الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن ملوك أمريكا

صبحي حديدي

2006 / 2 / 14
الادب والفن


تناقلت وكالات الأنباء وعشرات المواقع على الإنترنيت خبر وفاة طبيب الأسنان الأمريكي ليستر هوفمان، الشهير في بلاده لأسباب لا تتصل البتة بإنجازاته في حقل اختصاصه، بل لأنه ببساطة كان آخر غريب وقعت عيناه على المغنّي الأمريكي الراحل إلفيس بريسلي (1935ـ1977)، النجم الأشهر في موسيقى «الروك أند رول»، والأيقونة الكبرى لأجيال وأجيال، «الملك» تارة، و«ملك الملوك» طوراً. ففي ليلة 15/16 آب (أغسطس) 1977 زار بريسلي عيادة هوفمان، حيث قام الأخير بتنظيف اثنين من أسنان "الملك" وحشو نخر واحد، فدخل التاريخ من هذا الباب وحده! ذلك لأنّ النجم عاد إلى بيته تلك الليلة ولم يخرج منه إلا في الكفن، إذْ عُثر عليه في اليوم التالي جثة هامدة، ملقى على أرض الحمام إثر تناوله جرعة عالية قاتلة من المخدرات. أمّا الأشهر من هوفمان في هذا الميدان فهي جنجر ألدمان، صديقة الملك التي كانت في فراشه حتى ربع الساعة الأخير قبيل انتحاره.
هذا التفصيل، وسواه عشرات التفاصيل الأخرى ذات المحتوى المماثل، يندرج في "الهستيريا البريسلية"، أو ذلك الهوس الجَمْعي الذي استولى ويظلّ يستولي على مخيال شعبي واسع عريض في الولايات المتحدة وخارجها، رغم انقضاء قرابة ثلاثة عقود على رحيل النجم. وفي كلّ 15 آب من كلّ سنة، خصوصاً إذا تصادف هذا التاريخ ذاته مع ذكرى عاشرة أو عشرين أو خمس وعشرين، يتعيّن على قاطني مدينة ممفيس أن يعيشوا حال اغتراب تامّ عن مدينتهم العزيزة، ولا يكون في وسع الكثيرين منهم أن يجزموا على وجه اليقين ما إذا كانت ممفيس في أيام ذكرى "الملك" هي ذاتها ممفيس المالوفة: القديمة، الجنوبية بامتياز، النمطية، التي يستحيل في حالات أخرى الخلط بينها وبين أية مدينة أمريكية أخرى.
وإذا كانت المدينة قد تعوّدت على هذا الحجيج السنوي الذي ينطوي على توافد عشرات الآلاف من عشّاق "الملك"، بل وأحسنت وفادته لأسباب تجارية وسياحية قبل الأسباب الثقافية، فإنّ الأمر أحياناً يبلغ مستوى استثنائياً بالفعل. في آخر احتفالية أحصى أحد مواطني ممفيس أكثر من 90 فريق تلفزة من أمريكا والعالم، وأخذه العجب الشديد إذ شاهد المعدّات المعقدة التي ستتولى النقل الحيّ لوقائع الحجّ والحجيج، فتساءل: «هل اختاروا ممفيس لتنظيم الألعاب الأولمبية»؟ أستاذ اللغة الإنكليزية في إحدى مدارس المدينة قرر التواري عن أنظار تلامذته طيلة أيام الإحتفال لأنه كان أعجز من أن يفسّر لهم القاعدة اللغوية وراء نحت كلمات إنكليزية جديدة عجيبة، من نوع Elvisness مثلاً! وفي الشوارع والفنادق والبارات تحتشد عشرات الوفود القادمة من أربع رياح الأرض، وتتنفنّن «أطقم إلفسية» في إدخال عشرات التنويعات على ملامح الملك، فتحتفظ ببضع معطيات كلاسيكية معروفة (الشعر الأسود، الغرّة الناتئة، الياقة العريضة، السترة الجلدية)، ولكنها تضفي أيضاً بعض الخصائص «الوطنية» للبلد الذي يجيء منه الطاقم: هذا إلفيس ألماني، وذاك إلفيس أسترالي، والثالث ياباني...
وبالطبع، هنالك أشغال وأعمال وتجارة و"بزنس" كامل، بمئات الملايين من الدولارات، خلف هذا الهوس وتلك الذكرى وذاك الحجيج. الشركة التي تحتكر إنتاج أو ترخيص مختلف أنواع البضائع المعتمدة على شخصية الملك تدعىElvis Presley Enterprise، وتديرها أرملته بريسيلا وابنته الوحيدة ليزا ماري. رقم الأرباح تجاوز الـ 100 مليون دولار منذ الذكرى العشرين، والمنتوجات يمكن أن تكون أي شيء يخطر على البال: ثياب، طعام، أدوات منزلية، تماثيل، عطور، مداليات...
وليس الأمر أن "الملك" لا يستحقّ التكريم، خصوصاً وأنه جمع في شخصيته بين ضمير الأمريكي الجنوبي الأبيض وضمير الأمريكي الجنوبي الأسود، بين موسيقى البيض وإيقاعات السود، بين الفقر المدقع والثراء الفاحش، وبين البوهيمية القصوى ومنتهى التفاني في الإخلاص لفكرة العائلة. المسألة أن هذا التكريم السنوي انقلب إلى ما يشبه الطقس الشعائري المحموم الذي يحتفل بموت مقدّس أكثر مما يتذكّر عبقرية إنسانية بشرية من لحم ودم. «في السنوات القادمة سوف يصبح الإعجاب بإلفيس ديانة مستقلة لأن عشاقه سيحوّلونه إلى مسيح رمزي، وستصبح غريسلاند [مزرعة بريسلي التي انقلبت إلى متحف خاصّ به] بمثابة بيت لحم ثانية»، تتنبأ بيكي يانسي التي عملت سكرتيرة شخصية للملك طيلة سنوات عديدة. تقول ذلك وتبكي بحزن صادق، لأنها بين قلة قليلة اختبرت عن كثب تلك الجوانب الآدمية الإنسانية في شخصية بريسلي: نجاحاته وإخفاقاته، أفراحه وأتراحه، قوّته وضعفه.
غير بعيد عن آلاف الشموع المضاءة على ضريح الملك، الأقرب إلى مذبح في الواقع، يحدث عادة أن يجتمع أكاديميون كهول رصينون في أروقة جامعة مسيسيبي، لإحياء ذكرى ابن بارّ آخر من أبناء مدينة ممفيس، هو الروائي الأمريكي الكبير وليم فوكنر (1897ـ1962). وذات يوم، في عام 1997، شاءت المصادفة القاسية أن تتزامن الذكرى العشرون لوفاة "الملك" مع الذكرى المئوية لولادة فوكنر، فطغت الذكرى الأولى على الثانية، وكادت أن تطمسها تماماً. وهكذا لم يجد الأكاديميون بدّاً من إجراء مصالحة من نوع ما، فأدخلوا تعديلاً جذرياً على برنامج أنشطتهم، وخصصوا خمس حلقات دراسية تحت عنوان: «فوكنر، بريسلي، والهوّية الجنوبية: دراسات مقارنة»!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد خير الجراح ضيف صباح العربية


.. أفلام مهرجان سينما-فلسطين في باريس، تتناول قضايا الذاكرة وال




.. الفنان محمد الجراح: هدفي من أغنية الأكلات الحلبية هو توثيق ه


.. الفنان محمد الجراح يرد على منتقديه بسبب اتجاهه للغناء بعد دو




.. بأغنية -بلوك-.. دخول مفرح للفنان محمد الجراح في فقرة صباح ال