الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحديثة.. تشيد مجدها مُقايَضةً بالدّم

سلام فواز العبيدي

2017 / 9 / 5
الثورات والانتفاضات الجماهيرية



حرصت كثيرا ومنذ فترة على توثيق أوضاع مدينة (الحديثة) الصامدة رغم جراحها والتوترات السائدة فيها وفي المدن المجاورة لها, فقد استعصت هي الوحيدة على عصابات داعش وجرائمها، وصمدت بتعاضد أهلها وباستنهاض الطاقات البشرية فيها بوتيرة تنفرد فيها عن باقي مدن الأنبار الأخرى التي اجتاحتها العصابات الغازية بوحشية حتى دنّست الأرض وأرهبت العوائل وأشاعت العبث والتخريب والقتل وأحرقت الأخضر واليابس وانتهكت المقدسات بأبشع الأساليب. عند زيارتي إلى ناحية البغدادي نضجت عندي فكرة القيام بزيارة خاصة إلى (الحديثة) ذاتها بهدف استكشاف خفايا وأسرار وأبعاد هذا الصمود البطولي الذائع والرائع في الذود عن كل شبر من هذه المدينة الواسعة نسبيا، وفعلاً تحقّقت الزيارة وتكلّلت بنجاح باهر يوم 15/8/2017 بدعم مباشر من بعض الأصدقاء وأخصّ منهم (قاسم نويران) والصديق العزيز (سهيل العوّادي) الذي اقلّنا بسيارته الخاصة مجتازاً بنا السيطرات الأمنية على الطريق المؤدية إلى المدينة، فقد تعامل (العوّادي) بلطف مع المسائلات الأمنية بموجب معرفة سابقة وثقة متبادلة فتمّ الأمر من دون عراقيل. وصلنا بيت الأستاذ (محمود دللي آل جعفر) حيث نقصد، فوجدنا الرجل يتميز بكونه باحثاً وأديباً ومحامياً لبقاً وثرياً باللغة الأدبية ومفردات التواصل المهذّب البليغ، وله روحية منفتحة بالأصالة الفكرية والرقي الثقافي وطيبة المعشر، حقاً كان لولباً في الحركة وكنزاً بالمعلومات المؤكدة عن تاريخ مدن الأنبار عامة وتضاريسها وسمات أهلها، كان مفعماً بالبشاشة, كريماً بعبارات الترحيب, وما أن قُذفت نحوَه أسئلة زائريه حتى تدفقت منه الإجابات بتفاصيلها الموثقة في الذاكرة. ولقد رافقني في زيارتي هذه ابنُ أخي (فهد) المتلهّف بتوجيه الأسئلة والمتطلّع لدقة الإجابات والمتحرّي لتفاصيلها. بدأ حديث الأستاذ (محمود) بعد تلقّيه لأول سؤال باهتمام وهو يستجمع خلاصات معلوماته، يستلّها من أرشيف ذاكرته الحافلة بحيثيات المنطقة من تواريخ ومعالم وذكريات لم تزل في تخيّلاته اليقظة ودشّن حديثه قائلاً: (إنّ كلمة حديثة أصلها (نوكرد) أي (المدينة الحديثة) بالفارسي, وقد سُمّيت (الحديثة) بأسماء متعددة منها (حديثة الفرات) تمييزاّ لها عن حديثة دجلة قرب الموصل, وكذلك سُمّيت (حديثة النورة) ويقال لأنها بنيت بمادة النورة (الكلس), وسُمّيت (حديثة عنة) كونها كانت تابعةً إدارياً إلى قضاء عنة وتمييزاً لها أيضا عن حديثة جرش في سوريا, وأصل الاسم (الحديثة) -على الراجح- أن قادة الجيش الإسلامي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) جاءوا لفتح هذه المدن إلى مدينة الرحبة في الشام وعندما دخلها القادة كانت هذه المدن محتلةً من قبل الفرس والرومان ولهذا

