الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لروح الشهيد الخالد - عماد الدين سليم الجراح -

عامر الدلوي

2017 / 9 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


تصل بيتك صبيحة هذا اليوم من عائدا ًمن جبهات القتال في العمارة " الفكه / الطيب / أبو غرب " لتلك الحرب الكافرة التي أطال أمدها " مغفلين " أثنين حسب تفكيرك الساذج أنت و من تنتمي إليهم فكرا ً و عقيدة , لكن الوقائع أثبت بعد إنتهائها أن هذين " المغفلين " لم يكونا سوى بيدقين يحركهما أسيادهما كيفما شاؤوا , هذه الحرب الكافرة التي أتت على خيرات و مقدرات شعبين كانا يعيشان بوئام وسلام رغم تباين الأنظمة الحاكمة لعشرات السنين لتزرع بديلا ً عنها هذه الحقول الكبيرة من الحقد و الكراهية بينهما.
تصله مجازا ً لمدة أسبوع تستعيد فيه أنفاسك و تجدد نشاطاتك الحيوية لتعود بعدها لشهر جديد من تلك الجولات القذرة التي ما تخلف من نتائج سوى الجثث الممزقة و سيول في الدماء يخلفها كل هجوم أو تعرض أصغر منه من شبيبة الجانبين و التي تجاوزت أرقاما ً فلكية في مجملها من القتلى و الجرحى و المعوقين .
تستقبلك الزوجة بفرح شديد نتيجة لخروجك سالما ً من تعرض قام به اللواء الذي تعمل فيه على تلة صغيرة سبق و أن أحتلتها القوات الأيرانية على مشارف الطريق المؤدي إلى منطقة المقالع في ناحية الطيب و الذي ذهب قربانا ً له و لمطامع آمر اللواء بالتكريم من قبل " المغفل الأكبر " الفوج الثاني من اللواء الذي خرج من الخدمة و كان أفراده قد توزعوا بين قتيل و جريح .
تسألها و أنتما تعيشان في ذلك البيت الواقع في مدينة تقع جنوب غرب بغداد بمسافة 55 كم تقريبا ً منذ ثلاث سنوات بعد أن صدر أمر نقلها هناك ضمن مشروع التدرج الطبي :
- ما هو برنامجنا لقضاء الإجازة ؟ هل سنأخذ الأولاد إلى مدينة الألعاب و منتزه الزوراء حيث حديقة الحيوانات ؟ كيف حال أهلك في بغداد و هل أتصلت بهم هذه الأيام ؟
- بالتأكيد سنتفرغ يوما ً منها لفسحة الأولاد و الأهل لم أتصل بهم منذ 5 أيام .. حاول أنت الإتصال بينما أعد شيئا ً للغذاء .. لنعرف أخبارهم و مشاريعهم لعطلة نهاية الأسبوع .
- ماشي عزيزتي .
تزول الرقم ويبدأ الرنين هناك في البيت الكبير في بغداد و يأتي صوت " ص " أخيها الأكبر من هناك :
- ألو ... ألو ...نعم
- ما لصوتك يا أخي قد تغير .. هل أنت مريض ؟
- أوه ... هذا أنت .. متى وصلت .. كيف علمت .. و هل بلغوك هناك ؟
- لا تقلقني رجاء ً ... ما هذه الأسئلة .. وعماذا يبلغوني ؟ أنا وصلت في إجازتي الدورية .
- إسمع لا تخبرها بشيء , و إذا أردت ذلك فبتروي , أنا عدت للتو من مديرية أمن القناة وقد بلغوني بأن نكون عند بوابة سجن " ابي غريب " في الساعة السادسة مساء ً لإستلام جثة " عماد " لقد أعدموه شنقا ً بموجب حكم صادر من " محكمة الثورة " .
- طيب لا تفعل أي شيء لحين قدومنا .
