الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثغرة الدرس الأول

صائب خليل

2006 / 2 / 12
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


لا أدري بالطبع متى تعلمت الرسم, لكني اذكر اليوم الذي اشترى لي والدي فيه اصباغاً زيتية وكنت طالباً في أواخرالإبتدائية أو بداية المتوسطة....حينها جلست لأرسم لوحة "عظيمة".
لم اكن مستعجلاً, فقد كنت اعلم ان دافنشي قد استغرق خمسة سنوات لرسم "الموناليزا", فماذا لو استغرقت لوحتي سنة أو اكثر؟ الا يفعل كبار الفنانين ذلك؟

وعندما تعلمت الشطرنج كنت احلم بالطبع بالبطولة, ورحت اقفز فوراً الى قراءة وتحليل دسوت ابطال العالم مثل اليخين وتال وبوتفينيك. كنت اشتري كتباً عناوينها مثل : "أقوى 100 دست في الشطرنج" و "روائع الشطرنج". هذه الكتب كنت اقرأها بنهم. أما كتاب كابابلانكا "مباديء الشطرنج" او شيء من هذا القبيل, فلم يكن يثير حماسي ولم استطع تحمل قراءة اكثر من بضعة صفحات منه.

في جامعة الموصل تعلمت التنس مع بعض الأصدقاء, وفوراً كنا نضرب الكرة بكل قوتنا, ونتطلع الى ضربات ابطال التنس في التلفزيون ونسجلها ونعيدها لنحاول تقليدها في المرة القادمة. كان هناك مدرب تنس ممتاز في الموصل وكانت هناك فرص ممتازة للتعلم الطبيعي المتدرج, لكن من يحتاج الى التعلم "الطبيعي"؟

هل تغيرتُ كثيراً بعد كل تلك السنين؟ لا أدري, فها انا اكتب في الصحافة وما ازال اخطأ بين الضاد والظاء وكيفية كتابة الهمزة والرفع والنصب وغيره!

ربما اكون مثالاً متطرفاً ولكني متأكد ان الباقين من اصدقائي لم يكونوا يختلفون كثيراً. لأنني لاحظت فيما بعد عليهم مثلما لاحظت على نفسي ما أسميه اليوم: ثغرة الدرس الأول.

لم يكن الأمر ملفتاً للنظر في العراق, حيث الجميع يفعل الشيء نفسه بدرجة او بأخرى, ولكن حين وصلت اوروبا كانت "تغرة الدرس الأول" واضحة تماماً. فرغم انني كنت اضرب كرة التنس بكل قوتي فأنها لم تكن تعبر الشبكة الا قليلاً, ان عبرت. بينما يرسلها طفل صغير نحيف اليدين كالقذيفة الى الساحة الثانية وبلا جهد كبير, فما هو السر؟

السر هو ان هذا الطفل لم يكن مستعجلاً. تعلم اولاً ان يمسك المضرب بشكل صحيح, ثم ان يسحب المضرب الى الخلف قبل ان يتحرك, وبشكل مدروس, الى حيث سيستقبل الكرة وهويقف بشكل جانبي صحيح وكتفه باتجاه الشبكة, ثم ليحرك جسمه كله في الضربة الموجهة. السر هو ان هذا الطفل كرر الحركات الأولية والضربات البسيطة مرات ومرات قبل ان يحاول ان يضرب كرة واحدة بقوة. السر هو انه كان يمتلك التواضع والهدوء اللازم ليتعلم الدرس الأول اولاً.

صحيح ان مجتمعاتنا لاتتيح الفرصة دائماً للتعلم بهدوء ونظام, لكن هذا ليس صحيح دائماً, وفي الأحيان التي تتاح لنا فيها فرص التعلم فإننا نتجنبها ان وجدنا منها مهرباً.

لست بصدد القاء اللوم على نفسي ولا على الاخرين في مجتمعنا, فما تكون في نفسيتنا كان معظمه خارج ارادتنا. فالظروف والتربية لم تكن تبعث فينا من الثقة بالنفس لنتعلم بتروي. كنا نعيش كأن العالم سيحترق غداً. كان عالمنا يهاجم شخصيتنا ويثير شكنا بقيمتنا ويخفض ثقتنا بأنفسنا الى درجة مؤلمة. لذا كنا نريد الإسراع بتوكيد العكس وبأننا فوق تلك التهم بعدم القيمة, ولا سبيل الى ذلك إلا بالتفوق. التفوق السريع وبشيء يمكن عرضه بشكل واضح. كنا نستعجل ان نصل الى "شيء" لنزيل هذا الثقل الكبير من الشعور بالدونية الذي يبثه فينا المجتمع والتربية.