وردت أسماء قرى في هذه المناطق ذات أصول فارسية ورومانية، فعندما سأل القائد الإسلامي عن اسم هذه المدينة إي (حديثة) قيل له إن اسمها (نوكرد) فقال:- سمّوها بمعناها.. إي المدينة الحديثة وهكذا سُمّيت (الحديثة).
المدن التابعة إلى الحديثة :-
أصل (الحديثة) جزيرة وسط الفرات أو ما يُسمى محلياً بالحويجة، والحويجة بالأصل هي (الحويقة) من كونها وسط الماء إي أن الماء يُحيط بها من جميع الجهات، كما جاء في القرآن الكريم ( ..ولا يحيقُ المكرُ السيئُ إلا بأهله.. ) أي..يحيط.
إذن هي بالأساس جزيرة وسط الماء ولها شبيهات مثل (آلوس) و(جبّة) و(ناوسة) قرب ناحية البغدادي وكذلك جزيرة (الحضرة) التي هي أصل (عنة). وتتبع لـ(الحديثة) مجموعة قرى على جانبي نهر الفرات (الشامية) نسبة الى جهة الشام, و(الجزيرة) نسبة الى جزيرة بن عمر الواقعة بين دجلة والفرات. ففي جانب الجزيرة هناك ناحية (بروانة) وكان اسمها بالأصل (ابو وانة) بالفارسي, وهناك أيضا قرى بأسماء أرامية مثل (بشنّة) وغيرها، وتتكرر هذه الأسماء في الجانب الشامي أيضاً إضافة إلى أسماء قرى عربية مثل (بني حارث) و(بني سعيد) و(أبو سلام) و(أبو زكة), والآن تتبع ل(حديثة) ناحيتان, هما ناحية الحقلانية (نسبة الى وادي حقلان وفيه ينابيع مياه معدنية) وناحية بروانة، وأصل كلمات (حقلان) و(زغدان) و(حوران) هي الحقلنة و الزغدنة والحورنة وهي ما يوصف به التدفق الهائج لسيول الأمطار في هذه الأودية.
ومن القصبات (الخسفة) التي غالب سكانها هم الجغايفة, سكنوها بعد أن غمرت مياه حوض سد حديثة الكثير من القرى, وقد بُنيت لهذه العشائر التي ذهبت قُراها مثل الغرير والمعاضيد والراوييّن والجواعنة أحياء سكنيّة أطلق عليها (مجمّعات) مثل (مجمّع السكران) يسكنه الغرير, يقابله (مجمّع قرية العطاء) ويسكنه الزاويّون والجواعنة, ويتبعان ناحية بروانة، وهناك مجمّعات اخرى في الجانب الشامي المقابل مثل (الصَكرة) يسكنه المعاضيد, و(الرّيحانة) يسكنه الجغايفة والبو محل ويتبعان قضاء عنة. أما (آلوس) فهي جزيرة وسط الفرات تتبع لها قرى سنجق البوحيات, وتتبع إدارياً ناحية الحقلانية. ومن الجدير بالذكر أن الجزر الثلاث ( الحديثة ) و(آلوس) و(جبّة) كانت مهداً للحضارة, ومنها تخرّج كثيرٌ من العلماء الذين حملوا لقب ألحديثي والآلوسي والجبّاوي وتعني لفظة (جبّة) المنخفض..القريب من معنى (الجب) أي..البئر.
تسكن (حويجة) حديثة عدة بيوتات يطلق عليها اليوم اسم (العشائر) وهي خليط من عشائر شمّر مثل (آل جعفر) وبيوتات الأغَوات (البيّات) وقسم من الموالي وأخرى من عنزة وبيوتات أخرى من السادة الرفاعية وهي (آل خليفة) و(آل ملّا عبد الله) وكيلانية مثل بيت (قرقاش) وبيوتات أخرى عبيدّيه مثل (حسيّن) وبيوتات صغيرة أخرى. هذه لمحة بسيطة كون هذه الجزيرة ومنذ القدم سكنتها اسر وبيوتات قديمة منها من اندثرت ومنها من انتقلت الى مناطق أخرى جرّاء الحروب والصراعات التي تعرضت لها المنطقة ومنها ما زالت تسكن هذه الجزيرة الى يومنا هذا. وفيما يخص سد حديثة فقد بدأ العمل فيه في سبعينات القرن الماضي كدراسة أولية ومشروع عمل, ثم بوشر العمل فيه بعد هجرة سكان القرى التي غمرتها المياه بدءاً من حديثة وقضاء عنة وراوة وقُراهما, واُنجز العمل فيه سنة 1986.
وبعد سقوط نظام بغداد سنة 2003 حصلت حوادث مريعة وقصص مأساوية في هذه المناطق مرة على يد تنظيم (القاعدة) وأخرى تلتها على يد عصابات (داعش) مما أدى إلى هجرة الكثير من سكان هذه المناطق لفترة معينة, بخلاف قضاء حديثة لم يعاني الهجرة كما حصل في هيت والرمادي وعنة وراوة والفلوجة ومناطق اخرى. وكان لوجود السد المحميّ من قبل الأمريكان الذين قدّموا العون لعشائر هذه المنطقة ثم لبسالة هذه العشائر الدور الكبير في حمايتها والدفاع عنها ضد المخاطر القادمة من الشرق والغرب, بل إنها (أي الحديثة) تعرّضت لهجمات (الدواعش) من كافة الجهات فكانوا يهاجمونها من جهة عنة وراوة في الغرب, ومن بيجي من الشرق, و صحراء الجزيرة, وقسم آخر يأتي إليها من الجنوب حيث تعرّضت آلوس والبحيات وقراها على الجانبين الشامي والجزيري الى هجوم القادمين من هيت وتوابعها وعلى الجانبين، وكانت ابرز العشائر التي دافعت عن حديثة هي عشيرة الجغايفة, وكانت عشيرة البونمر قد دافعت عن بروانة في الجانب الجزيري كون بعضٌ من هذه العشيرة يسكنون بروانة مع عشائر أخرى لكنهم الأبرز وقدموا شهداء بأعداد كبيرة.
كان خطباء الجوامع في خطبهم وأحاديثهم يدعون للدفاع عن المدينة وحثّ العشائر للتوحّد لصدّ العصابات الغازية الذين حاولوا عدة مرات دخول المدينة من جميع الجهات لكنهم فشلوا في النهاية، وكانت السواتر مصانة بقوة المدافعين من كافة الجهات واشتركت مع العشائر قوى دفاعية من الجيش والقوى الأمنية الأخرى وكان الدفاع الأهم عن سد حديثة لخطورته ثم عن محطة k.3)) النفطية كونها إحدى محطات أنابيب نقل النفط المهمة, ولوجود السد والمحطة النفطية فقد اهتمّت الحكومة المركزية بالدفاع عن حديثة بكل إمكانياتها العسكرية.
وفي فترات معينة تعرّضت المدينة لأقسى أشكال الحصار الذي مُنعت فيه كل أنواع المساعدات والإعانات من دخول المدينة ومن كل الجهات وعدم السماح لدخول البضائع الضرورية إلى حديثة مما عرّضها إلى شحّة المواد بدرجة القحط وبلغت الأسعار مستوى الجنون, وأمثلة على ذلك سعر كيلو اللحم (50) ألف دينار, وكيلو البصل (25) إلف دينار, كيس الطحين وصل سعره إلى المليون دينار, أما عن الوقود فقد بلغ سعر اللتر الواحد من مادة البنزين (35) ألف دينار وكانت المفارقة أن المستفيد من هذا الحصار هي قوى الأمن والجيش وبالمشاركة مع بعض المنحرفين المستفيدين من أبناء العشائر ممن يطلق عليهم (تجّار السوق السوداء). كانت المساعدات تُرسل إلى حديثة من جماعات خيريّة في بغداد إضافةً إلى ما ترسله الحكومة من مواد أخرى بطرق معينة لا تخلو من مخاطرة لكن المواطن الاعتيادي لا تصله سوى الكميات القليلة والنوعيات المحدودة وكان النصيب الأكبر يذهب إلى جيوب المتنفذين في المدينة كونهم هم من يرأس ويدير الجهات الأمنية في المنطقة والأغلبية عانت العوز والمجاعة لعدم وصول أي شيء يذكر، لقد عانت المدينة من حالات سلب ونهب واستغلال عشائري بدرجة فضيعة حتى أدرك المواطن الأساسي وتخلّى عن أولويات الاهتمام فقرر السكوت عن نقد الانفلات وكثرة السرقات وما يجري من تجاوزات وتمسّكوا بالدفاع عن المدينة والمرابطة من قبل الأبناء والآباء وحتى النساء عند السواتر دفاعا عن حياة مدينتهم ووجدوا في ذلك طريقا أجدى وأولى من الالتهاء في الحديث عن السرقات والسلب والحصار الاقتصادي، كانت الإشاعات السيئة تأتي من إعلام حاقد وحاسد كون حديثة كانت الوحيدة العصية بوجه (الدواعش) ومحاولاتهم لاختراقها فقد كانت صامدة وتحرز الانتصارات ولم تسقط وصارت بحق مأثرةً تتغنّى بها الأجيال على مدى تاريخ مدينتهم. ومن جملة الإجابات التي أتحفنا بها السيد (محمود) أن ظروف المدينة لا تزال سائرة باتجاه التحسّن بالنسبة للخدمات البلدية واستقرار الأسعار وأن المدينة بالأساس لم تفرط بالمؤسسات الرسمية والوثائق الحكومية واخذ الاهتمام الآن يتركز على إجراءات أمنية صارمة إزاء المشبوهين وحواضن داعش وخلاياهم النائمة بإجراءات ثورّية رافضة للمجاملات الساذجة والدفاع العاطفي. هذه إحدى وسائل وأساليب تجربة (الحديثة) في توطيد الحياة فيها ودحر أطماع الأعداء وتلقينهم الدروس القاسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ا?ستاذ بجامعة سان فرانسيسكو: معظم المتظاهرين في الجامعات الا


.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR




.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي


.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه




.. الاعتداء على أحد المتظاهرين خلال فض اعتصام كاليفورنيا في أمر