كانت الساعة قد إقتربت من الثانية ظهرا ً عندما سمعت صرختها و هي تهوي إلى الأرض منتحبة ً بصوت مكتوم و هي تبكي بصوت متهدج خافت خوفا ً من أن يسمع صوتها خارج البيت : أخي .. أخي ... فيما بدا أنها قد أستمعت للحديث الذي دار بيننا .
أتصلت بأحد الأصدقاء من العاملين على خط بغداد بسيارته " الكراون " ليأتينا للبيت ويأخذنا إلى بغداد .. و كان لا بد من إختراع قصة لها الذهاب المستعجل إذا ما رأنا في وضعنا ذاك , و لأنه كان صديقا ً مقربا ً و كنا نتوقع سؤاله , لذا أقنعناه بكون أن أحدى قريباتنا ظهرت نتائج دراستها و كانت غير موفقة في النجاح و حاولت الإنتحار و هي في المستشفى الآن حالتها حرجة و نريد زيارتها , ظل الرجل طول الطريق يحوقل و هو يسمع نحيب " الدكتورة " تسميته و تسمية أبناء المدينة المحببة لقلوبهم .
قرابة الثالثة كنا في البيت الكبير وقد أجتمعت العائلة كلها تقريبا ً , كنت أتحدث بحكم العارف بما يجري من أمور سواء في الطب العدلي أو في السجن حسب ما توفر لي من معلومات عن طريق أحد الأصدقاء من أهالي " كركوك " عندما كنت أعمل هناك عامي 1979 / 1980 وكان سائق تاكسي يذهب لإستلام جثث المعدومين من أهالي منطقة تسن " تسعين بتسميتها العربية " ذهب هو الآخر شهيدا ً بحكم الإعدام في العام 1984 .
قلت سوف لن نأخذ أي شيء معنا لا صندوق و لا حبال لأن " عبد الأمير " أخبرني بأنه كان يتعرض للسب و الشتم عندما يذهب مصطحبا ً صندوق و حبال للربط على السيارة من قبل أزلام النظام من رجال الأمن المنتدبين للعمل في الطب العدلي لتسليم جثث المعدومين قائلين بالحرف الواحد :
- لك حيوان نحن ما دورنا هنا ؟ أولسنا هنا لنرتزق من وراء التسليم ؟ نحن نبيع الصندوق بأربعين دينارا ً و الحبل بعشرة دنانير سنأخذها منك هذه المرة و نسامحك . و لكن في المرة القادمة سنقتلك و نرسلك إلى أهلك في الصندوق الذي تأتي به معك .
في تمام السادسة مساء ً كنا عند بوابة السجن الرئيسية الواقعة على طريق أبي غريب – فلوجة عند ناحية الزيدان , كنا خمسة أفراد , ثلاثة من أخوانه و أنا و عديلي الأكبر , بسارتين الأولى بيك آب تعود لأخيه الكبير و المرسيدس العائدة لعديلي , ذهب أخيه الأكبر إلى الإستعلامات :
- تفضل أخي , ماذا تريد ؟
- أنا مبلغ من قبل مديرية أمن القناة بالحضور في السادسة مساء ً لإستلام جثمان أخي المعدوم .
- إرجع إلى مكانك و أنتظر , سنتصل بالداخل و نناديكم .
إنتظرنا و الساعات تمر , قاربت التاسعة مساء ً عندما ذهب إليهم مرة أخرى تحت إلحاحنا , و عاد ليخبرنا إعتذارهم لأن الجماعة في الداخل كانوا يتناولون وجبة العشاء و الآن يشربون الشاي و عندما ينتهون سينادون علينا , و لإستغلال الوقت رحت أكلمهم عن قرار الحكم بأنشاء بنك العيون و كيف أن أحد مصادر البنك غير الموتى من المتبرعين هو عيون المحكومين بالإعدام , لذا طلبت منهم أن أدخل أنا في الإستلام حتى لا يضعف أحدهم عند مشاهدة الجثمان .
