الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبو ليلى

مفيد عيسى أحمد

2006 / 2 / 14
الادب والفن


أوقف أبو ليلى تدوير المروحة ، التفت إلى و صاح : عم .. هذه مروحة انكليزية صنعها هتلر اشتريتها من بيروت من خواجة أرمني ..انتزعها من طائرة ألمانية سقطت في جبيل أيام الحرب الكبيرة، لو فتلت السهل والجرد لن تجد مثلها .
رمى قطعتي فحم في الموقد قلب الفأس ..استأنف التدوير أنت المروحة ، توهج الجمر و حد الفأس ..توقف فجأة و سألني من بعثك إلى هنا ..؟
قلت الهوى ...محمد الهوى ، فغر فاه وقال.. الهوى ..ها هـــا ...اجلس اجلس....و أشار إلى كرسي قش متداع سحبته وجلست عليه مال و أصدر صريراً خفيفاً، عاد أبو ليلى إلى التدوير ...وبدأت أتأمل المكان، توقف من جديد .. نظر إلى و سألني مع غمزة استفهام ...ماذا تريد ؟
قلت: عندي بارودة انفلشت فصبتها ..قال لي الهوى أنك تستطيع إصلاحها
أخرج الفأس من الكور وضعها على السندان طرقها طرقات دقيقة متلاحقة، وضعها جانباً وقال : السبطانة المفلوشة لا بد من تبديلها، على كل حال اجلبها .. نهضت لأذهب ، استوقفني قائلاً: اجلس ... اجلس.. لن تذهب دون أن تشرب شاي، قام بجسده النحيل نفض كفيه الملمومتين .. تناول إبريقاً مطلياً بهباب الفحم صب فيه بعض الماء وضعه فوق جمر الموقد أدار المروحة ببطء أوقف التدوير سألني ما اسمك..؟
- نجم
- هل أنت مخبر ..؟
فاجأني السؤال ...قلت مخبر ماذا..؟
- مخبر للشرطة ستفسد علي من أجل السلاح.؟
- هل شكلي شكل مخبر..؟
تفحصني بنظرة و قال أين البارودة ..؟ قلت: لم أجلبها معي من الواجب أن أستشيرك أولاً..
هز رأسه برضى، لقم إبريق الشاي ثم تناول فنجانين أغبشين صب في أحدهما و ناولني إياه ثم صب في الآخر و بدأ يلف سيجاره بتأن و متعة
رشفت من الشاي و قلت والله صدق من قال إن الشاي على الفحم أطيب، قال: طبعاً هل الأصيل مثل ولد الحرام.
استغربت التشبيه، فلا شيء مشترك بين الأمرين.
زفر دخان سيجارته وقال: ما قصة البارودة ..؟
قلت: بارودة صيد /12/ مم لا أدري ما السبب ربما كانت القصبة ضعيفة أو أني زدت البارود قليلاً، حشوتها و عندما ضغطت على الزناد رعدت و لمعت في وجهي .
قال: اجلبها غداً، رشف من كأس الشاي و عاد لتدوير المروحة.
هممت بالنهوض لا أدري كيف انزلق لساني و سألته: لم لقبوك بهذا اللقب..؟ هل صحيح أنك كنت تحب صبية اسمها ليلى..
أوقف التدوير بحدة، تغيرت سحنته و قفز كنابض كان مضغوطاً، صاح: اطلع بره ولاه... اطلع ..ولك أنا داعس رقبة قبضايات بيروت و زعرانها ...اطلع قبل ما شوهك.
باغتني رده وقفت لا أدري ما أفعله.. حاولت تهدئته .. لم يتح لي أن أتفوه بكلمة واحدة ،أسرعت إلى الخارج، لم أتجاوز عشر خطوات حتى سمعت صوته يصيح: اسمع ولاه .. التفت إليه كان واقفاً على باب الورشة بقامته المتداعية، تابع صياحه : اجلب البارودة غداً
نصحني الهوى أن أكون حذرا فهو متقلب المزاج، ربما لليلى أثر خاص في نفسه، تابعت طريقي و أنا أفكر به وإن كنت سأجلب البارودة أم لا .
