الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى وفاتة : نجيب الريس أقوى من النسيان 00 ؟

شمس الدين العجلاني

2006 / 2 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


اليوم : الأحد
التاريخ : 10 شباط 1952
المكان : دمشق
يوم الأحد الواقع في العاشر من شباط من عام 1952 كانت دمشق على موعد مع القدر 00 فارتدت ثوب الحداد وهي مذهولة حزينة لا تدري ماذا تفعل وقد فقدت بالأمس ( 9 شباط ) رجل من رجالاتها بل زينه رجالاتها 00
نعم لقد امتدت يد القدر إلى الصحفي والكاتب والمفكر و السياسي و المجاهد نجيب الريس الذي كان من أوائل رجالات سورية الذين فتحوا صدورهم لرصاص الفرنسيين ومن أوائل رجال سورية الذين سلموا رقابهم للمشانق وباعوا أنفسهم للمنافي والسجون 00

نجيب الريس :
ولد نجيب الريس في مدينة حماة عام 1898,( وأنا أنتمي إلى دمشق المدينة والتاريخ والمكان والعواطف، لكن أبي حموي الأصل وقد جاء من حماه باللباس التقليدي «القنباز» ثم انتمى إلى دمشق، حتى كان أول نائب في دمشق ينتخب وهو من مدينة أخرى، وهي سابقة في الحياة السياسية السورية، وكان ذلك في عام 1943 ـ 1947 أي في عهد الاستقلال.حتى أنه كان يعيّر بانتمائه إلى حماه، ولم أزر حماه كل عمري إلا مرة واحدة للعزاء بوفاة عمي. – رياض نجيب الريس )
وأطلق بدمشق جريدته القبس في عام 1928 أو عام 1930 وكانت لسان حال الحركة الوطنية في سورية ، وبقيت ( القبس ) تصدر إلى عام 1958 , وكانت من أهم الصحف السورية آنذاك 0 عرف الريس بصقر الصحافة السورية (.... على أن نجيب الريس كان شاعراً في قلبه، كان يستطيع أن يلجأ في مقالاته إلى لغة الشعر أي إلى المبالغات التي تذهب بالأمور عن الحقائق فلا يكون لها تأثير بليغ، ولكنه لم يلجأ إلى شيء من ذلك فقد عاش في وطن ألم كثيراً وجاهد كثيراً، وكان ألمه صادقاً وجهاده صحيحاً، فلم يفتقر هذا الوطن في تصوير أموره إلى غلو قبيح فيصور نجيب الريس في مقالاته صدق الألم وصحة الجهاد دون شيء من زخارف القول لأنه عاش في غمرة هذا الألم، وتقلب في شدة هذا الجهاد فظهر التناسب الرائع بين صدق شعوره وبين صدق ألم الوطن - شاعر الشام شفيق جبري ).
و كان مقاله الافتتاحي لجريدته "القبس" الدمشقية ينتظره القراء بفارغ الصبر، لما تميز به من جرأة في طرح المواضيع الوطنية متحدياً سلطات الاحتلال الفرنسي في العشرينات من القرن الماضي، مما عرض جريدته للتوقف والإغلاق لمرات عديدة، بالإضافة لتعرضه للتوقيف والسجن في قلعة أرواد المعروفة مع كوكبة من رجال الكتلة الوطنية , (افتتاحيات نجيب الريس، في جريدته القبس، في مهاجمة المحتل وتسفيه سياسته، فتلتهب النفوس حماسة وتعلو الأصوات بالاستنكار والاحتجاج والتنديد- عبد السلام العجيلي ) كما يعتقد ان جريده القبس أصدرت ملحقا ادبيا للجريدة اسمه: (طار الخرج) وهو ملحق كوميدي ناقد أقبل الجمهور على شراء العدد الأول منه بأضعاف ثمنه.

