الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المكتبة علم بلا حدود

نقوس المهدي

2017 / 9 / 20
الادب والفن


عرفت الكتاب خارج حدود كراس المقرر المدرسي في حدود سن العاشرة حين اشترى والدي كناشا صغيرا يتضمن قصيدة عامية مغناة ، كي أقراها له لشدة اعجابه بمأثور القول الشعبي ..

في المدرسة كان الكتاب أثمن الاشياء التي ملأت فراغ ايامنا الطويلة ، و كانت المكتبة أحلى اكتشاف في طفولتنا ، برغم معارضة الاسرة لأنها تلهينا عن مراجعة الدروس ، و قد لد ذلك الشغف في السنين الاخيرة من المرحلة الابتدائية ، بتأثير من أستاذ اللغة العربية السي ( محمد أغزاف ) ــــ شاب امازيغي من الجنوب ، التحق للتو بمهنة التدريس ، حامل لكتاب الله ، كان دائم القراءة ، و يفتح في غالب اوقات الفروض كتابا يقرأ فيه ، كان ذلك الامر يثير فضولنا ، ويؤجج شوقنا للكتب ـــ زقد قام بوضع طاولة في ركن من الفصل ، أسماها المكتبة المدرسية ، وضع فوقها مجموعة من القصص المدرسية لمحمد عطية الإبراشي و أحمد سعيد العريان ، و كامل كيلاني ، وهي كل ما تتوفر كزاد ذهني يخضع لمقاييس تربوية بذلك الوقت ، اقتناها من ماله الخاص ليزرع في نفوسنا حب القراءة و عشق الكتاب ، توزع علينا مساء كل يوم سبت ، لنعيدها في متم الأسبوع الموالي ، ملخصة في ورقة و نأخذ غيرها ، مع عقاب صارم لمن يتأخر في الوفاء بالموعد ، و احدى الحوافز التي دفعته لمعاقبة كل من يبتدئ نص الانشاء بالجملة الركيكة : ذات يوم ، و ذات مرة

كانت تلك القصص العجيبة اول نافذة على العالم الخارجي ، و اولى صلاتنا بحكايات الجنيات و العفاريت والسعالي ، و عالم الخوارق و الملاحم العجيبة و الخيال ، قبل أن نكتشف مناهل وموارد اخرى

لم تكن قد وصلتنا وقتئذ بعد المقولة الفرعونية التي تقول : ( الكتاب أفضل من لوحة رائعة النحت، أقوى من حائط متين البنيان، انه بديل الهرم والمعبد في اعلاء اسمك) ، أو تلك التي تنسب لحكيم فرعوني قديم : " ليتني أجعلك تحب الكتب أكثر مما تحب أمك"، و لا قول المتنبي ، و لا تلك التي جعلت احب كاتب الى نفسي يقول بتواضع زائد في مديح القراءة : " فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، أما أنا فأفتخر بتلك التي قرأت" [ بورخيس: أسطورة الأدب/ ص 108] . ولا سمعت بقريء مستميت ومهووس يكنى البرتو مانغويل ، او بــ برنار بيفو صاحب البرامج الثقافية الشهيرة ، كنا فقط نفترس تلك القصص افتراسا لما توفره لنا من متع زائدة تغنينا عن دروس النحو و الصرف و التربية الوطنية و الحساب و العقاب والعذاب ، منبهرين بعوالمها العجائبية ، مشدودين الى احداثها ، محرومين اراديا من لعب نهاية الأسبوع ، بما تحملنا على بسط من خيال إلى العوالم الغريبة و الفضاءات الساحرة التي لم نكن نألفها في قريتنا الفوسفاطية النموذجية " لمزيندة " ، ذات الغالبية البروليتارية ، البلدة الصغيرة المغمورة المنسية المنقطعة عن العالم المبتوتة في تجاويف هضبات جغرافيا الكنتور ، و بديلا عن حكايات أهلنا التي يحشون بها اذهاننا - وكانهم يرهبوننا نفسيا من الشغل الشاق المنتظر - عن أهوال و أخطار العمل بالمنجم و الجنازير و هدير المحركات الجبارة ، و عن امراض الحساسية و المفاصل و الربو و الشيخوخة المبكرة ، و حوادث الشغل المميتة ، و فظاظة المهندس و تقارير اعوانه الانتقامية ، و الماء البارد الذي يقطر من السقف ، و المياه الجوفية العائمة التي تنبع من تحت و تغمر لحد الحزام ، و الحزام الآلي النقال الذي يلتهم في غفلة أعضاء العمال او يعجن اجسادهم المنهكة كالطحين ، و أشياء أخرى اكثر رهبة لا يمكن تصورها تقع في جوف الجبل ، تحت الأغوار السحيقة لباطن الأرض ، تذكرني بالقرابين التي كان يتزلف بها قدماء المصريين للنيل خلال سخائه السنوي على الحقول . و التي تشكل بدورها مادة مروية تستحق بدورها ان تدون في كتاب

الان و بعد مضي حوالي نصف قرن أسررت لأستاذي السي محمد أغزاف خلال حفل التكريم الذي أقمناه لثلة من أساتذتنا القدامى الكرام بجود كرمه ، و بفضل تلك المكتبة العظيمة علينا ، و التي نمت في نفوسنا منذ تلك الفترة القصية عشقي للقراءة ، و رسخت علاقتنا الوطيدة بعالم الكتاب .. انبجست من عينيه و هو على تلك الهيئة المهيبة من الوقار والشيخوخة دمعتان ، لا ادري إن كانتا من فرط التأثر أو من شدة الفرح و الحنين ، ألا سقيا لتلك الايام الجميلة لتلك الايام ..

الآن واينما وليت وجهك في المدن الكبيرة لا تجد اثرا للمكتبات الشهيرة ، فقد اغلقت و اختفت و اجهاتها المزينة بالمطبوعات ، و حلت محلها المقاهي و المطاعم التي تعرض شطائر اللحم الفاسد و اصابع المقانق المغشوشة التي تحبس لعاب العابرين و توقظ جوعهم الدفين ، انه زمن آخر يفرض نفسه بكثير من الجسارة ، ذلك ان «الأمم المتحضّرة تبني المكتبات ، أمّا الدول التي فقدت روحها ، فتغلقها» .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة


.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات




.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي