الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجهوية مفتاح التنمية: ملاحظات ميدانية بخصوص المقاربة التنموية الجهوية في فرنسا

عبد الرزاق العساوي

2017 / 9 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


سأقدم من خلال هذه الورقة خلاصة رحلة قمت بها إلى فرنسا، شهر غشت المنصرم. وهي رحلة ثقافية كان الهدف منها فتح حوار صريح بين التصورات المتراكمة حول العالم الغربي، وواقع التجربة المعاشة. فكما هو معلوم، يحمل كل فرد مجموعة من الأفكار التي تشكل خلاصة تفاعل عدة عناصر متداخلة التي تشكل العقل الجمعي الذي يتحكم في الأفراد، غير أن واقع التجربة يسمح بمناقشة هذه التصورات، وبناء نقد ذاتي يساهم في بناء الشخصية الإنسانية. وفي هذا الإطار ارتأيت مشاركة القارئ العزيز مجموعة من الملاحظات التي استخلصتها من خلال رحلتي حتى لا تبقى مجرد ذكريات عقيمة أو حبيسة ورق لا طائل منه.
1- الثقافة المحلية قاعدة أساسية لبناء قوة فرنسا:
قضيت مدة ثمانية أيام بوادي مرفاي vallée des merveilles ، وهو جزء من حديقة مركانتور الوطنيةMercantour التابعة لمنطقة الألب المتوسطي لجنوب شرق فرنسا. كانت إقامتي خلال هذه المدة بمأوى علماء الأركيولوجية رفقة مجموعة من المتدربين من دول متعددة. يهدف هذا التجمع إلى التدرب على تقنيات جرد الرسوم الصخرية relevés de gravures التي تعود إلى فترة ما قبل التاريخ. تتميز المنطقة بمجموعة من الرسوم الصخرية التي نحتها إنسان المنطقة منذ آلاف السنين قبل الميلاد. تتخذ الرسوم أشكال متنوعة من أكثرها انتشارا الأشكال القرنية corniformes، والخناجر Les poignards، إضافة إلى الرسم الشهير الذي تتخذه المنطقة شعارا لها وهو رسم الإله "مون بيكو" Mont Bégo .
سجلت خلال هذه المرحلة مجموعة من الملاحظات من أهمها: مدى حرص واعتناء إنسان هذه المنطقة بالثقافة المحلية. يعتبر كل شخص نفسه ممثلا للمنطقة، وخصوصياتها المتفردة. فقد لامست عن قرب، عبر نقاشاتي وحواراتي، الإلمام الكبير، والمعرفة الرصينة لإنسان المنطقة بكافة الجوانب التاريخية والاجتماعية والثقافية المميزة لجهتهم، وكما يبدو فإن تبلورها يتم منذ نعومة الأظافر من خلال نظام تربوي يدمج المتعلم في محيطه القريب ويجعله متشبعا بثقافة محلية تميزه عن بقية الفرنسيين، ومدركا لقيمتها وأهميتها في بناء الثقافة الوطنية. كما تزخر المنطقة بمتاحف متخصصة يشرف عليها موظفون يتوفرون على تكوين جيد، مما يسهل نقل المعلومة إلى الزائر.
وما يثير الانتباه كذلك الاحترام الكبير الذي يكنه الإنسان لمحيطه البيئي، وهنا أستحضر إحدى الطرائف، عندما تم العثور على عقب سيجارة أثناء صعودنا جبل "مون بيكو" حيث استنكر الجميع هذا العمل، واعتبره البعض جريمة في حق البيئة.
بعد انتهاء رحلتي في جبال الألب الفرنسية عدت إلى مدينة نيس حيث قضيت ثلاثة عشر يوما بمختبر للحفريات محاد لمغارة لازاريتLazaret الشهيرة التي تضم بقايا إنسان ما قبل التاريخ. وقد تسنى لي معاينة التقنيات المستعملة في الحفريات، كما شاركت في الحفريات داخل المغارة. تقسم أرضية المغارة إلى مربعات ذات إحداثيات مضبوطة ثم يجري التنقيب وفق طبقات لا يتعدى سمكها السنتيمترين. ويتم تدوين كل العناصر المكتشفة ( عظام – أدوات مستعملة... ) وفق رموز محددة، بعد ذلك تأتي مرحلة الترميم بحيث يتم تنظيف العناصر المكتشفة وتدوينها بشكل معلوماتي. وفي نهاية المطاف نصل إلى مرحلة إعادة التشكيل بهدف أخد تصور عام حول كيفية انتظام العناصر التي تم العثور عليها. وبناء على ذلك يتم استخلاص مجموعة من المعطيات حول طريقة عيش الإنسان القديم، وأهم الأنشطة التي كان يقوم بها والأدوات المستعملة.
من قال أن الحفاظ على الثقافة وصيانة المحيط الايكولوجي والاقتصاد أمور يصعب الجمع بينها، فهو مخطئ والدليل على ذلك تجربة المنطقة التي قمت بزيارتها. فهي تعرف على مدار السنة سياحة ثقافية من كافة أنحاء العالم، مما يذر عليها مداخيل مالية مهمة، تساهم في تحقيق التنمية المحلية، وتأهيل الأجيال القادمة حتى تظل المنطقة محافظة على تميزها.
2 ـ باريس أرض تعايش الثقافات المحلية والعالمية:
جرت العادة في دول العالم الثالث أن تهيمن المدينة المركز (الميتروبول) على حساب بقية المناطق التي تصبح خاضعة غير قادرة على تسيير شؤونها بشكل مستقل وفق الثنائية المعروفة مركز/هامش. غير أن الأمر مختلف في مدينة باريس، فالمدينة العملاقة تستمد قوتها وعنصر تميزها من الثقافات المحلية المتنوعة، ويتضح ذلك من خلال المعالم المنتشرة في مختلف أنحاء باريس التي تحمل بصمات هذه الثقافات.
هذه إذن بعض أسرار التفوق الفرنسي التي تكشف بعض أسرار تخلف دول الجنوب، فعلى الرغم من اعتمادها على برامج التنمية الجهوية وصيانة الموروث الثقافي المحلي المدعمة في الغالب من قبل هيئات دولية مثل البنك الدولي، فإننا نلاحظ أن أغلب هذه البرامج المعتمدة في دول الجنوب تظل حبرا على ورق، بحيث تحارب الثقافة الح لية، وتفرغ الجهات من أبنائها نتيجة سياسات التهميش الممنهجة، وذلك لصالح أقلية مستفيدة تهيمن على الثروة وتحتكر السلطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ونحن من تخلف الى تخلف
نور الحرية ( 2017 / 9 / 2 - 22:03 )
أصبح لدي أعتقاد جازم وانا أرى ما يجري لنا وما حولنا في عالمنا العربي والأسلامي أننا أصبحنا أشباه انسان مقارنة مع سكان الشمال واقصد به الغرب طبعا ونحن نشاهد يوميا الدمار والخراب والفساد والأمية والارهاب مستشري وفي كل يوم تزيد كل مظاهر التخلف والأنحطاط وفي الاخير عقد المقارنات والمقاربات كمقالتك اليوم هو باعتقادي الخطوة الأولى نحو التقدم

اخر الافلام

.. بايدن: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية #سوشال_سكاي


.. بايدن: إسرائيل قدمت مقترحا من 3 مراحل للتوصل لوقف إطلاق النا




.. سعيد زياد: لولا صمود المقاومة لما خرج بايدن ليعلن المقترح ال


.. آثار دمار وحرق الجيش الإسرائيلي مسجد الصحابة في رفح




.. استطلاع داخلي في الجيش الإسرائيلي يظهر رفض نصف ضباطه العودة