الجميع رفضوا دخولي معللين بذلك أنهم سيطلبون منا الهويات و إذا ما عرفوا بأنك عسكري فسيكون في ذلك خطر على حياتك , رضخت لطلبهم , وصار الأمر أن يدخل الأخوين الأكبر و الأصغر منه و نبقى نحن الثلاثة بالإنتظار , و مرت الساعات وعندما قاربت الثانية عشرة ليلا ً و هم مستمرون في إذلالنا نادوا علينا أن تعالوا , ذهب الأخوين ليعودا بعد دقائق و قد خاضا الحوار التالي :
- هل جئتم هكذا بدون صندوق ؟
- لقد قيل لنا بأن السجن يوفر الصندوق لذلك لم نأتي بواحد معنا .
- ولكن هذا غير صحيح و غير جائز أن تأخذوه بدون صندوق .
- و مالعمل الآن ؟
- بدلا ً من عودتكم إلى بغداد إذهبوا إلى الجامع في المقبرة و إجلبوا صندوقا ً بعد أن تدفعوا التأمينات لشيخ الجامع فيكون ذلك اسهل لكم .
ذهبنا أنا و أخيه الأكبر بالبيك آب لجلب الصندوق و كانت الساعة قد شارفت الواحدة ليلا ً , عندما رنيت جرس بيت الشيخ الملاصق للجامع , خرج الرجل و بعد السلام عليه قلت له :
- شيخنا نحن بحاجة لصندوق لإستلام جثة .
- من أي مستشفى ستستلمها ؟
- من الزيدان يا مولانا , وهذه التأمينات .
- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , خذ الصندوق يا ولدي , وضع فلوسك في جيبك , و ارجو أن تنقل وصيتي لذويك , حذار من الإنفعال و التحدث بكلام غير لائق , لأن أخيكم قد مضى في حال سبيله و هذا قدره , ولكن حافظوا على أنفسكم قدر الإمكان . و أنا سأخبر الدفان بحفر القبر بمكان جيد .
لا أدري هل لأن الرجل كما يبدو قد مر بتجارب كثيرة سبقتنا , أستطاع أن يعرف الموضوع بمجرد ذكر كلمة " الزيدان " أمامه ليعرف أنني كنت أعني السجن المشؤوم , قفلنا عائدين وقد نقلت توصية الشيخ لهم , ليدخل بعدها الأخوين ولا يخرجا إلا قرابة الثالثة فجرا ً , و كان أول ما لاحظت بروز اليد اليمنى للشهيد من الصندوق متجهة ً إلى أعلى بوضع معقوف , جلست في البيك عند الصندوق ملامسا ً يده فإذا هي متجمدة تسائلت :
- مالأمر ؟
- إنه أعدم يوم في اليوم العاشر من الشهر و قد حفظو جثته في البراد , سأحدثك بالتفاصيل حالما نبتعد عن السجن و في المقبرة .
كان هذا جواب الأخ الذي دخل مع الأكبر لجلب الجثمان . و عندما أبتعدنا قليلا ً أبتدأ بالحديث :
" عندما دخلنا إلى مكتب التسليم لاحظت وجود قضيب معدني مدبب الرأس بطول مسطرة تقريبا ً و قطر 5 ملم و قد مررت به العشرات لا بل المئات من شهادات الوفيات و التي أخذت منهم وقتا ً طويلا ً ليتم العثور على الشهادة الخاصة بالشهيد , وطلبوا إن يذهب واحد منا فقط معهم للتعرف على الشهيد بعد أن استدعوا شخصين متقدمين بالعمر من قسم الأحكام الطويلة ليصحبانا إلى البراد , فإذا به جملون كبير ما أن فتحت أبوابه حتى كنت أمام منظر تقشعر له الأبدان , مئات الجثث ملقية الواحدة فوق الأخرى تذكرت حينها صناديق السمك البحري الذي كانت توزعه " المبايعات الحكومية " على وكلائها لبيعه للمواطنين , أعطى مسؤول المكتب الرجلين أرقاما معينة للرجلين و طلب منهما البحث عن حاملها , ليعودا بعد جولة قصيرة قضياها بالسير فوق الجثث , بجثتين ملتصقتين ببعضهما , وبنفس الطريقة التي كان الوكيل يفرق بها السمك عند التوزيع , حمل الرجلين الجثتين قليلا ً عن الأرض و ألقيا بهما عليها , ليفتحا أحدهما عن الأخرى , تعرفت على الشهيد و أستلمت شهادة الوفاة و جئناكم , هذا مختصر مفيد " .
عندما وصلنا المقبرة وجدت الشيخ بالأنتظار قائلا ً :
- لقد أوصيت الدفان بأن يختار مكانا جيدا ً ليحفر له قبراً فكان أن حفر له بين شهيدين من شهداء الحرب في المجموعة 19 , و أرجوا الله أن يتقبله و يحفظكم جميعا ً من كل سوء .
كان الدفان مصري الجنسية و كان هو من يقوم بالتغسيل و التكفين وقد دخلت معه أساعده فإذا بي أمام منظر تشيب له الولدان حال نزعنا لملابسه , ثمة أربعة مكانات في ظهره كان واضحا ً فيها اثر الحروق الناجمة عن استعمال النار في التعذيب " لحام الأوكسي أستيلين " أما ركبته اليمنى فكانت مفتحوة و أثار تهرء واضحة في المنطقة المحيطة بها , كنت قد وضعت صنبور الماء الساخن على يده المتجمدة قرابة نصف ساعة قبل أن نتمكن من إلانتها نوعا ً ما حتى تطوى على جسده عند التكفين . وعندما هممت بتقبيل جبينه رافعا رأسه بيدي إذا بيدي تغور في كسر بالجمجمة , الأمر الذي تطلب من المصري إعادة غسل الرأس بعد أن لاحظت خروج ألياف قطن من عينيه , فإذا بهم و لشدة زحمة الإعدامات في ذلك اليوم قد وضعوا عدستين مختلفتين في اللون في محجر العينين التي كما أسلفت , يبدو إنها أخذت إلى بنك العيون , الأمر الذي صرت موقنا ً منه أن الشهيد قد نفذ به الحكم بعد أن قتلوه أو كان في نزعه الأخير جراء التعذيب .
في تمام الرابعة و النصف صباحا كانت عملية الزفاف قد تمت , و حال عودتنا إلى البيت تفاجئنا بأن السادة قد زاروا البيت و فتحوا جهاز التلفون ليرفعوا منه الحاكية فقط , بعد أن كانوا قد بلغوا الأخ الأكبر مسبقا ًبأن الإستلام يتضمن الذهاب به مباشرة إلى المقبرة و عدم جلبه إلى البيت و عدم إقامة مراسم العزاء أو البكاء حتى في البيت , و لثلاث ايام أعقبت ذلك كان التلفون يرن كل نصف ساعة و عندما نرفعه لا أحد يتكلم , كانوا ينصتون فقط ليعرفوا أن لا أحد منا يبكي أو حتى " يقرأ قرآن و فاتحة لروح الشهيد . في اليوم الرابع شرفونا بزيارة أخرى ليعيدوا ربط الحاكية التي كانوا قد أخذوها معهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكسيوس: الولايات المتحدة علّقت شحنة ذخيرة موجهة لإسرائيل


.. مواجهات بين قوات الاحتلال وشبان فلسطينيين أثناء اقتحامهم بيت




.. مراسل الجزيرة: قوات الاحتلال تقوم بتجريف البنية التحتية في م


.. إدارة جامعة تورنتو الكندية تبلغ المعتصمين بأن المخيم بحرم ال




.. بطول 140.53 مترًا.. خبازون فرنسيون يعدّون أطول رغيف خبز في ا