الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوحل .!!

ميشيل زهرة

2017 / 10 / 4
الادب والفن



نادرون ، في المدينة ، من لا يعرفون الأستاذ ( ...!! ) ..ليس لأنه مدرس علم الاجتماع المتميز ، و لا حتى من أجل معارضه الفنية ، المتميزة ، التي يقوم بعرضها في صالات المدينة ، قبل الحرب و خلالها .! بل لأن هناك ما هو مثير ومربك في شخصية الرجل بعد بدء الحرب . مما جعل من يحبه ، و يحترمه في المدينة يتريث كثيرا قبل أن يقول : خسارة أن أسمع عن الرجل ما أسمعه ، لقد صرعته الكتب الكثيرة التي قرأها.! هذا إذا طرحت مشكلته أما العامة من الناس . أما لو تناوله ( النخبة ) فثمة من يعطي رأيا مختلفا في الحالة النفسية العجيبة التي وصل إليها ، حتى أنه حيّر أطباء النفس و العصبية في المدينة . و لكن هناك من شطح في تفكيره من النخبة فقال : هذا الرجل ، طور عقله الحداثي إلى ما بعد الحداثة ، و خاصة ، لأنه فنان تشكيلي متميز التفكير ..و لكن من النخبة من أكد : إن المشكلة نفسية مرضية لا غير . و إلا لماذا لا تصيبه الحالة إلا في مؤسسات العامة ..؟؟
في صباح أحد أيام الدوام شاهده ، كما قال لي عبودي ابن خالتي ، في مديرية ( ..! ) في المدينة ..يلبس قميصا ناصع البياض ، و بنطالا أبيض ، و حذاء أبيض ، و لم أر لون زناره لأنه يرخي قميصه فوقه ، و لم أكن أعرفه حتى ذلك الحين عندما أشارت الناس إليه أنه الاستاذ الكبير الذي فقد عقله متأسفين حزانى لوضعه . فاقتربت منه وسلمت عليه بكل احترام لأني تذكرت أنه أستاذي في الثانوية ، و عندما عرفني اطمأن لوجودي قربه و انطلق جسده في الاستجابة لحركات وهمه الذي أذهل الناس . للرجل خصلة شعر مثل زيل فأر خلف رأسه ، يربطها بما يشبه الخيط ، لا يفتأ يتأكد من وضعها فوق ياقة قميصه النظيف ، و يخرج بشكل دائم و بالتناوب من جيبه منشفة ورقية يمسح بها صلعته التي تبدو داكنة الحمرة مع وجهه الحليق دائما ، كتلك الحمرة التي تصيب وجوه من لديهم مشاكل قلبية كا لاحتشاء العضلي القلبي . فيمسح شيئا ما عن صلته ، رغم أنك لو راقبت جسده الفائق النظافة لما وجدت عليه ذرة غبار واحدة ، لكنه مع ذلك ، يوحي لمن يرقبه أنه يمسخ شيئا قذرا عن وجهه ، أو يديه ، او ثيابه . و هذا ستكتشفه لا حقا من تغضنات وجهه ، وحركاته الهاربة من شيء ما وهمي سوف يسقط من السقف ، أو الجدران ، فيجبرك أن ترفع نظرك إلى حيث مصدر القذارة ، فلا تجد شيئا فتصيبك حالة من الارتباك قبل أن يسيطر عليك بروحه الخائفة ، و الناقمة ، و المتحفزة دائما ، فتتحرك معه بالعدوى خوفا من ذاك الشيء المخيف الذي سوف يسقط على رأسك . هذا ما يحدث قبل أن يسرّ لك بهمس واثق ، و أنت تراقب وجهه القلق : اللعنة ..انظر إلى جدران هذه المؤسسة كيف تشققت ..انظر إلى هذا الوحل الذي ينز من هذه الشقوق ..!! و عندما يقول لك ذلك ، تجد نفسك مدفوعا بواجبك تجاهه ، كأستاذ لك في مرحلة من عمرك ، أن تقف لجانبه في لحظات حداثته العالية الشفافية ، و المرهفة الحس .! أو كما يقولون عنه ( مجنون ) ما لم أستطع قوله ، أو حتى الاعتراف به كصفة لا تليق بأستاذ كبير ، و هو الرائع الذي لو خرج من المؤسسة لصار إلى أستاذ متميز الأداء ، و فنانا متميز اللوحة ..! كان يحمل في يده بعض أوراق يريد توقيعها من مدير المؤسسة التي التقينا فيها فصحبته إليه ، إذ راح يشرح لي ما يراه ، و هو واقف في دوره بكل أدب ، لولا حركاته الهاربة من وحل مفترض سيسقط من السقف و الجدران على ثيابه النظيفة و الأنيقة ..! لكن ما أوشك أن يثير ضحكي الذي كتمته ، عندما قال لي همسا : انظر إلى يدي المدير و عينيه ..