تزوج الريس ثلاث مرات , وكانت زوجته الأخيرة ( راسمة سمينة ) ابنة إبراهيم سمينة وهي من عائلة لبنانية ( طرابلس ) ذات أصول تركية نزحت من طرابلس إلى دمشق أيام الحكم العثماني, سكن وتنقل الريس بدمشق بين عدد من أحيائها إلى أن استقر به الأمر مع زوجته راسمة سمينة , في حي زقاق الصخر خلف كنيسة اللاتين في ساحة النجمة ولم يزل هذا الحي قائما إلى الآن يشهد على تاريخ العديد من السياسيين الذي سكنوا فيه 00وهو شقيق منير الريس من ثوار عام 1925 0
فتح الريس عينية على أوضاع سياسية صعبة تمر بها البلاد فهو ولد زمن الاحتلال العثماني وشب زمن دخول فيصل إلى دمشق وقيام الدولة العربية الأولى في العصر الحديث , ثم ما لبث أن تكالبت القوى الاستعمارية على الوطن العربي وكانت سورية من نصيب المستعمر الفرنسي 00 وكان نجيب الريس آنذاك في ريعان وعنفوان الشباب وكان شاهدا على مآسي الوطن التي كان يرتكبها المستعمر فقام مع عدد من الوطنيين بتنظيم المظاهرات ضد المستعمر مطالبين بجلاء قواته فكان بين الفينة والأخرى قيد الاعتقال أو السجن , فأول مرة دخل فيها السجن كان سجن أرواد وكان لا يتجاوز العشرين من العمر وفي سجن أرواد نظم قصيدته الرائعة( يا ظلام السجن خيم 00 ) ولحنه مع بعض الأصدقاء في السجن منهم عادل حتاحت، وفهمي المحايري،ومحمود البيروتي، ونادر الساطي00 , ثم لحنه محمد عبد الوهاب، وأسمعه فريقاً من الشباب الوطني في منزل جبران بيضا في (عالية) لبنان صاحب شركة بيضا فون للاسطوانات آنذاك 0 ولا يزال أصداء تلك القصيدة يُسمع في أرجاء قلعة أرواد:
يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا
ليسَ بعدَ السّـجنِ إلا فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى
أيّها الحُرّاسُ رِفـقـاً و اسمَعوا مِنّا الكَلاما
مـتّعُـونا بِـهَـواء منعُـهُ كَـانَ حَرَاما
إيـهِ يا دارَ الفخـارِ يا مـقـرَّ المُخلِصينا
قدْ هبطْـناكِ شَـبَاباً لا يهـابـونَ المنونا
و تَـعَاهدنا جَـميعاً يومَ أقسَـمْنا اليَـمِينا
لنْ نخونَ العهدَ يوماً واتخذنا الصدقَ دِيـنَا
يا رنينَ القـيدِ زدني نغمةً تُشـجي فُؤادي
إنَّ في صَـوتِكَ مَعنى للأسـى والاضطهادِ
لـسـتُ والله نَسـيّاً ما تقاسِـيه بِـلادِي
فاشْـهَدَنْ يا نَجمُ إنّي ذو وفــاءٍ وَ وِدادِ
الريس الصحفي :
استطاع نجيب الريس أن يتربع على عرش الصحافة السورية في الأربعينيات , واستطاع أن يجعل جريده القبس محط إعجاب وتقدير المواطن والمسؤول , حتى قيل ان القبس قد تسقط حكومة أو ترفعها 0 ؟
كان الريس شديد الحرص على حرية الصحافة , فحين اشتدت الوطأة على الصحافة وبدأت الحكومة في التضييق عليها وقف الريس تحت قبة البرلمان بتاريخ 21/12/1944 وكان حينها نائبا عن دمشق , زمن رئيس مجلس النواب فارس الخوري ( 1943- 1947 ), مدافعا عن الصحافة قائلا : " إن الرقابة تشتد وتبالغ في اشتدادها حتى أصبحت الصحافة لا تعرف ماذا تنشر وماذا تحذف فإما أن تأتي الحكومة بقرار تحدد فيه الممنوع على الصحافة نشره، وإلا فإني أطالب بإلغاء الرقابة عن القضايا والشؤون الداخلية إلغاءً تاماً". ونتيجة موقف الريس هذا اتخذ مجلس النواب قرارا بإلغاء كل أشكال الرقابة على الصحف باستثناء الرقابة العسكرية.
لقد كان رحمة الله لا يساوم على الوطن لا يهادن في أي قضيه تمت للوطن كان الوطن بالنسبة إلية خطا احمر : ( وهو في إيمانه الوطني أرسى من الجبل، وعلى خطته أبقى من الدهر، لا تخور له عزيمة، ولا يلين له عود، صبر على الشدائد وتلقى ضروب- فارس الخوري) ففي احد الأيام كان ضابطا فرنسيا مخموراً يتمشى في أزقه دمشق عائدا إلى بيته , وكاد الصبح أن ينبلج وأذان الصباح يعلو من مآذن دمشق 00 فلم يرق هذا الآذان للضباط الفرنسي المخمور فأخذ يشتم ويتوعد المؤذن الذي نزل من المئذنة وأسلم ساقيه للريح خوفاً ورهبة من اعتداء هذا الضابط المخمور..‏؟
ووصل خبر هذه الحادثة إلى نجيب الريس فكتب رحمه الله في جريدته القبس مهاجما السلطة والضابط لعدم احترامهم القوانين الدولية.. وإرادة الشعوب في ممارسة شعائرها الدينية..‏
فتناقل الناس جريدة القبس وما كتبه الريس , فهاجت الجماهير وقامت دمشق عن بكرة أبيها تندد بممارسه قوات الانتداب الفرنسي , مما دعا المستعمر لمطارده الريس واقامه دعوى قضائية ضده بتهمه الدس والافتراء وإثارة الفتنه بين أفراد الشعب , وان الصحفي نجيب الريس يختلق القصص من نسج الخيال 00 ؟ والمشكلة التي وقع فيها الريس بأنه ليس لديه شاهد على هذه الحادثة 0؟ فهو قد سمعها و رأى أنها تمس الوطن فثارت ثائرته وكتب ما كتب في صحيفة القبس 000 دون ان يكون لديه شاهد واحد يؤيده 00
وتداعى أصدقاء الريس (السيد شفيق سليمان ومحمود البيروتي وحسني تللو) للخروج من هذا المأزق وتأمين شاهد يؤيد أقوال الريس 00 وتفتقت مخيلة أصدقاء الريس على حيلة غريبه حبكوها بشكل دقيق وأنقذوا الريس من حبال المستعمر الفرنسي 0 ؟ وكانت هذه الحيلة أنهم استقدموا إحداهن وهي على جانب من الذكاء والمهارة , واتفقوا معها على الشهادة بأنها كانت مرافقه للضابط الفرنسي حين شتم المؤذن وتوعده 00 ووعدها أصدقاء الريس بمكافأة مجزيه إن استطاعت ان تلعب هذا الدور وتقنع المحكمة الفرنسية بصحة ادعاءاتها , وانعقدت المحكمة وحضر نجيب الريس والضابط الفرنسي وطلب محامي الريس شهادة تلك المرأة وبأنها كانت برفقه الضابط الفرنسي حين شتم وتوعد , فاستغرب الضابط الفرنسي هذا الادعاء , فدخلت تلك المرأة قاعه المحكمة في أحلى حلتها وزينتها واقتربت من الضابط الفرنسي تحييه باسمه وبكلمات الغزل وأوحت للمحكمة بأنها على معرفه وثيقه بهذا الضابط , ومن ثم شهدت بأنها كانت برفقته حين شتم وتوعد و00 فاندهش أعضاء المحكمة من هذه الشهادة و00 وحكموا ببراءة صاحب القبس المرحوم نجيب الريس من التهم الموجه إليه 00