كل كتب الرسم التي قرأتها كانت تقول ان يجب البدء برسم سكتشات قبل ان ترسم اللوحة, وأن هذا امر اساسي للتعلم, لكني لا اذكر اني سمعت تلك النصيحة مرة واحدة في حياتي, كما اني لم ار احد اصدقائي أو زملائي في معهد الفنون الجميلة في المنصور يفعل ذلك! كم دفعنا جميعاً ثمن هذا الخطأ؟

واليوم اجد آثار تلك الثغرة العراقية بأمتياز (ولعلها العربية بأمتياز ايضاً) في معظم من اصادفهم من الناس. فصديقي عازف العود الممتاز لم يتعلم الى اليوم قراءة النوتة, ولا يعرف اهمية البعد الموسيقي الخامس, رغم انه كان يمكن ان يفعل ذلك في بضعة ساعات من الاف الساعات التي قضاها يعزف عوده.

إنه استعجال الإنتاج وقطف الثمر قبل اوانه. انه استعجال الإستعراضية المهدئة للمقالق في قيمة الفرد الشخصية, فهو بالتالي رد فعل لهجوم مجتمع عدائي على شخصية الفرد فيه.

إن انتقلنا الى السياسة فلن يفشل المراقب في رؤية ملامح ثغرة الدرس الأول على السياسيين العراقيين اليوم. فتجد فلاناً قد قضى عمره في السياسة والنضال لكنه لم يقرأ كتاباً واحداً, وربما ولا مقالة واحدة عن اسس التفاوض, او يقود حزباً في الأنتخابات دون ان يقرأ كتاباً عن فن الإلقاء.

كذلك اراهن ان القليل فقط قد قرأ كتاباً عن تأريخ اميركا الحديث وتحليلاته ليتفهم طبيعة هذا العملاق الخطير الذي يشاركه فراشه. انه يكتفي بالفكرة العامة التي تصله بشكل ما, ويصبح اما مؤيداً متحمساً او معارضاً متحمساً او لا ابالياً, وفي كل الحالات لا يمتلك اسباباً محددة تعطيه رؤية تعينه في تفسير التفاصيل الكثيرة لهذه الشراكة الإجبارية و المرونة لموقفه وتزيد قدرته على الحركة دون ان يفقد الإتجاه.

رغم كل شيء, يبقى مناسباً لكل منا, حين يلاحظ "ثغرة الدرس الأول" تعرقل حياته وعمله وسعادته ان يسارع لملئها وأن لا يستحي أن يكون الوقت قد تأخر, فدرس متأخر خير من ثغرة دائمة, وأن لاينصت للمثل الساخر القائل " بعدما شاب ودوه للكتاب", وان يكون لديه ما يكفي من الشجاعة والتواضع للعودة الى مقعد الدرس.

في هولندا دخلت دورة ابتدائية في التنس, فتعلمت خلال شهرين ما ادهشني, وجعلني اتساءل لم قضيت اعاني بسبب ضربات خاطئة. لكن ان كان النقص في دروس التنس اورثني الكثير من المعاناة والام الرسغ والكتف, فأن تلك الثغرة في سياسي يقود البلاد يمكن ان تسبب خسائر فادحة لخمسة وعشرين مليون انسان في حالة العراق, واكثر منها او اقل في البلدان الأخرى. لذا فالسياسي مدعو قبل غيره أن يبحث في نفسه عن تلك الثغرات لسدها, وبكل تواضع!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي تداعيات إبطال محكمة العدل الأوروبية اتفاقيين تجاريين م


.. إسرائيل تستعد لشن هجوم -قوي وكبير- على إيران.. هل تستهدف الم




.. واشنطن بوست: تساؤلات بشأن مدى تضرر القواعد العسكرية الإسرائي


.. مسيرات تجوب مدنا يابانية تنديدا بالعدوان الإسرائيلي على غزة




.. رقعة | كيف أبدل إعصار هيلين ملامح بلدات نورث كارولينا في أمر