ألا ترى الوحل ينز منها ..؟؟ و عندما وقف المدير ليسلم أوراقا هامة إلى سكرتيرته التي أدارت لنا ظهرها ..همس في أذني : انظر إلى سحاب بنطال المدير ، و سحاب تنورة السكرتيرة الخلفي ..كيف يتحملون رائحة هذا الوحل ..انظر كيف يسيل الوحل على سيقانهم ، و مؤخراتهن ، دون خجل من الزبائن ..! و عندما مرّت الفتاة من قربه ، ابتعد عنها بقرف لكي لا تلوثه بوحلها ..و عندما عاد المدير إلى مكتبه تقدم منه بأوراقه فوقعها له ، لكنه مسحها بعد أن أخذها بما تبقى لديه من محارم و رقية . و مشيت معه من مكتب إلى آخر حتى دخلنا إلى الديوان لتصديق الأوراق وختمها ..هناك كان الموظفون مسنون على أبواب تقاعد ..يضعون نظارات مكبرة على عيونهم ، ينظرون إلينا ، كم توحي نظراتهم ، باحتقار ، أو هكذا خيل لي ..ربما بسبب مد النظر الشيخي ..لكن الأستاذ ( ..! ) همس في أذني : غريب ..! ألا تراهم كيف ينظرون إلينا ..؟؟ ألا ترى الوحل كيف يغطي زجاجات نظاراتهم ..هذه النظرات الحاقدة ليست إلا بسبب الوحل و رائحته يا بني ..قلت لي ، في أي صف علمتك ..؟؟ و عندما تأكد من الجواب : في الثانوي يا أستاذ ..قال لي : صارت ثيابي بحاجة إلى تنظيف ..لن أشغل زوجتي بها ..سأدفع بثيابي إلى المصبغة ..لأن هذا الوحل الذي على ثيابي لن تستطيع غسالة البيت تنظيفه ..! و نظرت إلى ثيابه فلم أر غبارا عليها ..و قد استجبت لقناعته بالقذارة التي لحقت به في هذه المؤسسة ..و لكن الصدمة الكبرى له ، كانت عندما وصلنا إلى قرب باب المصعد المعطل ، و المليء بالقاذورات .. أعقاب السجائر ، و بقايا سندويتشات متعفة ..هناك واجهنا رجل سلم على الأستاذ بحماس ، كان كما يبدو من هيئته ، وتواضعه أنه أصغر موظف في المؤسسة ، و على الأغلب أنه آذن في أحد الطوابق ..و عندما قبله بدون أن يقرأ في وجه الأستاذ إذا كان يتقبل ذلك ..مما دفع الأستاذ أن يصرخ في وجهه : حتى أنت يا رجل يغمرك الوحل ..؟؟ فمضى الرجل مندهشا ..و هبطنا الدرج من الطابق الثامن مشيا على اقدامنا يلفنا الظلام ، و رائحة قذرة تأكدت من خلالها أن الوحل فعلا ، فعلا ينزّ من الجدران جميعها ..و لولا لباس الأستاذ الأبيض النظيف كاللبن ..و الذي كان يضيء عتمة الدرج ..و هو يسير أمامي لما أدركت طريقي في هذه الظلمة الحالكة ، و الرائحة التي اثارت غثياني ..!
في مدخل المبنى كانت هناك ضجة جعلتنا نقف حائرين خائفين من تجمع الناس حول سيارات الاسعاف ، و الاطفاء ، و رجال الإنقاذ ، و كأن حريقا قد حصل ، لو لم يوضح لنا شرطي هائل البطن ، واسع الشدقين قائلا ، كأنه يفشي سرا : في ملجأ البناء اكتشفوا الكثير من الجثث التي طمرها الوحل ..!!
لا أدري لماذا لم يوله الأستاذ انتباها ، بل خرج من بوابة المبنى كمن لا يهتم لشيء ، و سرت خلفه يتملكني رعب شديد القسوة ..في الوقت الذي كان الوحل يتدفق من باب المبنى الذي خرجنا منه ، و يتمدد في شوارع المدينة مثل حمم البركان التي تسيل في الوديان ..و راح الطين يرتفع في الشوارع حتى ظننته أنه سيخنقني ، و يخنق المدينة كلها لو وصل إلى أنفي قبل أن أصل البيت ..كان الصراخ المرعب في المدينة يملأ الأرجاء ، و الوحل يرتفع رويدا رويدا ، و أنا أتبع الأستاذ بصمت المرعوب من الاختناق ، في الوقت الذي كان فيه الأستاذ يسير فوق الوحل دون أن يتلوث كحمامة بيضاء ، في شوارع المدينة التي لم تُقدّر عقل الأستاذ ضياء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