الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستقالة

ناهض خلف

2006 / 2 / 16
الادب والفن


جلس على كرسيه المرصع بعيدان الخيزران، وارتشف قليلاً من فنجان قهوته المعتادة، الممزوجة بقطرات من شفتي زوجته، وأمسك بقلمه محاولاً تفسير حلمٍ يراوده منذ سنين.

بدأت أنامل يديه ترتعش.. كلماته باتت تتلعثم عاجزة عن الخروج على تلك الشواطئ البيضاء، حتى عرقه لم يرحمه إلى أن ينتهي، وكأنه يريد إغراقه في تلك القطرات المتساقطة منه، فلا يقوى على الكتابة، فيمضي إلى حال سبيله.

كادت ليلته أن تكون أشبه بصراعٍ بينه وبين نظيره الآخر، وكلما حاول البحث عن ملاذٍ أخيرٍ له، يأتي هذا الآخر ليعدله عن تلك المحاولة، وكلما أراد أن يستقر على جسدٍ يلتحفه من برودة الكلمات، يسارعه ليخطف منه ذلك الجسد بقليل من تلك الإيماءات الشيطانية الملعونة.

لم يستسلم أبداً لهذا الموت المتربص له على عتاب شهيقه وزفيره، فهو الذي عهده جميع رفاقه شخصاً سديد الحكمة، وقوي الإرادة، وعاشقاً للمغامرة، فكيف له الآن في لحظاته الحاسمة يركع للموت ويرضخ للانهيار.

كان يحس أن أنفاسه التي تتساقط منه لن تعود بعد ذلك، وأن نبضات قلبه تتسابق فيما بينها كي تنال رضا هذا الآخر، معتقدة أنه أقوى منه، وأنه باقٍ لا محالة.

لم يجد أحداً يدارى سوءة هذا الخوف، سوى زوجته، تلك الحبيبة التي طالما غسلت ذنوبه برحيق طهارتها الأنوثية، والعشيقة التي طالما بحث عن حياة ملائكية وجدها في عينيها الطفولية البريئة.

أراد أن يخلق من جسدها النحيل الناعم حصناً له، فلا تهزمه ولا تغدر به تلك الأوهام المميتة.

رغم أنه ما زال واعٍ على روحه، ومدركاً جيداً أن ذلك الآخر ليس سوى هواجس وهمية، إلا أنه أحس بشعور أشبه بشعور الراحلين عن ديارهم.

فسارع إلى زوجته، وقد تصبب جسده عرقاً، وشعر أن المسافة بينه وبينها طويلة جيداً، رغم أنها لا تبعد عنه سوى بضع مترات لا أكثر.

وقف أمامها، وكأنه يقف أمام امرأة لأول مرة بحياته، بل وكأنه لم يرَ أنثى قط طوال ثلاثة عقود من حياته.

بدا يتحسسها ويتأمل تفاصيلها من جديد بنظرات حالمة، ليظهر عجزه عن الثناء والشكر لتلك النعمة التي أنعم الرب بها عليه، فأوجد له تلك الجوهرة النبيلة، التي يراها بحلة جديدة لأول مرة.

لم يترك شيئاً إلا حدق فيه، وكأنه يريد أن يخلقها من جديد برؤيته الخاصة، واضعاً عليها لمساته الأخيرة قبل الرحيل.

حاولَ البحث عن كلمات تتناسب وقداسة تلك المرأة على فؤاده، فلم يجد أقوى من الصمت، وأنبل من حديث العيون، وأعذب من ترجمان الروح والقلب.

أدركت زوجته، بفطنتها الأنثوية، وبحس العاشقة المتيمة، أنه لجأ إليها مستنجداً، هارباً من لعنة كبيرة، ومن كابوس أكبر..

فسارعت إليه، واحتضنت طفلها الضائع من جديد، ليستقر بين ذراعيها في غفوة طويلة، فحاولت أن تحمل عنه بعضاً من حمله الثقيل الذي ما زالت تجهله.

نظرت إلى يديه المرهقتين بالكلمات، والتي عجز حتى عن الإمساك بخصلة شعر حبيبته كما اعتاد، فقد كانت يداه منهارتان كانهيار الجليد في قمرة الشمس الحارقة.

ترك زوجته لطقوسها الزوجية، وعاد أدراجه مرة أخرى إلى مكتبه، ليبدأ الصراع من جديد مع تلك الهواجس، ولكن هذه المرة أصبح أكثر تماسكاً مما سبق، وبات يتطلع للقضاء على رغبة الآخر منه، لا على رغبته في انتظار الموت.

أمسك بقلمه، وبدأ يتخطى عتبات صفحاته الملساء، ليكتب عليها ما كتب، وبدون أن يدرى انغمس في النوم مسلوب الإرادة والإحساس، من كثرة من عانى في كتابة تلك العبارات.

فدخلت عليه بفنجان آخر من القهوة، لتجده نائماً على أريكته، ملتحفاً بأوراقه المعتقة بعطرها، والمغتسلة بقبلات كانت تتهادى لكليهما منذ كانا عاشقين.

اقتربت منه قليلاً، فخطفتها عيناها إلى ما كتب من كلمات، فقد اعتاد دائماً أن تضع هي اللمسات الأخيرة لكل عمل يكتبه.

أمسكت بتلك الصفحات المختلطة بحروفه..

لتجد عبارة واحدة خطّت جميع الصفحات، تقول : "إني مستقيل.. وعلى شاعرك السلام!!".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??