صباح اليوم التالي وضعت البارودة بدون تردد في كيس خيش و قصدت ورشة أبي ليلى، توقفت قبل الباب سمعته يغني بصوت شجن: حبابي عالسفر شدو رحلهم .. المجال بعيد مابقدر رحلهم ..
بحذر وقفت على الباب و نظرت إلى الداخل كان يدور المروحة ويغني يهز رأسه هزات خفيفة و بطيئة جفناه مسبلان.... و الجمر يتوهج دون وجود أي شيء في الكور.
دخلت إلى وسط الورشة، حييته، لم يرد استمر بالغناء، وتدوير المروحة، رفعت صوتي مكرراً التحية، جفل و صاح ..من أنت ماذا تريد ..؟
أجبت : لقد جلبت البارودة.
- أية بارودة ..؟
- البارودة التي حدثتك عنها البارحة .
- وقف وقال بعصبية: ولاه أتريد أن تفتري علي.. ما علاقتي بالبوار يد أنا حداد و لا علاقة لي بالسلاح..
- يا عمي أنت قلت اجلبها البارحة..
- ها ها ... أنت من بعثك محمد الهوى .
- نعم .... نعم ..رددت بسرعة
ناولته البارودة قلبها بين يديه .. تفحصها بعناية زاماً عينيه و هو يصفر بصوت خافت، و ضعها جانباً ثم قال: كما قلت .. تحتاج إلى قصبة جديدة .
- فليكن ... متى أعود لآخذها
- بعد أسبوعين ..عشرين يوماً ..تكلفتها ..سبع و عشرون ليرة .
- أخرجت محفظتي .
- بادر إلى القول ليس الآن عندما تكون جاهزة، اجلس .. ارتاح هنا و أشار إلى نفس الكرسي . مارأيك بكأس شاي ..؟

اعتذرت بحجة اني مستعجل و هناك عمل ينتظرني، نهض و كأنه لم يسمعني وضع الابريق في الكور و بدأ يدور المروحة، لم يعد لي إلا أن أجلس .
لفتت نظري أشياء لم أرها في المرة الأولى، طبنجات، خناجر، بواريد صيد مختلفة ...سكك محاريث ..كنبة خيزران متهالكة تتسع لثلاث أشخاص، سترات قديمة معلقة بعمود وسط الورشة ..تحتها مسدس قديم، أحذية مختلفة، أعقاب طلقات ..صورة لرجل بشارب عريض و نظرة قاسية.
فاحت رائحة الشاي المنعشة، مختلطة بالرائحة الأليفة لبيوت التراب ناولني أبو ليلى فنجاناً.
سألته : لمن هذه الطبنجات و البواريد ..
- لا أعرف ..من أيام جدي ..هل تحسبني جديداً في الصنعة لقد كانت كار جدي ...و جد جدي ألم تسمع بثورة الشيخ صالح العلي ..؟
- نعم ..نعم
- نحن من كان يصلح أسلحته
- لكن الشيخ صالح ..لم يصل إلى هنا .
- ما أدراك لم تكن تصورت في بطن أمك بعد أتريد أن تعلمني ...قم وانقلع من هنا .. رميت كأس الشاي ، تناثر الرزاز .. أسرعت إلى الخارج و هو يصرخ ..هيا انقلع.
وقفت خارج الورشة، خطر لي أن أستعيد بارودتي و ألا أشاهد هذا المجنون ثانية، لكني مشيت مبتعداً ما لبثت أن سمعت صوته يصرخ : و لاه ...
التفت إليه
صاح : عد بعد أسبوعين و معك ..سبع و عشرين ليرة.
تابعت سيري حانقاً و أضمرت ألا أعود فلتذهب البارودة إلى جهنم لكن لا بد أن أعاتب الهوى بقسوة.
مضى أسبوعان، خف خلالهما حنقي، قررت ان أذهب لأستعيد البارودة، خمس دقائق وتمضي، سأعطيه أجرته و آخذ ها ولن أرى ثانية ذلك الخرف، قبيل الباب سمعت صوته، كان يترنم بقصيدة :
طرقت الباب حتى كلمتني و لما كلمتني ..
دخلت كان العجوز يهيم في عالم آخر،ليس فيه بواريد و طبنجات و سكاكين و فؤوس، أبو ليلى كان يغني زمناً مضى بأحزانه و أفراحه ، لم يرني ، جلست على نفس الكرسي و و هيأت نفسي للهرب، أنهى القصيدة وضع قطع فحم في الكور لم ينظر إلي أدار المروحة قليلاً ثم قال : أتعرف ..؟ كانت ليلى جميلة كالوردة الندية رأيتها أول مرة على جسر الباشا، كنت شاباً كالنمر أضع قطفتي حبق خلف أذني و كل يوم أحصل خمس ليرات، و أعيش كالأمير ..
قلت: أين في حي المسلخ ....بيوت التنك ..؟
انتفض صائحاً: من أنت متى جئت إلى هنا ...هيا انقلع ... ماذا تريد ..؟
- البارودة ..
- أية بارودة ..اطلع بره ...ولك .
خرجت لكن هذه المرة كتمت في نفسي رغبة في الضحك .. ما لبثت أن تحولت شفقة على أبي ليلى
عشرة أيام و لم أذهب إليه، قررت ان انسى البارودة و الصيد، أو أن أطلب من الهوى جلبها لي، لكن الأمر لم يعد يتعلق بالبارودة راودني فضول لأجلي غرابة الرجل،لم تبرح ذهني صور الغرفة التي يعمل و يعيش فيها، الأشياء الغريبة أستعيدها أحياناً، الطبنجات و قرون الجديان و الخواريف التي يحولها إلى مقابض سكاكين، شظايا القنابل، الزجاجات الفارغة، النرجيلة القديمة التي لم تستخدم منذ سنوات، مشارب التبغ، لا حس للأنثى في هذا المكان، لا صورة، كلمة واحدة فقط هي اسم ليلى.
تعمدت المرور أما ورشة أبي ليلى من الداخل كان ينبعث صوت ناظم الغزالي، تجرحه خشخشة، عبرت أما الباب بحذر ، رأيت أبا ليلى جالساً يستند على الحائط الطيني ي رجلاً و يثني الأخرى فاتحاً فمه نصف فتحة و نائماً.
وقفت في الباب و بحثت بنظري عن بارودتي في أنحاء الورشة لم أجدها، هممت بالذهاب، فتح عينيه بتكاسل و قال: ماذا تريد ..؟ من أنت ..؟
لم أجب و مشيت، سمعت صوته يصرخ تعال إلى هنا.. ولاه وين رايح ..؟
لا تروح ادخل و اسمع ناظم الغزالي، توقفت متردداً ثم دخلت ، ما زال ناظم الغزالي يغني بصوت يتخلله وشة، حاول أبو ليلى ضبط المذياع دون جدوى غير مكانه فاختفي الصوت، ابتلعته وشة قوية،
رمى المذياع بعصبية و يأس وقال رحمه الله كان مطرباً كبيراً، لم يمضي على موته زمن طويل .
- هل تعرف الحضيري بو عزيز.
- لم أسمع به .
- ألم تسمع أغنية " عمي يا بياع الورد " ..؟
- نعم .
- الحضيري يغنيها، ناظم الغزالي صديقه، هما من العراق.
- أغنية جميلة .
كنت سأقول له أن سمعت مطربة تغنيها لكني تمالكت نفسي خشية ردة فعله .
