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
إشكاليات العِرق والتمييز العنصري في الولايات المتحدة نحو فهم مادي وطبقي (الجزء الثالث)
مسعد عربيد
2017 / 8 / 28ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تكوين الذهنية العُنْصرية في أمريكا
البَشْرة البيضاء: البيولوجيا وخلق الوعي العُنصري
عندما حط الأوروبيون البيض رحالهم على الشواطئ الشرقية لأميركا الشمالية وأسموهها "العالم الجديد"، "اكتشفوا" أناساً مختلفين عنهم في ملامح الوجه والمظهر الخارجي وأطلقوا عليهم اسم الأصلانيين The Natives. وقد شكّل وجود هؤلاء الأصلانيين تحدياً كبيراً للمفاهيم التي كانت قائمة بين هؤلاء الأوروبيين البيض آنذاك، وأثار فيهم الكثير من التساؤلات كما أنه زعزع العديد من القيم التي حملوها معهم والتي ادّعوا أنَّها تنبثق من العقيدة المسيحية (بطبعتها الأوروبية الغربية).
إلاّ أنَّ التاريخ لم يمهلنا طويلاً حيث جاءت الإجابة على هذه التساؤلات واضحةً تجلت في تعامل الأوروبيين مع هؤلاء "الآخرين" المختلفين: فقد نهبوا أراضيهم وممتلكاتهم وتنكروا لحقوقهم الإنسانية والسياسية وأبادوا الملايين منهم. وكان الأمر في جوهره مشابهاً في تعامل الأوروبيين البيض مع الأفارقة. فبعد أنْ غزا الأوروبيون القارة الأفريقية قاموا باستحضار الأفارقة إلى أميركا الشمالية وأرسوا نظام تجارة الرق ولاحقاً العبودية ونظام العمل القائم على استعباد "العبيد" الأفارقة.
هكذا نشأت الأشكال الأولى من التمييز العُنصري بين الأوروبيين البيض ("أبناء الله وأحفاد العِرق الأبيض والكائنات البشرية المتفوقة") من جهة، والآخرين من الهنود الأصلانيين والسود الأفارقة وغير البيض من جهة أخرى.
مخاوف البيض
بعد وصولهم إلى أميركا الشمالية، تملك المستوطنين الإنكليز خوفٌ من انهيار "الحضارة" التي أحضروها معهم، وزاد من خشيتهم هذه بعدهم الجغرافي عن الوطن الأصلي، فأقاموا الحواجز لحماية أنفسهم وحرصوا على إغلاق "البوابة" التي تفصل الهنود الأصلانيين والسود عنهم. وفي سعيهم لخلق الذرائع لتبرير إبعاد العبيد وعزلهم والتمييز ضدهم، ألصق المستوطنون البيض بالعبيد الجوانب الغريزية والشريرة، ومن هنا ولدت فكرة الحواجز الداخلية" لضبط السود وإلاّ لواجه البيض "خطر الضياع". بالطبع، يمكن الافتراض ـ من أجل إزالة "الخطر" أو التحدي الذي يمثله هؤلاء السود ـ بأنه كان من الممكن الحد من تعداد السود وتحديد نسلهم، إلاّ أنَّ هذا الاحتمال لم يكن وارداً في حسبانهم لأن أصحاب المزارع والمصانع البيض كانوا آنذاك قد ابتعدوا عن استخدام العمال البيض وأصبحوا أكثر اعتماداً على عمالة السود الأفارقة (الشغل مقابل أجور بخيسة أو عمالة استعبادية بدون أجر) التي وفرت لهم أرباحاً ومنافع إضافية. فعلى سبيل المثال، أدرك أصحاب المصانع في ولاية فرجينا في منتصف القرن السابع عشر أنَّ العامل الأسود يقدم سنوات أطول من العمل مقارنة بالأبيض: فالأسود يعمل طيلة حياته بينما الأبيض يعمل لسنوات معينة فقط. هكذا ولهذه الأسباب تم سن القوانين التي تشرعن وتمأسس لعبودية السود الأفارقة إذ اتضح أنها، أي العبودية، مصدر العمالة الأقل كلفة والأطول عمراً حيث يقدم العامل الأسود سنوات أكثر من العمل وأنَّ تشغيله أكثر وفرة وقابلية للاستغلال كما أسلفنا في الفصل السابق.
تكوين "الوعي العِرقي" المبكر
يكتسب الأميركي خلال سنوات تنشئته وتربيته فهماً للعِرق وللآخر يقوم في الجوهر على الربط بين السمات الفيزيائية مثل المظهر الخارجي للإنسان ولون بَشرته وخصائصه البيولوجية البحتة من جهة، وموقعه الاجتماعي من جهة أخرى. ويتبلور هذا الفهم في "وعي عِرقي" ليصبح عاملاً مركزياً في تكوين معرفة جمعية سائدة لا يستطيع الفرد الإفلات منها ولا يعود بدونها قادراً على فهم أو تفسير ظواهر المجتمع والحياة والعالم من حوله.
هكذا إذن يقوم الترابط في المجتمع الأميركي بين خصائص الفرد (سلوكه ومواقفه وأفكاره وقيمه أو مهاراته وكفاءاته ومستواه التعليمي..) من جهة، ومظهره الخارجي ولون بَشْرته ومعالم وجهه أو حتى مجرد انتمائه إلى فئة اجتماعية أو إثنية معينة، من جهة أخرى. وهكذا تعيش أغلبية البيض الأميركيين في ضباب كثيف من الجهل وقصور الفهم لطبيعة وبنية العُنْصرية البيضاء كنظام اجتماعي يعيد إنتاج هذه العُنْصرية بأشكالها ومضامينها ومستوياتها المتعددة. وقد أصبحت العُنْصرية وتجلياتها اليومية من منظور الكثيرين منهم جزءاً طبيعياً من عاديات الحياة في أميركا، كما أصبح التسلسل العِرقي الذي يتغلغل مناحي الحياة شأنا "حياديا" يمر دون تساؤل أو مساءلة (نذكر منها مظاهر التمييز العُنْصري في التعليم والصحة وسوق العمل والبطالة والفقر).
في هذا كله، يبدو الأبيض، وكأنه "محايد" أو "صامت" أو أنه لا يأبه بما يدور من حوله. إلاّ أنَّ هذه اللامبالاة والحيادية المزعومة، وعلى الرغم من تعدد التفسيرات والمسميات، تعبر عن أكذوبة مفادها: أنّه ليس هناك في أميركا إجحاف أو تمييز بحق السود أو الملونين وأنهم يستحقون ما حلّ بهم، فالسجون لهم، والفقر مآلهم، والبطالة مصيرهم، وإذا أصابتهم الأمراض وتعذر العلاج فهذا جزاؤهم، لأنَّ كل هذه المصائب، من المنظور العُنصري الأبيض، هي نتاج الثقافة العاجزة والقاصرة، ثقافة الفقر التي هي ثقافة السود والملونين، ثقافة غير ـ الأبيض أو اللاأبيض. وعليه، فبَياض البَشرة، بدلالاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ليس في الحقيقة مجرداً ولا محايداً، بل هو إحدى الركائز الأساسية للعُنْصرية التي تشكل واحدة من أكبر إشكاليات المجتمع الأميركي وأكثرها تعقيداً.
ولا بد هنا من الحذر كي لا يُفهم مما نقوله أنَّ كل إنسان أبيض في أميركا مسؤول عن التمييز العُنصري ومآسيه مسؤولية فردية. فعلى العكس هناك من البيض كثيرون من ساسة ومفكرين وفلاسفة ونشطاء ومناضلين ومناهضين للعُنصرية ممن يساندون السود في نضالهم، مع إقرارنا بأنَّ التعاطف مع قضية ما شيء، والشراكة في المصير شيء آخر. فالشراكة تعني وتتطلب أنْ يخرج المرء من شرنقته ليشارك الآخر آلامه ومعاناته.
قد يجد الكثيرون خارج الولايات المتحدة هذا الطرح مستغرباً حيث إنَّ أميركا قد ألغت قانونياً التمييز والفصل العُنصري بين الأسود والأبيض منذ عقود. إلاّ أنَّ مفاهيم الحرية والمساواة وقَبول الآخر ليست مجرد نصوص قانونية أو شعارات سياسية، بل هي في الجوهر وقبل كل شيء تربية وتنشئة وثقافة. وحقيقة الأمر أنَّ الواقع الأميركي يعج بالكثير من الظواهر والمآسي الاجتماعية التي يعاني منها السود والملونون ليس أقلها وجود ما يقارب مليون أسود في سجون أميركا وتردي الأوضاع الصحية والتعليمية وغياب الخدمات الاجتماعية والفقر والعوز والبطالة وتفكك التماسك الأسري وغيرها.
الثقافة والعلم في خدمة العُنصرية
كان من الطبيعي أنْ تفرز الأوضاع المادية والموضوعية، في ظلّ الهيمنة الطبقية للأغلبية البيضاء، ثقافتها ونظمها القيمية وأن تنتج مثقفيها الذين يؤدلجون ويدافعون عن الموقف السياسي – القانوني وعن مصالح الطبقة المهيمنة، وأن يختلقوا الذرائع والنظريات الاجتماعية والأنتربولوجية والعلمية لتبرير هذه المواقف وتعزيزها لتصبح الثقافة السائدة، ثقافة الطبقة المهيمنة ولتخترق مفاهيمها وادعاءاتها كافة مستويات الوعي الشعبي والتي تتغلغل آلياتها الأيديولوجية (الإعلام والتربية والتعليم والمؤسسة الدينية والكنائس ودور العبادة والأسرة وغيرها). هكذا إذن، شاعت الادعاءات العُنصرية الكاذبة والتي أصبحت مسلمات ونظريات علمية لا يرقى إليها الريب، وهنا أيضا، يتسنى لنا أنْ نفهم أنَّ جذورها ونشأتها وعوامل ديمومتها في المجتمع الأميركي قد ضربت جذورها عميقاً في المجتمع والثقافة الأميركيين، وترسّخت مفاهيم عُنصرية منتحلة صفة "العلمية الأكاديمية" تزعم أنَّ الأقليات والمجموعات العِرقية غير البيضاء تتسم بقدرات فكرية وثقافية فنية متدنية (دون الأبيض) وهو الأمر الذي عزز بدوره سن القوانين والتشريعات العُنصرية المجحفة بحقهم ومهد لجعلها "مُسَلمات" مقبولة وسائدة في الثقافة الشعبية.
النظام التعليمي:
تغييب البعد الطبقي وتزييف الوعي
شكل النظام التعليمي في أميركا، الحقل الرئيس الذي استخدمت فيه نظريات "مساعدة الذات" self-help كأيديولوجية زائفة وخادعة للأقليات العِرقية.
أحرزت الأقليات العِرقية عام 1954 عبر سلسلة من التطورات التشريعية إلغاء الأساس القانوني للفصل في المؤسسات التعليمية بين البيض والأقليات العِرقية. وقد اتخذ منظرو وأصحاب نظريات "مساعدة الذات" من نجاح الأفراد الذين حققوا التحصيل العلمي والمداخيل العالية دليلاً على مصداقية وفعالية هذه النظريات ومثالاً على نجاحها. وهكذا ترسخ في الاعتقاد بأن الفرد، إذا ما منح الفرصة فإنّه قادر على إحراز النجاح. ولا يخفى هنا التركيز على الفرد وحده ومقدراته والتجاهل المتعمد للنظام الاجتماعي والاقتصادي ودوره في خلق الظروف الموضوعية والمادية في صناعة الفرد والمجتمع. كما تم الترويج للاعتقاد الذي كان سائداً بأنَّ غياب الرغبة والاستعداد والحوافز الفردية، وليس التمييز، هو السبب وراء فشل الأغلبية من أفراد تلك الأقليات وعجزهم عن اللحاق بنجاح وثراء الأميركي الأبيض أو حتى القلة من أبناء تلك الأقليات.
خلاصة القول، أنَّ نجاح قلة من أفراد الأقليات العِرقية وقدرتها على الهروب من الفقر استخدما كدليل على مسؤولية هذه الأقليات كجماعة عن الفشل والعجز والتخلف الذي تعاني منه. أمّا من منظور الأغلبية البيضاء فقد ظلّت الأقليات العِرقية "غير مرئية" حيث انخدعت هذه الأغلبية بمقولة أميركا بلد الفرص للجميع، وظنوا أنَّ الأقليات العِرقية كانت إما ناجحة ومزدهرة (على قياس القلة القليلة من بينهم) أو مجموعة من الأفراد الكسالى الذين اختاروا حياة الفقر والبؤس.
مهدت هذه العوامل مجتمعة إلى تعميم التفسير الذي ساد لاحقاً للتمييز العُنصري وهو أنَّ هذه الأقليات راغبة في الإبقاء على حالتها والعيش ضمن الظروف القائمة. وقد ظل هذا التفسير سائدا حتى واقعة "باص مونتغمري" Montgomery Bus Boycott والتي أشعلت فتيل حركة الكفاح من أجل الحقوق المدنية في الولايات المتحدة بزعامة مارتن لوثر كنج وحملة المقاطعة التي تلتها. وقد أثبتت هذه المقاطعة نقيض الاعتقاد الشائع: أنَّ السود غير راضين عن أوضاعهم وأنهم قادرون على النضال من أجل تغييرها. ومع تصاعد النضالات والاعتصامات والمظاهرات السوداء، أخذ الرأي العام الأبيض في أميركا منذ تلك الآونة في أواسط ستينات القرن الماضي، أخذ يدرك أنَّ الأقليات العِرقية تعاني أشد ظروف الفقر والبؤس وأسوأ الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في مجالات التعليم والصحة والإسكان والعمالة وغيرها.
العِرق كآلية للهيمنة الطبقية
على ضوء ما أسلفناه، يمكننا تعريف التمييز العُنصري في أبسط معانية على أنّه مجموعة الأفكار والمعتقدات والقيم والممارسات التي تتيح لعِرق ما أو إثنية معينة (العِرق المهيمن أو الإثنية المهيمنة)، أنْ تحافظ على مصالحها المادية وامتيازاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأن تعززها بشكل منتظم ودائم، إزاء الفئات والجماعات العِرقية والإثنية الأخرى والتي تعتبرها (أي الفئة المهيمنة) أدنى منها. وفي هذه العملية الاجتماعية والتاريخية المستديمة يعمد العِرق المهيمن إلى استخدام كافة الآليات المتاحة ولا يتورع عن التنظير لأبشع الذرائع والتبريرات، وفي المركز من هذا نجد التمييز الذي يقوم على أساس الملامح الفيزيائية (وأهمها لون البَشْرة) لتلك الأعراق والإثنيات الملونة ـ غير البيضاء. ولا تستطيع التحسينات اللفظية أنْ تتستر على هذه الحقائق التي ينطق بها الواقع القائم ووقائع التاريخ. ولعل أوضاع السود الأميركيين تشكل الحالة الأكثر وضوحاً وتأكيداً على ما نقول، حيث تزامن نشوء وتطور المفهوم والتصنيف العِرقي للأسود مع نشأة العبودية وترسخها كنظام عمل واستغلال طبقي (اقتصادي) وعِرقي.
لذا، فإنَّ معالجة العِرق في السياق الأميركي تشكل محوراً مركزياً في فهم العلاقات الاجتماعية. فالعِرق في أميركا هو العادي والمألوف وهو الذي يصيغ الرأي العام بين الناس، وبهذا يصبح وسيلة لفهم العالم وتفسيره والتعامل معه.
خلاصة القول أنَّ العُنْصرية تتجلى، من منظور أصحابها ومؤيديها، كنظرة شاملة ونهج لتفسير العالم وظواهر المجتمع والتاريخ والطبيعة. وعليه، فإنَّ الفلسفة التي تجد التبرير والذريعة للتراتبية العِرقية (فَوْقية عِرق على آخر) تقدم نهجاً تاريخياً يضرب جذوره عميقاً في التاريخ ولا يتوقف عند حدود هذا التبرير، بل يصبح طريقة في التفكير والفهم قوامها أنَّ الفوارق الحقيقية بين الناس والتي تفصل بينهم وتقيم الحواجز العِرقية في المجتمع وفي العالم تكمن في الصفات البيولوجية والمظهر الخارجي (لون البَشْرة، وسيماء الوجه). وعليه، فمن منظور هذه الذهنية فإنَّ بعض الأفراد قد وُلدوا وهم يحملون مصيرهم المحتوم ليقضوا طيلة عمرهم في عالم الدونية (الأسود والأسمر والملون وغير الأبيض) والذين يشكلون الأغلبية الساحقة من البشرية. أما البيض، وفق ما تفتقت عنه هذه الذهنية، فهم متفوقون "بالطبيعة" وبالولادة بل وبشهادة قوى التاريخ وحراكه.
هنا تكمن خطورة منطق العُنْصرية وأبشع تجلياته مما يفضي إلى مسألتين هامتين:
1) حتمية التناقض والصراع بين الجماعات العِرقية.
2) استحالة الوصول إلى وفاق أو اتفاق أو إمكانية العيش المشترك مع "الآخر المُعَرقن". فهذا "الآخر"، وبسبب أصوله وسماته البيولوجية وقيمه وثقافته، لا يمكن أنْ يكون "موضع ثقة" الأبيض ولا يمكن أنْ يشاركه في تحقيق آماله وتطلعاته، وهو ما يؤدي إلى استحالة الاندماج والعيش المشترك وهو بالضبط ما تسعى الفَوْقية البيضاء إلى تأكيده واستدامته وتأبيده.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم
.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة
.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.
.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة
.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال