الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
إشكاليات العِرق والتمييز العنصري في الولايات المتحدة نحو فهم مادي وطبقي (الجزء الخامس)
مسعد عربيد
2017 / 8 / 29ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
نحو فهم مادي للعِرق في أميركا
"في مجتمع يتنكر للعدالة ويفرض الفقر ويسوده الجهل، وحيث تشعر طبقة، أي طبقة،بأنه (المجتمع) ليس سوى مؤامرة منظمة للقهر والنهب والاحتقار، في مجتمع كهذا لا يمكن أنْ يتوفر الأمان لا للفرد ولا للمتلكات."
فريدريك دوجلاس (1818 ــ 1895)
مفكر وكاتب ومناضل أميركي أسود
تناولت في الفصول السابقة بعض جوانب العُنصرية وإشكالياتها في الولايات المتحدة وهو، بدون شك، موضوع معقد ومتشعب. وسوف أعمد في هذا الفصل إلى تقديم بعض المفاهيم المفصلية التي تشكل مدخلاً لفهم نقدي للعِرق والعُنصرية في الحالة الأميركية وصولاً إلى ترسيخ فهم طبقي قوامه: أنَّ جذور التمييز العُنصري وأسبابه وعوامل ديمومته تكمن في المصالح الطبقية للأغلبية البيضاء المهيمنة وحمايتها وإبقاء هذه الطبقة في موقع السلطة والتحكم بمقاليد القرار السياسي والاقتصادي.
أود الإشارة هنا، وإن لم يكن هذا من صلب موضوعنا ودون أنْ ندخل في التفاصيل في هذا المقام، إلى أنَّ وجهات النظر التي أطرحها في هذا الفصل قد لا تَلقى موافقة أو ترحيباً بين الكثيرين من العرب الأميركيين، بل يظل موقف هؤلاء موقفاً خلافياً في أحسن الأحوال. فالعرب الأميركيون يختلفون في هذه المسألة وتتباين آراؤهم ومواقفهم كما هو شأنهم في العديد من المسائل السياسية والاجتماعية في أميركا. وبالرغم من التوق الانفعالي في أنْ يشكل العرب الأميركيون كتلة واحدة، على الأقل في الموقف السياسي والعملية الانتخابية الأميركية، إلا أنَّ واقع الأمر كان دوماً مغايراً ومعاكساً لهذه الرغبة، لأنَّ مواقف العرب في أميركا، كغيرهم من الجاليات والأقليات المهاجرة، ينبع من الموقع والمصالح الطبقية والاجتماعية وحتى الشخصية للمهاجر، كما يعود في جزءٍ منه إلى دوافع الهجرة ويتأثر بالخلفية والموقع الاجتماعي والاقتصادي للمهاجر في الوطن الأصل.
يتوجب علينا، من أجل التأسيس لفهم نقدي لمسألة العِرق عموماً وفي أميركا على وجه الخصوص، أنْ نجلّس العِرق والعلاقات العِرقية في إطار العلاقات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية في المجتمع، فدراسة العِرق يجب أنْ تقوم على أنّه، في الجوهر، بنيان اجتماعي محدد وظاهرة اجتماعية واقتصادية وإنسانية. وعليه، فإنَّ فهم مسألة العِرق يتطلب وضعها ضمن النظام الاجتماعي ـ الاقتصادي المهيمن في الولايات المتحدة، أي النظام الرأسمالي، وهذا الأمر لا يتسنى بعيداً عن شمولية ودينامية هذا النظام. ودون الالتفات في هذه اللوحة المعقدة، إلى خصوصيات الحالة الأميركية (دور الرأسمالية في نشأة وتطور المجتمع والدولة)، فإنَّ التراتبية العِرقية وكافة تصنيفاتها في الولايات المتحدة تظل مجردة وعائمة في فضائها المطلق دون أنْ تمس الوقع القائم، ناهيك عن أنها تبقى مختزلة ومبتورة من أصولها وجذورها التي تكمن تحديداً في نشأة الرأسمالية الأميركية وتطورها على امتداد القرون الأربعة الماضية.
بعبارة أخرى، فإنَّ الحديث عن العبودية والعِرق والعَرقنة والتمييز العُنصري، دون الغوص في الطبيعة والجذور الرأسمالية للمجتمع الأميركي وخارج سياق النظام الرأسمالي المهيمن عليه، يبدو وكأنه حديث يدور في كوكب آخر وزمن آخر. والأخطر أنَّ مثل هذه النظرة المبتورة والقاصرة تجعل من العِرق وكأنه الأمر العادي والطبيعي في تنظيم المجتمع والعلاقات الاجتماعية في ذلك البلد.
قبل الدخول في مناقشة النهج المادي للعِرق والعُنصرية في الولايات المتحدة، يفيدنا أنْ نقدم بعض الملاحظات المكثفة لتسليط بعض الضوء على الأوضاع العِرقية في أميركا كمدخل للتحليل الطبقي لهذه المسألة.
1) إنَّ ما نراه في المشهد الأميركي الراهن يعود في جذوره إلى نشأة المجتمع الأميركي وإنَّ التمييز العُنصري متأصل فيه. لذا يبقى هذا المجتمع عُنصرياً في الجوهر حتى وإن اتخذت العُنصرية أشكالاً ومظاهر مختلفة في الوقت الراهن.
2) منذ ولادة الدولة الأميركية ـ كمستوطنة أوروبية بيضاء على الشواطئ الشرقية لأميركا الشمالية وكمجتمع رأسمالي عُنصري، وخلال حقبات تطوره على مدى القرون الأربعة الأخيرة، طغت العُنصرية ومشاكلها على كافة جوانب الحياة والمجتمع في أميركا. هكذا ظلّ العِرق، عبر كافة هذه المراحل كما في الزمن الراهن، مشهداً مركزياً وعاملاً رئيساً في الحياة والمجتمع والسياسة الأميركية.
3) لسنا بصدد مناقشة العِرق كتصنيفات عِرقية أو اصطفافات إثنية أو قومية، مما لا يعني أننا نقلل من مخاطر العقيدة العُنْصرية وتجلياتها التمييزية وتأثيراتها الاقتصادية والمعيشية الجسيمة على كافة مستويات وأنشطة الحياة اليومية والاجتماعية والسياسية. بل نتناول العوامل الاجتماعية والطبقية للعِرق وانعكاساتها على الفرد والمجتمع من حيث إنّها (أي العوامل الطبقية) هي الأساس في تنظيم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والفئات الاجتماعية والجماعات العِرقية والإثنية والقومية المختلفة. فبغض النظر عن تفسير الفوارق بين الناس، أفراداً وجماعات، وجذور نشأتها، فإنَّ العِرق والتمييز العُنصري يمثلان، من حيث الممارسة العملية، نهجاً في تحديد الفوارق بينهم، بالإضافة إلى أنَّ الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للعِرق على الحياة اليومية للناس والعلاقات فيما بينهم، هي أمر لا يمكن محوه أو تجاهله أو التقليل منه.
4) وهذا يعني أننا، وبالمعيار ذاته، لسنا معنيين هنا بالنظريات "العلمية" أو "الأكاديمية" التي تنظّر وتؤدلج لتأكيد الفوارق بين الأعراق بغية ترسيخ تراتبية عِرقية تتسلسل فيها الأعراق وفق فَوْقية هذا ودونية ذاك، بل سنعمل على تفنيد هذه الأكاذيب. يكفينا في هذا المقام أنْ نخلص إلى نتيجة مفادها أنَّ هذه الطروحات تستند إلى دوغما عِرقية تدّعي الموضوعية والأمانة الأكاديمية وتنتحل صفة الأدلة "العلمية" لإثبات تراتبية عِرقية يقف فيها الأبيض على قمة الهرم، بينما تلحق به الأعراق الأخرى تنازلياً وصولاً إلى المواقع المتدنية في هذا السُلّم.
5) كما أنَّنا لسنا بصدد الرد على الادعاءات الأيديولوجية العِرقية أو طرح البدائل الثورية لتغيير الواقع الأميركي. لأنَّ هذا، رغم أهميته القصوى، يقع في صلب إستراتيجية النضال من أجل التغيير الجذري ومهامه.