بدأ يصقل مقبض سكين بقطعة زجاج و يصفر ، الأشياء المبعثرة تختصر عمر أبو ليلى تعبر عن فطرته و تشتته في كل زاوية ثمة ما يسترعي النظر، الصورة المعلقة على العمود الخشبي هي الوحيدة في الغرفة لكن من صاحبها..؟ نهضت عن الكرسي اقتربت من الصورة دققت في ملامحه و في عينيه، التقت عيناي بنظرته الراسخة، لبرهة خيل لي أني أمام الرجل وليس صورته.
لا بد أن يكون لهذا الرجل علاقة بالمسدس المعلق تحت صورته، فكرت أن أسأل أبا ليلى ، خشيت من غضبه ، لكني سمعت صوته قرب أذني يقول:
- هذا أبو ديب ..رجل و لا كل الرجال هل تعرفه ..؟
- لا . ..لكنه يبدو كما تقول.
عملنا سوية في طاحونة أنطلياس .. رجل لن تجد مثله في هذا الزمن ..فلتة من زمن مضى ..طول و عرض قوة و نخوة لا يستطيع عشرة رجال أن يقفوا في وجهه كان يغلق شارعاً بأكمله.
- هل سمعت أغنية فيروز " عالطاحونة شفتك عالطاحونة "..؟
- نعم
- لقد غنتها له ..كان بيتها قريباً من طاحونة أنطلياس، ذات يوم كنت أجلس معه هناك ومرت الست فيروز، توقفت و نظرت إليه، سألته سؤالاً لم أعد أذكر ما هو ..
كان له عينا صقر نظرته فعلاً كانت تجرح ..قامته مدكوكة...تقارب المترين ، الست فيروز صارت كلما مرت تسلم علينا، وكنا نهديها السمك الذي نصطاده، قالت له يوماً : سأهديك أغنية و غنت له تلك الأغنية، حتى الست صباح ... الصبوحة ألا تعرفها ...
- نعم .. كيف لا أعرفها .
الصبوحة عندما رأته أيضاً غنت له أغنية ..اسمها " صدفني.. كحيل العين " و كانت دائماً تدلعه و تناديه ديبو و كان يجيبها برجولة و نظرة جادة .. و إذا كانت فنانة هل هي أحسن منه ..؟ الرجل رجل و المرأة ..مرأة ..هذه سنة الكون .
قال لي يوماً: اسمع يا أبا ليلى ..خلينا نخطفلك ليلى و نرتاح من هذه القصة ، عندي خال في حمص تذهب و تبقى هناك فترة.
قلت له : ليلى طلعت من قلبي و لم يبق لي منها سوى هذا الاسم الذي أطلقتموه علي، سامحكم الله .
ضحك وقال: شو عليه ..اسم رجال، الزير كان اسمه أبو ليلى.
أبو ليلى كان يكلم رجلاً آخر و ليس أنا، ذلك واضح في عينيه و نبرة صوته ... شعرت كم كنت متطفلاً و فظاً في سؤالي له عن لقبه، تراجعت صوب الباب للخروج ..قال إلى أين ..؟
- سأذهب ..لدي عمل
- قال بحدة مفاجئة : ماذا كنت تريد ..؟
- جئت أسألك عن البارودة ....
- أية بارودة ..؟
- البارودة التي جلبتها منذ أسبوعين ..قصبتها مفلوشة ..و قلت أنها تحتاج لتبديل ..
نظر إلي باستغراب و قال : هل تريد أن تفتري علي .. ولك أنا أبو ليلى .اطلع برى ..
هذه المرة لم أهتم بما يقول ...قلت له بهدوء: انا الذي بعثني محمد الهوى ..
صمت لبرهة ..جلس وراء السندان أدار المروحة و كأنه يدير شريط ذاكرنه قال: أي نعم ...كلامك صحيح .. البارودة عند جبور في البرج .. سيخرط لها قصبة جديدة ..ارجع بعد أسبوع .
- هل تحتاج لأسبوع ..؟
- لا تلح علي و لا تقف في وجهي هكذا ..هيا اذهب
أيام عدة و أنا أقطع الطريق أمام ورشة أبي ليلى أختلس النظر إلى الداخل، أسمع أنين المروحة المتناغم ، ألمح أبا ليلى بنظرة سريعة، أحياناً لا أرى سوى غبش صامت.
وقفت على باب الورشة مساءً، لم أسمع صوتاً و لم أر أبا ليلى، لا يوجد جمر في الكور ، دخلت بحذر، العتمة منعتني من تمييز الأشياء، خطو ت خطوتين إلى الداخل، قدرت أني الآن أمام صورة ديب، تمنيت أن أراها و أن أحدق بعينيه ثانيةً.
رشح صوت مفاجئ من نسيج العتمة بطيء و هادئ : من أنت ..؟
أجبت: أنا ...لقد أتيت لأسلم عليك ...كيف حالك...؟
قال: اجلس ..اجلس ..الكرسي أمامك .. انحنيت قليلاًَ و بدأت أتلمس حولي بحثاً عن الكرسي، ارتطمت يدي بالكرسي الوحيد، جلست عليه و أنا أبحلق في الغبش.
أنارت الغرفة مصباح خافت انطبع ظله المنحني على الستارة التي تفصل مكان نومه عن الورشة، أزاح الستارة، ظهر سرير معدني قديم عليه فراش عتيق بجانبه طاولة متداعية و جرة صغيرة للشرب ، جر قدميه نحوي ، نهضت لأسلم عليه لكنه جلس دون أن يفعل وضع قبضة من الفحم في الكور أشعلها و أدار المروحة توهج الجمر ، ترك المروحة و بدأ يدفئ يديه و جسده الزاوي يرتجف.
نظرت إلى صورة ديب، سألني بكلمات متقطعة ..أيعجبك ..؟
- نعم
- كان يعجب الجميع ..حتى أعداءه.
- أين هو الآن
- قال بحزن : لقد ذهب
صمت لحظات، ندت عيناه بدمعتين، و أردف: ذهب بلا عودة و أشار إلى الأعلى، منذ سنتين فقط ، عشر سنوات لم يبارح طاحونة أنطلياس ، إلى أن جاء يوم دوت المدافع الغريبة في أسماعنا، صرت أراه في أوقات متقطعة يتزنر بأمشاط الرصاص و القنابل، تغير ديب كثيراً كان يبدو نزقاً و مهموماً، قليل الكلام،استمر ذلك إلى أن انقلعت اسرائيل من المدينة.
عاد بعدها و قال: شاركت في معركة شرف أما المعارك القذرة الأخرى فلا دور لي فيها لقد كبرت وتعبت، سأجد بنت حلال و أبني بيتاً صغيراً في الضيعة، عليك أن تزورني هناك.
بدا حينها كمن يهرب من الحرب التي ما خمد أوارها بين فصائل الطوائف والمصالح الضيقة، حرب لا يريد أن يشارك بها و لا أن يعايش أحداثها، تبرأ ديب من كل هذه القذارة و خرج إلى ضيعته، بدأ يبني بيتاً صغيراً لكن المرض لم يسمح له بإنهائه، شهر واحد ومات.
لم أدر بما جرى إلا بعد أسبوعين، قال لي أخوه أنه كان ينهض و ينهال بالضرب على عمود البيت الخشبي، يلطم جدرانه، يدق كعبه بالأرض و يرعد : لو كان الموت رجلاً ..آه لو كان رجلاً و ينهار، نحمله إلى سريره ..آخر ليلة له قال: لا تطفئوا الضوء سأموت هذه الليلة، مات فجراً.
تهدج صوت أبي ليلى ، كان يبكي، لم أستطع النظر إليه تجنبـت أن أرى دموعه، نهض ببطء و دخل إلى مكان نومه، انسحبت بهدوء و أغلقت الباب ورائي.
ثلاثة أيام لم أذهب إلى ورشة أبي ليلى، لم تكن لدي الشجاعة لأنظر في عينيه، علمت بعدها من الهوى أنه أوقف و هو يجلب البارودة من المخرطة، صدفته دورية شرطة و هو يعلق البارودة بكتفه بلا اكتراث و كأنه في نزهة صيد.
دفعت له الكفالة دون أن يعلم و أخلي سبيله، في صباح اليوم التالي كان يدور مروحته، يعمل و كأن شيئاً لم يكن، أوقف المروحة، أخرج من الكور مسلة محمرة بدأ يصفر و هو يقربها من مقبض سكين ليثقبه، غرز المسلة في المقبض، انتشرت رائحة كرائحة الشعر المحترق، فجأة قذف المقبض و المسلة وضع يده تحت إبطه و بدأ يشتم، ثم تهامد و هو يضع يده في وعاء مملوء ماء أسبل عينيه، شحب وجهه الرقيق المتطاول بمسحة حزن و ألم.
لم أدخل ، خطوت بحذر إلى الخلف، ناداني : إلى أين تذهب ... أليس من العيب ألا تدخل .. ارجع ولاه.... شو ما عندك حياء ..؟
عدت و حاولت الاعتذار منه قلت: لا أريد أن أزعجك، رأيتك تعمل أشار إلى كرسي القش الوحيد ،فجلست.
قال: اسمع.. بارودتك صادرتها الشرطة ...يطاردون من معه بارودة صيد و يتركون من يقتني مدافع .
قلت: أعرف ذلك .. لا أريدها.. لا أريدها .
لم يجب ... أردفت..سأدفع تكاليفها.
قال: لا أريدك أن تدفع، سلمتها هنا، يجب أن تستلمها هنا .
نهضت و أن أقول و ما ذنبك بما جرى، سأذهب و أجلب النقود ..
صرخ بعصبية: اجلس ألا تفهم ..؟ قلت لك .. لا أريد .
عدت إلى الجلوس، أبو ليلى ما زال يضع يده في وعاء الماء، نهضت ملأت إبريق الشاي، وضعته على جمر الكور و بدأت أدور المروحة، فاحت رائحة الشاي، صببت فنجانين، ناولته واحد و رشفت من الثاني. نظرت إلى صورة ديب، التقت عيني بعينيه الحازمتين، كأن ديب أصبح صديقي.
نهض أبو ليلى جفف يده بخرقة معلقة على الحائط الطيني، تقدم إلى الصورة حدق فيها للحظات، ثم تناول المسدس عن العمود مسح الغبار عنه، أرجع الديك إلى الخلف، ضغط الزناد انطبقت الإبرة و سمعت طقة مكتومة.
يحتاج إلى تنظيف ـ قال و كأنه يحدث نفسه، جلس نظف المسدس و مسح قطعه بالزيت، ثم رفعه أمام وجهه ، قام بحركتي تسديد ثم ناولني إياه، وهو يقول هذا بدل البارودة.
بقيت يده معلقة .. صرخ بلهجة آمرة امسك ..
مددت يدي بتردد قلت: لا أريده .. لا يجوز .. ديب صديقك و هو ذكرى منه .
- امسكه بلا فلسفة ولاه .. امسكه لو أن ديب حياً كان سيفعل نفس الشيء.
لا أحب الأسلحة .. أحب الصيد فقط،و لذلك اقتنيت البارودة.
هو ذكرى فقط من يقول لك استعمله ذكرى من رجل أحببته و لم تره ثم من منا يحب الأسلحة ، ديب كان يحب الصيد لكنه كان يصطاد السمكة ويبكي عليها، و أنا أصلح الأسلحة كمن يصنع النعوش،.
أنا كما تعرف لا ولد ولا تلد و أحب أن أهدي هذا المسدس لمن يعرف قيمته، أرجو ألا يأتي يوم و تضطر لاستعماله .
صمت لحظات ثم تابع و هو يبتسم: إذا انفلشت قصبته اجلبه إلي ..أدار المروحة من جديد و بدأ يصفر لحنا لم أستطع تمييزه، نهضت لأمضي نظرت إلى صورة ديب، عيناه ما زالتا ترسلان نفس النظرة الحازمة، مع ابتسامة خفيفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في