وكانت المفاجئة الكبيرة حين ذهب أصدقاء نجيب الريس منزل تلك المرأة لتقديم الشكر لها على شهادتها وإتقانها لدورها وإعطائها المكافأة المادية الموعودة , فوضعوا عده ليرات ذهبيه أمامها( ويقال ان الذي تبرع بتلك الليرات كان أهم شخصيه وطنيه آنذاك ) المفاجأة المذهلة كانت للجميع حين رفضت تلك المرأة اخذ الليرات الذهبية بإباء وشهامة قائله : هل أنتم وحدكم الذين تحبون الوطن وتدافعون عنه 0؟ أنني أحب وطني وأدافع عنه ايضا 00 خذوا أموالكم هذا بلدي فيه ولدت وعشت.. وأنا أفديه بكل روحي.. ردوا هذا المال لأصحابه000
نهاية رجل وطني:
ظهر التاسع من شباط 1952 وصل الصحافي سعيد فريحة إلى مدرسة برمانا العالية ليعلم التلميذ الداخلي رياض الريس ان والده نجيب الريس توفى فأخذه وأخاه الأصغر عامر إلى دمشق في سيارته 000
وقابلت دمشق خبر وفاة رجلها نجيب الريس بالدهشة والحزن , ولم تمض ساعات قليلة على رحيل هذا الرجل حتى بدأت الوفود تصل إلى دمشق من حمص وحماة وحلب والجزيرة و00 وكانت الأمطار والثلوج تكتسح سورية ولبنان , وأقفلت الطرق , ومع ذلك فقد وصلت دمشق العديد من الوفود اللبنانية متحديه قسوة الطقس وغضب الطبيعة , وشيع الريس وتقدم الموكب أسرته وممثل للزعيم فوزي السلو ورجال الحزب الوطني ورجال الصحافة السورية واللبنانية ووجهاء سورية وأعيانها , وكتبت الصحافة حينها أن دمشق لم تشهد موكبا كموكب نجيب الريس , فقد استغرق الموكب من بيت الفقيد إلى المسجد الأموي فمقبرة الدحداح ثلاث ساعات , وكانت أصوات الشيوخ والنساء ترتفع في كل مكان مر به الموكب هاتفه ( في ذمه الله يا أبا رياض ) , وعند الضريح , وقف المحامي ظافر القاسمي , فأبنه باسم الحزب الوطني , ثم وقف كميل شمعون نقيب الصحافة اللبنانية , فأبنه باسم صحافه اللبنانية 0
وبعد ذلك وقف نصوح بابيل نقيب الصحافة السورية فبكاه في كلمات يطفو عليها الدمع , ثم وقف فخري البارودي وألقى أبياتا من الشعر , وأخيرا وقف الشاعر بدر الدين الحامد , وهو شقيق الفقيد من والدته , فألقى كلمه أهل الفقيد 000
و بوفاة نجيب الريس خلا مقعد التحرير في جريدة (القبس) الدمشقية ولم يكن بامكان أرملته (راسمة) ان تدير العمل في الجريدة ولم تكن امكانات الجريدة تسمح بتعيين مدير متفرغ , بينما كان ابنها (رياض) صغيرا في السن, لذا لم تجد راسمة من مفر غير تسليم رقبة الجريدة إلى ابن أختها غسان زكريا, العائد من بيروت 00 وبذلك انتهت وانتهى العصر الذهبي لجريده القبس الدمشقيه 000
فقد عاش ومات نجيب الريس لامته ولعقيدته ولبلاده , ولم يعش لنفسه ولشهواته , والرجال الذين يعيشون كما عاش نجيب الريس , يظلون دائما أقوى من النسيان 0000
--------------
*صحفي وكاتب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معرض -إكسبو إيران-.. شاهد ما تصنعه طهران للتغلب على العقوبات


.. مشاهد للحظة شراء سائح تركي سكينا قبل تنفيذه عملية طعن بالقدس




.. مشاهد لقصف إسرائيلي استهدف أطراف بلدات العديسة ومركبا والطيب


.. مسيرة من بلدة دير الغصون إلى مخيم نور شمس بطولكرم تأييدا للم




.. بعد فضيحة -رحلة الأشباح-.. تغريم شركة أسترالية بـ 66 مليون د