العبودية والمصالح الطبقية: خصوصيات الحالة الأميركية
ينبع التمييز العُنصري من طبيعة المشاريع الكولونيالية الأوروبية البيضاء ويستمد عناصره ومكوناته من هذه المشاريع. وتصبح هذه المسألة بالغة الأهمية إذا التفتنا إلى ما يدور من حولنا في الحقبة الراهنة لعولمة رأس المال والحروب الإمبريالية الأميركية على أوطاننا وأجزاء أخرى من العالم والتي تهدف إلى بسط هيمنة الإمبريالية الأميركية على شعوبنا ونهب ثرواتها.
وعليه، فإنَّ العبودية والتمييز العُنصري في أميركا، (وبالمجمل في التاريخ الأوروبي الكولونيالي)، يستمدان جذورها من ديناميكية طبقية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمشاريع الكولونيالية والأمبريالية الأميركية والأوروبية التي غزت، وما زالت، الشعوب بهدف نهب مواردها وثرواتها واستجلاب العبيد كمصدر للعمل الرخيص (بل غير مأجور وبدون كلفة). قد تبدو هذه الأطروحة بديهية ومتناغمة مع حقائق التاريخ الأميركي، إلاّ أنَّ هناك العديد من المدارس والتيارات الفكرية والسياسية التي تختلف وتتناقض معها. ولا غرابة أنْ تكون هذه التيارات هي ذاتها التي حرصت دوماً على التنكر لحقائق التاريخ وتعلبيه على نحو يخدم مصالح الطبقة الحاكمة ويروج لمفاهيم العُنْصرية والشوفينية. وفيما يلي عينة من هذه الأكاذيب والمزاعم:
أ) إنَّ العبودية والعُنْصرية تطورت في حقبة تاريخية وسياق اجتماعي مختلفين، ومن خلالها تكونت العلاقات الاجتماعية والإنسانية واتخذت أشكالاً معنية. وكذلك الأمر في العُنْصرية في أميركا التي قامت على أرضية تناقضات وتوترات أخلاقية وفلسفية تكونت في سياق نشأة الدولة والمجتمع الأميركي وأعاقت درب البحث عن "الروح القومية" الجمعية للشعب الأميركي. إلاّ أنَّ كلا الأمرين، العبودية والعُنْصرية، تتابع هذه المقولة سردها، قد غدا شيئاً من الماضي الغابر ولا راهنية لهما في واقعنا اليوم.
ب) إنَّ التمييز العُنصري يعود في أسبابه وأصوله إلى الفروق في العادات والتقاليد والمعتقدات وطرائق العيش التي سادت بين جماعات بشرية مختلفة شكّلت طيفاً موزاييكياً من الإثنيات والأعراق.
تفضي هذه الأطروحات في نهجها ومنطقها إلى استنتاجات مفادها أن:
(أ) العُنْصرية هي نتاج، وإن كان نتاجاً سيئاً وكريهاً، للمركزانية الإثنية التي تتميز بنزوع طبيعي وشديد نحو العُنْصرية والتمييز العُنصري؛
(ب) التمييز العُنصري هو مجرد اعتقاد لفئة معينة أو عِرق أو إثنية معينة ولا علاقة له بظروف موضوعية وعوامل مادية معينة تشكّل التربة التي نشأ فيها وتترعرع؛
(ج) وبناء عليه، فإنَّ جذور ودينامية العُنْصرية في أميركا تكمن في مواقف ومفاهيم ومعتقدات مجردة لامادية، لاتاريخية، غير موضوعية وبالتالي فهي غير راهنية. وهذا هو بيت القصيد والمحور المركزي لمثل هذه الطروحات.
وتتجلى خطورة هذه الأطروحات، على الأقل من حيث دورها في صياغة المفاهيم العامة للثقافة الشعبية، في:
أ) دأبها المستمر على تفادي النهج المادي والتحليل الطبقي في تفسير العلاقات العِرقية والخطاب العِرقي في أميركا.
ب) سعيها نحو البروباغندا والتضليل الأيديولوجي والبحث المستمر عن الذرائع لتبرير التمييز والاستغلال العُنصريين واختزال الصراع الاجتماعي في أميركا (وعلى رأسه مسألة العِرق) إلى قضية أخلاقية وغيبية. ولعل القصد من هذا هو تكريس النتيجة التي تقول إنّه إذا كانت القضية أخلاقية فإنها، في المحصلة، تستدعي حلاً أخلاقياً وهو تحديداً الوهم الذي طالما سعت الطبقة الحاكمة في أميركا إلى ترسيخه في الوعي الشعبي وفي صورة أميركا في الداخل والخارج.
ج) لقد ترسخت هذه الأطروحات في الأوساط الثقافية والأكاديمية والإعلامية على نحو يسهّل من مهمتها في تزييف وتشويه الوعي الشعبي ويضاعف من تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على الحياة اليومية. وهنا تحديداً تكمن مخاطر مثل هذه التيارات والمدارس الفكرية والسوسيولوجية والسياسية والتي تتجاوز الجدل النظري أو الأخلاقي المحض في تشويه الوعي الشعبي وتعزيز الفروق بين الفئات والطبقات الاجتماعية وقَبول هذا كله على أنّه أمر طبيعي وعادي، بل لعله "الطبيعي والعادي".
مدخل إلى الفهم الطبقي للعِرق في أميركا
يقدم النهج المادي تفسيراً للعِرق والفوارق العِرقية في أميركا يتجاوز التعريفات والمفاهيم البيولوجية والفيزيائية، ويؤسس لفهم العِرق على أنّه مجموعة من الناس يُعتقد أنَّها جماعة بشرية وعِرق معين أو متميز وسط تناقض المصالح بين الأعراق والإثنيات المختلفة ويتم قَبولها على هذه الأرضية. (انظر لاحقاً)
كان أوليفر كوكس (1901 ـ 1974) Oliver Cox أحد روّاد هذا النهج وأعلامه البارزين قد التفت مبكراً إلى تغييب النهج المادي الماركسي في تحليل العِرقية في أميركا وكتب العديد من الأعمال التي أعادت الاعتبار لهذا النهج واعتمدته ركيزة أساسية في تحليلها. ومن أهم هذه الأعمال كتابه الشهير Caste, Class and Race الذي رأى النور في طبعته الأولى عام 1948 ثم توالت بعدها طبعات أخرى.
على ضوء هذا الفهم، عرّف أوليفر كوكس الجماعة العِرقية أو الإثنية على أنّها الجماعة البشرية التي تعيش في علاقة تنافسية، استعلائية او إخضائية، مع جماعة (جماعات) أخرى داخل الدولة الواحدة أو البلد الواحد أو الحيز الاقتصادي الواحد. فالعِرق بحد ذاته ولوحده ليس "أمراً حقيقياً" ولا معنى له ولا راهنية بمعزل عن أنمطة معينة من العلاقات الاجتماعية التي تعيش الأعراق في ظلها. وهذا التعريف الاجتماعي للعِرق، هو بمثابة رفض للتصنيفات البيولوجية للعِرق وللادعاءات التي قامت عليها مدّعية مصداقية العلم والأنثروبولوجيا. وتتجاوز أهمية التعريف الاجتماعي هذا مجرد الرفض للأسس الأنثروبولوجية وصولاً إلى التأكيد على أنَّ هذه الأسس لا علاقة لها بواقع العلاقات العِرقية كظاهرة اجتماعية من المنظور السوسيولوجي لأنّ هذه العلاقات نشأت وتطورت بين الأعراق ضمن ظروف اجتماعية وطبقية معينة وفي إطار تشكيلة اجتماعية معينة بمعزل عن آية اعتبارات بيولوجية أو معايير انثربولوجية.
العِرق في جوهره في إطار النظام الرأسمالي عامة وأميركا خاصة:
1) هو نتاج لعلاقات العمل الرأسمالي وديناميته، تلك العلاقات التي تعود في جذورها إلى العبودية. وهنا يكون مربط الفرس في فهم مسألة العِرق والعِرقية في أميركا والمجتمعات الرأسمالية بشكل عام. فتجارة العبيد، وهو الأمر الذي كثيراً ما يتم إغفاله بالرغم من وضوحه، كانت بكل بساطة وسيلة للعمل الرخيص أو الاستعبادي ـ المجاني من أجل نهب موارد أميركا ـ المستوطنة الأوروبية المُكتشفة حديثاً. وعليه، فإنَّ الاستغلال العِرقي لم يكن سوى جانب من جوانب استغلال بروليتارية العامل بغض النظر عن عِرقه أو لون بشرته. ومن هنا أيضاً فإنّ "التناقض العِرقي" هو في الكنه صراع طبقي وحصيلة علاقات العمل الرأسمالي.
2) إلاّ أنَّ ارتكاز العِرق والعُنْصرية على التحليل الطبقي لا ينفي طبيعة الاضطهاد العِرقي ولا يتنكر لوحشيته أو لكلفته الإنسانية الباهظة أو يقلل من أهمية النضال ضد العُنْصرية ومناهضة تجلياتها العِرقية بشكل واضح ومباشر.
3) كما أنّه لا ينفي التمييز العُنصري الذي تمارسه الطبقة العاملة البيضاء ضد العمال من الأعراق المختلفة، وخصوصاً السود واللاتين، أو كما يسمونهم في الولايات المتحدة اللاتينو. (انظر الملحق). وتؤكد هذه الرؤية على أنَّ الرأسماليين المستغِلين حرصوا دوماً على إنتاج وتغذية وإدامة التناقض والمزاحمة بين العمال البيض من جهة، والسود واللاتينو والملوّنين من جهة أخرى.
العِرق بين الطبقي والليبرالي
في حين يقوم الخطاب السائد في أميركا على الهوية السياسية والتمثيل السياسي (الانتخابات) ويتجاهل كليةً التحليل والنقد النابعين من فهم العلاقة التناحرية بين رأس المال والعمل، فإنَّ التحليل الطبقي للعِرق والعُنْصرية يؤكد، في جوهره، على فهم العِرق وإدراكه على أنّه حصيلة العلاقات الاجتماعية القائمة في سياق تاريخي واجتماعي معين وفي إطار الاقتصاد السياسي الذي يحكم هذه العلاقات. ويتناقض هذا الفهم مع المفاهيم التي يروّج لها الليبراليون والتي أرسوها على ثالوث غير مقدس في فهم العلاقات الاجتماعية قوامه مكونات ثلاثة (أ) تصنيف الجماعات البشرية على أساس العِرق، (ب) ترسيخ التراتبية العِرقية لهذه التصنيفات وتنظيمها وفق سلّم عِرقي، و (ت) الأيديولجية العِرقية والعُنْصرية. وفي حين تدّعي الأطروحات الغيبية للعِرق بأنّه ليس سوى "مرض قومي" وعلى هذا الأساس يقتضي معالجته، فإنَّ الفهم الطبقي للعِرق يؤكد على أنَّ العُنصرية ليست مجرد مرض بل هي نمط للعلاقات الاجتماعية والطبقية. ولعل الفارق بين هذين الطرحين هو ما يكشف خبث الادعاءات الليبرالية وآثارها المدمرة على العلاقات القائمة وعلى مفاهيم وأساليب النضال ضد التمييز العُنصري. فالعِرق لا يسير ولا يدوم بسبب قوته الذاتية الدافعة بل هناك من الدوافع والعوامل التي تنتجه وتعيد إنتاجه وهي كامنة في التشكيلات الاجتماعية في مجتعات معينة وفي ظل ظروف تاريخية معينة تشمل طبيعة الدولة والسلطة (الطبقة) الحاكمة والقانون.
تداخلات الطبقة والعِرق والإثنية
نبدي فيما يلي بعض الملاحظات المفتاحية والضرورية كمدخل لمناقشة جدلية العلاقة بين الطبقة والعِرق في أميركا:
1) ترتبط الطبقة وتتأثر، في تكوينها ونسج علاقاتها، ارتباطاً مباشراً بمجال الإنتاج (نمط وعملية وعلاقات الإنتاج)، وهذه العوامل هي التي تشكّل الظروف المادية التي تحدد وتحكم أوضاع الفئات الاجتماعية والإثنية والعِرقية المختلفة.
2) إلاّ أنَّ الطبقات الاجتماعية تتكون كحصيلة لصراع مديد عبر عمليات تاريخية طويلة تتداخل فيها العلاقات الاقتصادية والأيديولوجية والسياسية من جهة، والعلاقات بين العِرق والإثنية والجندر من جهة ثانية. فالطبقات (والعلاقات الطبقية) وإن تكونت أساساً في مجال الإنتاج حيث تتحدد معالمها وتتمركز مصالحها وعلاقاتها، إلاّ أنَّ تكوينها لا يقتصر على المجال الاقتصادي البحت، لأنَّ العوامل الاجتماعية والثقافية وحتى الإثنية والجندرية تجد هي أيضاً انعكاساتها وتعبيراتها في تكوّن الطبقات والفئات الاجتماعية والعلاقات الطبقية التي تتبلور بينها كأطراف ومكونات للصراع الطبقي في المجتمع.
3) نخلص من هذا إلى أنَّ تكوّن الطبقات والعلاقات الطبقية في فضائها الأوسع ليس نتاجاً للعملية الإنتاجية لوحدها، بل هي تتأثر وتتشكل تاريخياً وبشكل مترابط متفاعلة مع عوامل الإثنية والعِرق والجندر كتقسيمات اجتماعية، مما يفضي إلى استنتاجين:
الأول، أنَّ البحث في العملية الطبقية وعلاقاتها يقودنا، في نهاية المطاف، إلى الاشتباك المباشر مع العلاقات الإنتاجية ـ الاقتصادية والإجتماعية والإثنية والثقافية فيما بينها وتفاعلها المتبادل وتداخلاتها في فضاءاتها الطبقية وغير الطبقية.
والثاني، أنَّ الفصل بين هذه المكونات (الإنتاجية ـ الاقتصادية والاجتماعية والعِرقية والإثنية والجندرية وغيرها) إنَّما يمهد لفصل "الخطاب" عن "الممارسات الفعلية" في الواقع العملي. وعليه، فإنّ الفهم النقدي والشامل يستلزم معالجة الجدلية بين هذه المكونات كلها والعلاقات التبادلية بينها.
4) تتجلى هذه اللوحة في المجتمعات العُنْصرية في المركز الرأسمالي وبوضوح أكثر في تلك البلدان التي نشأت كمستوطنات أوروبية بيضاء كما هو الحال في أميركا وغيرها. ونستطيع من خلال قراءة التطور الاجتماعي والإثني لهذه المستوطنات الاستخلاص بأنَّ العملية الطبقية تتشكل وتتبلور عبر الصراعات والنضالات والأفعال وردود الأفعال العِرقية والإثنية والثقافية بالإضافة إلى العوامل المادية والاقتصادية.
5) بالمقياس ذاته نخلص إلى أنَّ العملية الإنتاجية (نمط وعملية وعلاقات الإنتاج) والتي تحدد الظروف المادية لتكوين الفئات الاجتماعية والإثنية والعِرقية، هي التي تتسبب في تهميش وحرمان الطبقات والفئات الاجتماعية المضطَهدة من الإفادة من الموارد والبرامج والخدمات والفرص الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمع. وهو ما نشهده بجلاء في المجتمع العُنصري الأميركي.
6) العِرق ودور الفرد: تتحدد قيمة الفرد في المجتمع الرأسمالي حسب موقعه الطبقي اي حسب علاقته مع رأس المال والتي هي علاقة تتحدد على أساس الموقع من العملية الإنتاجية والعلاقة بين العمل المأجور ورأس المال (ما يُعرف بعلاقات العمل الرأسمالي). بالإضافة، فإنَّ العُنصرية في هذا المجتمع تقيم اصطفافات وتراتبية اجتماعية وتشكّل جزءاً أساسياً من علاقات رأس المال بالعمل. لذا، فإنَّ العِرق ليس منعزلاً عن هذه العلاقات، فهو بنية اجتماعية طبقية، وبهذا المعنى أيضاً يصبح شرطاً لفهم الواقع القائم ورسم برامج وآليات التغيير الاجتماعي. ومن هنا يتضح كيف رسمت النخبة البيضاء المهيمنة حدود "الحيز المُتاح" لدور الآخر غير الأبيض بما فيه العمال غير البيض وقدرتهم على تنظيم فعلهم السياسي والطبقي وأشكال نضالاتهم المطلبية والنقابية والسياسية.
7) وحيث إنَّ المجتمع العُنصري، والرأسمالي الأميركي خاصة، في جوهره مجتمع إقصائي فإنَّ هذه العوامل ترتبط وتتأثر بشكل أو بآخر ولو جزئياً، بهذه الطبيعة الإثنية الإقصائية. ومع أنَّ هذه الطبيعة ترتبط بشكل وثيق بالتركيبة الإثنية للمجتمع، إلاّ أنّها تنبع أساساً من البنية الاجتماعية ـ الطبقية ـ الاقتصادية التي قامت لحماية المصالح الطبقية والامتيازات الاجتماعية والسياسية للنخبة المهيمنة (الأغلبية البيضاء).
8) تلعب الدولة (السلطة، الطبقة الحاكمة والمهيمنة) في عملية الإقصاء والتهميش هذه دوراً رئيساً وحاسماً. فهي التي تخلق وتشرعن الحواجز والمعيقات التي تحول دون حصول الفئات المضطَهدة (التي يقوم تصنيفها أساساً على معايير الطبقة والإثنية والجندر) على المساواة والعدالة والحريات والحقوق وحرمانها من المشاركة الاجتماعية والسياسية المتساوية، وذلك عبر آليات وبنى تغيب فيها المساواة وتتحدد بها شروط المشاركة القائمة على تصنيفات الطبقة والإثنية والجندر.
9) "الأغلبية البيضاء"... هي إثنية أيضاً: ففي الجدل القائم في الولايات المتحدة حول أوضاع وأفعال الأقليات الإثنية وردود فعلها، يتم النظر إلى صفة الإثنية وكأنها مجرد واحدة من مكونات الأقليات الإثنية، أيّ أنه يتم إلصاق صفة "الإثنية" بالأقليات غير البيضاء فقط، فيما يُعفى البيض من هذه الصفة على أساس أنهم "الأغلبية". وهذا يستدعي الالتفات إلى الجانب العِرقي أو الأثني لهذه "الأغلبية" والذي يتم تغييبه دوماً. وعليه، فالأميركيون البيض هم "إثنية" أيضاً.
يقودنا هذا التحليل إلى ضرورة صياغة نظرة بديلة لـ"الإثنية البيضاء" التي تشكّل الشرط الرئيس لنمط التمييز العِرقي والفوارق العِرقية في النظام الاجتماعي القائم في أميركا. وهنا نصل، من حيث النظرة إلى الإثنية، إلى التمييز بين مستويين:
ـ الإثنية كإحدى مكونات الأقليات الإثنية غير البيضاء.
ـ الأغلبية البيضاء كإثنية بحد ذاتها وذات وضع إثني مستقل.
تبدو الإثنية البيضاء، لدى التأمل في الواقع الأميركي، وكأنها الطبيعية/العادية، التي تمثل ما يُسمى بـ"نمط الحياة الأميركية" على ما في هذه التسمية من تعميم وتلاعب. ووفق هذه النظرة، فإنَّ الإثنية ونمط حياتها هي التي تتحكم بفتح الأبواب أمام الإثنيات الأخرى (المسماة أقليات) وإتاحة فرص الفعل والتعبير شريطة أنْ تبقى الأقليات غير ـ البيضاء غريبة أو دخيلة عن المجتمع الأبيض (كما كان الحال مع الهنود الأصلانيين)، أو إذا ما أصبحت أقل اكتراثاً وتمسكاً بهويتها ومصالحها وأكثر استعداداً للتخلي عنها أو إنْ كانت قد تخلت عنها بالكامل. بعبارة أخرى، فإنَّ الباب يظل مفتوحاً أو موارباً أمام هذه الأقليات طالما أنَّها لا تصطدم مع حقوق ومصالح وامتيازات ما يسمونه "الكل الإثني" وشريطة ألاّ تتحدى هيمنة الإثنية البيضاء.
10) من أجل تعزيز مصداقيتها و"تعليب" هيمنتها وإضفاء الطابع الجمعي على المجتمع العُنْصري والعملية السياسية، تنتحل النخبة البيضاء المهيمنة لنفسها تمثيل "الكل القومي الأميركي"، مع الحرص على الرطانة والتغني بمساهمات الأقليات الإثنية الأخرى في العملية السياسية والقومية الجمعية.
11) تطرح هذه القضايا العديد من الأسئلة حول تداخلات لون البَشَرة بالعُنْصرية والطبقة وطغيان هذه العوامل على الخطاب العِرقي في أميركا. فحين يسود لون البَشْرة كثنائية، (أي ثنائية الأبيض ـ الأسود وبالمدلول العملي الأبيض كجلاد والأسود كضحية)، وحين تطغى هذه الثنائية على التصنيفات العِرقية، فإنَّ الكثير من الأمور تختلط ويبدو وكأن كل ضحايا العُنْصرية على شاكلة واحدة ومن لون واحد ويتم تغييب العوامل والفوراق الأخرى (مثل الفوارق بين الطبقات الاجتماعية والإثنيات والفوارق بين الرجل والمرأة):
أ) تكون الخسارة الكبرى في هذا الخلط هو ضياع الفوراق في ألوان التجارب وأشكال المعاناة ودرجاتها، بحيث تبدو الممارسات العُنْصرية على فظاعتها وكأنها غير مرئية أو ربما "غير موجودة". وللتوضيح أذكر على سبيل المثال أنه حين تسود صور عُنصرية الأبيض ضد الأسود، تستعصي وربما تستحيل رؤية التمييز ضد فقراء العالم الثالث أو ضد العمال اللاتينو المهاجرين وغيرهم.
ب) في المقابل فإنَّ فهم العُنصرية في أميركا ضمن ثنائية الأبيض ـ الأسود، قد يُلحق الضرر بصورة الأبيض ذاته ويشوه صورة الواقع وهو ما يستدعي الحذر، إذ يصبح الأبيض، كل البيض، عُنصريين ويتم التعامل معهم على هذا الأساس دون الانتباه إلى التمفصلات المختلفة للعُنْصرية والمتأصلة في الطبقة والإثنية والجندر وغيرهما من الأطياف الاجتماعية والإثنية.
ملحق
عام 1882: العمال الصينيون
اليوم: العمال المكسيكيون
تزامت هجرة العمال الصينيين إلى الولايات المتحدة، والتي بلغت أعداداً كبيرة، مع مشروع بناء السكة الحديدية التي تربط كافّة أطراف البلاد بعد أنْ تم اكتشاف الذهب في كاليفوريا وهرع الأميركيون إلى تلك الولاية بحثاً عن الذهب والثراء.
وقد تمَّ استقبال العمال الصينين المهاجرين استقبالاً حسناً في تلك المرحلة التي كان فيها الذهب متوفراً وسهل التنقيب عليه، وحيث تعاظمت الحاجة إلى الأيدي العاملة والرخيصة والقادرة على العمل الثقيل ولساعات طويلة.
ومع تناقص كميات الذهب وتعاظم الصعوبة في العثور على مناجم جديدة، أخذت المنافسة مع العمال الصينيين والأجانب بشكل عام تزداد، وشهدت البلاد موجات من استعدائهم وطردهم من المناجم فأخذوا من مناطق شمال كاليفورنا ومنطقة سان فرانسيسكو ملاذاً لهم حيث نشهد حتى يومنا هذا كثافة تواجدهم السكاني في تلك المدينة وضواحيها.
ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية التي تلت سنوات الحرب الأهلية الأميركية في العقد السابع من القرن التاسع، شنَّ الساسة وممثلو الحركة العمالية الأميركية هجوماً على العمال الصينين بغية تسعير الصراع بين العمال البيض من جهة والصينين من جهة أخرى وإحالة أسباب الأزمة الاقتصادية وتردي الأوضاع المعيشية في البلاد إلى العمال المهاجرين الذين "يسرقون" حقَّ العامل الأبيض في العمالة والدخل الجيد ولقمة العيش وتمكّنوا في نهاية الأمر من تشريع القوانين التي تعاديهم وتحرمهم من فرص العمل وكافة الحقوق الإنسانية والمدنية.
على ضوء هذه التطورات، سُن قانون استثناء العمال الصينيين عام 1882 والذي ظلّ ساري المفعول حتى تم إلغاؤه عام 1943.
واليوم تشهد العديد من الولايات الأميركية وعلى رأسها ولاية أريزونا تكراراً لهذا المشهد ولكن هذه المرة ضد العمال المكسيكيين المهاجرين.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم
.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة
.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.
.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة
.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال