الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيريسترويكا غورباتشيوف (5 من 9)

عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)

2017 / 10 / 8
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا


إعادة البناء في الاتحاد السوفياتي والعالم الإشتراكي

يقول غورباتشيوف بصدد هذه النقطة الهامة ـ إعادة البناء في الاتحاد السوفياتي والعالم الإشتراكي، بأن المبدأ الأممي يُلزمه قبل إتخاذ أية خطوة مهمة وجوهرية في الاتحاد السوفياتي، وزن معناها بشكل دقيق على الاشتراكية ككل. ويؤكد على أن ما من بلد إشتراكي يستطيع التقدم الى أمام بنجاح، دون التضامن والتعاون ذي المنفعة المتبادلة بين البلدان الشقيقة.

يتبادر الى الذهن من تلك العبارات عند تأملها، أول ما يتبادر، وقبل كل شيء، التصور بوجود مساهمات وأدوار مهمة وجادة للدول السوفياتية في أطراف الاتحاد السوفياتي نفسه، وفي الدول الاشتراكية الأخرى، فيما يتعلق بتقرير الخطوات التي تتعلق بالمصير المشترك لتلك الدول في فترة البيريسترويكا. ولكن في واقع الحال نجد أن الخطوات والقرارات التي حكمت سلوك قيادة غورباتشيوف وإنعكاسها على مصير الاشتراكية تعبر عن تصرف مختلف تماماً. وجد ذلك الاختلاف العميق صداه في تصريحات واضحة صدرت عن قادة تلك الدول أثناء سير الأحداث، وبعد تفكيكها وتحولها الى الرأسمالية. وقد تُركت مثل تلك الإنطباعات ليس في الإطارات القيادية فقط، وإنما في ذهن وذاكرة وكتابات مَنْ عاش تلك الأحداث حتى كمراقب فحسب. بل إن قيادة وأعمال وإدارة غورباتشيوف ذهبت أبعد من ذلك، ووصلت حد الضغط على قيادات الدول الاشتراكية الأخرى.

وفي محاولة لتبرئة الذات من ممارسة الضغوط على الدول الإشتراكية الصغيرة باتجاه تعميم البيريسترويكا، إنصب أحاديث وتصريحات قادتها بإتجاه أو بطريقة تقول: كل الطرق تؤدي الى روما. وذلك من خلال ترويج، لا يخلو من الزجر، لمفاهيم ومواقف، مثل: الإنفتاح على الغرب في العلاقات الدولية، والبحث في خيارات إقتصاد السوق، وإطلاق شعارات لا ملمس لها، وتحتمل في الوقت نفسه الشيء ونقيضه.

يُلاحظ القارئ في معظم مساهمات غورباتشيوف أنها في نهاية المطاف تصب في طريق العودة الى الرأسمالية. كما لم ينل موضوع إعادة البناء في العالم الإشتراكي أهميه أو عناية مركزية في كتاب غورباتشيوف كماً وكيفاً. وكذلك في الحياة الفعلية، وإن كل الكلام والأفعال كانت بمثابة توطئة لقادم السنوات والخطوات اللاحقة.

يواصل غورباتشيوف مساعي التخلي العملي عن الإشتراكية حسب قول البلاشفة في حزبه، وقال قسم من المحللين والكتاب والمعنيين إن موقفه يعني: خيانة الاشتراكية. غورباتشيوف واصل موقفه عبر القول: إن البيريسترويكا جاءت لضخ حيوية نوعية جديدة في حياة المجتمع السوفياتي. ويسعى الى مشاطرة الأشقاء في البلدان الاشتراكية تلك الحيوية والتوجهات. والعمل على إضفاء المزيد من الدينامية على التعاون بين دول العالم الإشتراكي. وشملت الضغوط أيضاً للدفع صوب البيريسترويكا المجال الإقتصادي حيث بدأت ضغوط إعادة تسعير النفط السوفياتي، دون إشارة الى إعادة مقابلة لتسعير معادن أخرى تستورد من الدول الاشتراكية الأخرى، ومنها اليورانيوم وغيره.

ضمن ما كان يُعرف بسياسة العصا والجزرة ـ المكافآت والعقاب. جرى ممارسة بعض الضغوط السافرة تارة والمستترة تارة أخرى، منها التلميحات الى أن السياسة الجديد بغض النظر عن عمقها، لن تمر عبر الوسائل القاسية المعروفة. معظم دول شرق أوروبا الاشتراكية فهمت الرسالة.

هذا ما يفسر التحول المرن والسلس في معظم حالاته، مع بعض الإستثناءات القليلة، مثل إعدام الرئيس الروماني وزوجته نيكولاي تشاوتشيسكو وإيلينا تشاوتشيسكو. وإطلاق العنان للإنفعالات القومية الدموية الطابع، كما حصل في الاتحاد اليوغسلافي السابق.

ولا تخلو الحالة في جانبها الآخر، من بغض الإغراءات، ومنها، التلميح الى إمكانية إنتقال بعض النشطاء، من النشاطات السياسية الحزبية الى النشاط الرأسمالي، في أول عملية إعادة صناعة متعمدة للرأسماليين ورجال الأعمال الجدد. وهذا العمل أو التلميح خير تخدير، ولا يقاومه إلا أصحاب المبادئ الراسخة، وهم قلة أبد الدهر. خاصة أن الدعوة الإشتراكية وحكمها ليس في بداية عهدهما، وجاء ذلك الإغراء بعد سنوات من الإنحرافات والخدر وأخطاء ومنح الإمتيازات وما الى ذلك من الحالات السلبية. ومن المعلوم في أية دراسة لبدايات الحركات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية تفيد بأن صنف المؤسسين أكثر متانة من النواحي الروحية والإستعدادات النفسية وإحترام سلوك التضحية وما الى ذلك من الأجيال الجديدة التي لم تجرب المرارات السابقة. ومع التقادم تضعف الجوانب الروحية إن لم تتحلى القوى المعنية بروح التجديد والإبداع والإيثار المتواصل.

يضيف الكاتب كعادته بعض الهمزات التقريرية، التي قد تضعف اليقظة عند القارئ، لأنها لا تخلو من ذكر بعض الحقائق، ولكنها لا تنطوي على فعل معين، مثل أقواله: إن الاشتراكية أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية كياناً دولياً قوياً. وإن البلدان الاشتراكية لم تسير على مستوى واحد، ومرت بمراحل غير سهلة، ولم يتم التعاون دون عثرات وكبوات مهمة.

ولكن المهمة التي سعى إليها غورباتشيوف تتمثل بالتعبير الملتوي وغير المتكامل الأوجه. فخلال عرضه لعلاقة الاتحاد السوفياتي مع الدول الاشتراكية. يشير في إطار البناء الإشتراكي الى إعتماد الدول الاشتراكية على التجربة السوفياتية، دون أخذ خصائص كل بلد على حدة. واعتبر أن الأسوء في تجربة التعاطي التقليدي، أنه حظى بتغطية إيديولوجية، من قبل بعض المنظرين والخبراء السوفيات، وفي المقابل ظهرت حالات من التقوقع على الذات في العديد من دول المنظومة الاشتراكية العالمية، تحت ضغوط عمليات البناء، الى جانب الضغوط المركزة من قبل الامبريالية سياسيا وعسكريا وإقتصاديا وإيديولوجياً. ونسى نفسه وقيادته على هذا الصعيد، وإذا كانت التجارب الأخرى تدخل في حلقات الأخطاء أو الخروقات أو ما هو أقسى منها، ولكنها على أي حال أبقت على تلك الأنظمة بما لها وما عليها، وحققت نجاحات باهرة في مجالات عديدة، ولكن إعادة البناء قضت على التجربة بأكملها.

يتهم غورباتشيوف القيادات السوفياتية التي سبقته في موقع المسؤولية بعدم إدراك المخاطر في الوقت المناسب، ويتهم القيادات في الدول الاشتراكية الأخرى بأنها كانت تلوذ بالصمت على حد قوله. ويتوصل الى حكم يُفيد بأن الصراحة الصادقة لم تكن معهودة. وذلك خوفاً من إساءة فهمها على حد ما ينقله أو ينسبه عن وعلى لسان قادة دول المجموعة الاشتراكية. ووصف ما حدث في المجر وفي بولندا عام 1956، وفي تشيكوسلوفاكيا عام 1968 وفي بولندا عام 1980 بالأزمات الخطيرة مع خصوصية كل حالة على حدة، وهي كذلك. وأشار الى الدروس المريرة في علاقات الاتحاد السوفياتي مع كل من: يوغسلافيا، الصين، ألبانيا. ولكن أموراً خطيرة كالتي تناولها، ليس من المناسب أن تندرج في عملية تجميع وحسب، وخالية من أي تحليل أو مناقشة تناسب تلك الموضوعات والأحداث وخطورتها على الاشتراكية والاستقرار الدولي أيضاً.

تلك الأحكام القطيعية التي أطلقها غورباتشيف ربما تكون صحيحة في وصف حالة أو فترة ما، وعارية عن الصحة في وصف حالات وفترات أخرى، وبالأساس فإن سياسة الاتحاد السوفياتي لم تكن هي هي في كل المراحل والفترات، على الأقل في الجوانب الإجرائية وشكل صياغة وممارسة القرارات.

تولي المسؤولية الأولى بالحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي ثمانية أمناء عامين، هم على التوالي: فلاديمير لينين، جوزيف ستالين، جورجي مالينكوف، نيكيتا خروتشوف، ليونيد بريجينيف، يوري أندروبوف، قسطنطين تشيرنينكو، وميخائيل غورباتشيوف. وكل من هؤلاء القادة له سماته المميزة والمختلفة عن الآخر، من حيث القدرات النظرية والسمات القيادية والنفوذ داخل الحزب وفي المجتمع، وكذلك في إسلوب التعامل مع التدابير الإجرائية والقرارات المختلفة على صعيد الحزب والمجتمع والأممية وفي شؤون الحكم والحياة. وكان لكل منهم نجاحاته وأخطاؤه، ولكنهم جميعاً لم يفرطوا بالبناء الإشتراكي، ولم يظهروا ضعفاً معلناً أمام الإمبريالية العالمية عدا الأخير. وبالمقابل لا ينبغي الوقوع في الفهم الإجتماعي البرجوازي بصدد تقويم أدوار الأشخاص والقادة المميزين القائم على وهم أن مصير المجتمعات متوقف على نشاطات القادة البارزين، مع تجاهل القوانين الموضوعية لتطور المجتمعات، والسعي للتقليل من دور الجماهير.

هنا، لست بصدد إبداء رأي حول القادة السبعة الآخرين بتاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، لأن موضوعنا الحالي يعالج فترة معينة في ذلك التاريخ ـ فترة البيريسترويكا. هذا مع الإقرار بأن التاريخ السوفياتي له أهمية كبيرة على النطاق الاشتراكي والإنساني وعلى نضال الشعوب عامة، وشغل حيزاً هاماً على مدى القرن الماضي كله، وربما للقرن الحالي من التاريخ الحديث.

بديهي أن أية لحظة تاريخية غير منفصلة عما سبقها، وهي تلقي بظلالها الخاصة على اللحظة القادم بعدها أيضاً. ولكن أقول بصدد طبيعة سلوك غورباتشيوف لم أشاهد أو أسمع أو أقرأ في تاريخ المنظومة الإشتراكية السابقة مَنْ تذلَّل وتقاصر للغرب على طريقة غورباتشيوف. بل وصل به الأمر حد ممارسة ما يشبه الإعتذار عن قادة سوفيات سبقوه. فعلى سبيل المثال، يقول: "تكاد العبارة المعروفة التي قالها خروتشوف "سنطمركم" ! تكون الأكثر رواجاً في الغرب من بين أقوال أيٍّ من القادة السوفيات". (الكتاب: ص212). ويجهد نفسه لتفسيرها وفق الظروف والتجارب السوفياتية، ويضيف: "لقد كان خروتشوف إنساناً شديد التأثُّر، يتالم عندما تصطدم جهوده المخلصة في تحسين الوضع الدولي ومبادراته بجدار اللافهم والمقاومة.". (الكتاب: ص213).

ومن جانب آخر، فإن التقليلُ من دور القادة في توجيه المصائر لا يقل خطورة عن تضخيمها. ومن المهم الإقرار بأنه إذا توافرت للقادة شروط أجتماعية مساندة، وبات جهاز الحزب والدولة يعمل لصالحهم، فإنهم يمكن أن يلعبوا أدواراً إستثنائية، ويتركون بصماتهم الخاصة بقوة تكاد تبدو دورهم وكأنهم صانعو التاريخ.

ينبغي أن يُدرس بعناية دورَ الشخص الأول في أي حزب أو سلطة أو مؤسسة إنتاجية أو ثقافية أو حتى عصابة، لإستخلاص بعض العبر عن عمليات صناعة القادة. يُصنع الشخصُ الأول في الأحزاب من خلال الأشخاص الأكثر نفوذاً في الحزب أو الحركة المعنية، وهؤلاء بدورهم خلقتهم تراكمات وعوامل معينة أيضاً، ولكل حالة خصوصيتها المميزة. وهنا من المناسب دراسة طبيعة المؤتمرات وممهداتها وأصولها الإجرائية والظروف العامة المحيطة، التي تنتج القادة، هذا على نطاق الأحزاب.

كما ينبغي إيلاء عناية خاصة بالإنتخابات العامة على نطاق كل مجتمع، وهذه العملية تديرها نخبة تملك مقومات خاصة، ويمكن تحديد أو تشخيص أهم مصادر القوة المُحركة في هذه الحالة، منها: مستوى الوعي الوطني العام، وقوة الطغم المالية، وأصناف النخب، وسائل الإعلام الجماهيري وأساليبها، وطرائق وأساليب توظيف خبرات علوم الإنسان المختلفة، وتوظيف الخبرات والأبحاث الملموسة أو المحدودة، وبقية العوامل الأخرى المؤثرة. كل نقطة وردت لها فروعها ومؤثراتها، وتتطلب مهارات عالية لإعادة توظيفها. إن الأدوار الفردية تتشابك مع العوامل الموضوعية المتنوعة. والميزان هنا بصددهما في غاية الحساسية بما يجعله ليس مصدراً للإطمئنان، وإنما للمزيد من التداخل والإختلاط، مما يتطلب اليقظة والحذر وحتى القلق.

إن الأحزاب الشيوعية في الدول الاشتراكية السابقة تختلف من بلد الى آخر، من حيث نفوذها الجماهيري، وعمق صلاتها، وطبيعة النضالات التي خاضتها، وظروف تكوينها، ودرجة إعتدادها بنفسها وتصوراتها للعالم والعلاقات الأممية. كما إن طبيعة ومستوى تطور بلدانها ينعكس عليها بقوة. فعلى سبيل المثال كانت بولندا تتميز بوجود ملكية زراعية صغيرة واسعة النفوذ في الريف والمجتمع، إستمرت في فترة البناء الإشتراكي أيضاً، وكانت تشيكوسلوفاكيا تملك صناعة متطورة. وهذا الحال إنعكس على سلوك وقوة الحزبين القائمين على ذات النظرية في البلدين.

تتمتع بعض الأحزاب الشيوعية في شرق أوروبا بنفوذ شعبي كبير، ووصلت الى السلطة عبر إنتخابات عامة، وكانت الأوسع إنتشاراً بين الأحزاب في داخل بلدانها، مثل حالة الحزب الشيوعي اليوغسلافي، وكذلك الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، وقد إمتحنت الحياةُ تلك الأحزاب في معارك قاسية، منها حروب المقاومة ضد الإحتلال النازي، الى الفوز في المعارك الإنتخابية العامة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي البناء الإشتراكي اللاحق نفسه، مثل: الحزب الشيوعي التشيكوسلوفكي واليوغسلافي وغيرهما.

يرى صاحب كتاب البيريسترويكا أن الاشتراكية وقفت على قدميها في أواسط الثمانينات، أي عندما حلت البيريسترويكا في الاتحاد السوفياتي، وينتقد بشدة العلاقات التي كانت قائمة بين قادة دول المجموعة الاشتراكية في السبعينات، التي إتخذت طابعاً إستعراضياً فحسب.

ودعا الى علاقات جديدة بين دول الأسرة الاشتراكية تقوم في الأساس على الاستقلالية التامة. هذه الدعوة لم يمارسها صاحب الدعوة نفسه في علاقاته مع بقية أعضاء الأسرة الإشتراكية. وعلى العكس من إدعاء غورباتشيوف شهدت العلاقات بين قادة دول المجموعة الاشتراكية والقادة السوفيات منعرجات بعضها حادة جداً بسبب إختلاف القراءة للظروف الموضوعية المحيطة. ولكن بالمقابل منذ إنقسام العالم الى الثنائية القطبية، الى معسكري الاشتراكية والرأسمالية، هل هناك بلد غربي تجاوز حدود المعارضة اللفظية لسياسة وسلوك الولايات المتحدة الأميركية في المنعطفات الحادة جداً، بما فيها ممارسة الإحتلال والعدوان المسلح.

وعلى صعيد التحالف العسكري بين الدول الإشتراكية، يعترف الزعيم السوفياتي بأهمية ذلك التعاون، بقوله: "لقد إرتدى تمديد فترة معاهدة وارشو بالإجماع من قبل أعضائها أهمية بالغة في الوضع الدولي الصعب".(الكتاب: ص235). وأكد على الصعيد الاقتصادي على أهمية مبادئ المراعاة الثابتة للمنفعة والمساعدة المتبادلتين، وتحقيق قفزة كبيرة في التقدم العلمي ـ التقني والاقتصادي. وتحدث عن برامج التجديد، وكأن تلك المجموعة ظهرت للوجود مع تولي غورباتشيوف لقيادة الحزب، وثم الدولة والحزب معاً.

وبيَّنَ خططه لمجلس التعاضد الاقتصادي، التي تقوم على: تعميق التكامل بين الدول الأعضاء، وإشاعة التخصص بينها، وإنشاء شركات إشتراكية مشتركة، وتسريع التكامل عبر تنسيق السياسات الاقتصادية، وصياغة برامج طويلة الآجال، وصياغة أسس معيارية لأوالية التكامل. قال كل هذا الكلام، ولكنه من الناحية العملية لم يتخذ خطوة واحدة لتطوير التعاون الذي كان قائماً سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً. وعلى الأرض كان كل جهده يتجه غرباً الى بيت أحلامه وأحلام منهجه.

عند تناول غورباتشيوف لرد فعل قادة دول شرق أوروبا، على "إصلاحات" البيريسترويكا، مر على الموضوع مروراً خاطفاً، وتناول الموضوع عبر إستنتاجه من سؤال طرحه عليه رئيس وزراء فرنسا حينذاك جاك شيراك: "هل تعتقدون أن روح البيريسترويكا ستؤثر على كل الدول الاشتراكية في شرق أوروبا؟ اعتبر غورباتشيوف سبب السؤال ما تردد من أحاديث عن عدم موافقة بعض الأشقاء. وأجزم بعدم وجود خلافات بين الأشقاء على حد وصفه لقادة دول شرق أوروبا. وهذا كلام لا يتطابق مع واقع وتطورات الأحداث، فالأحزاب التي عارضت طريقة إدارة "الإصلاحات" تدعي أنها سحبت وجودها من الشارع، بعدما تسلمت ما يشبه التهديد، عبر الإعراب لها عن التخلي عنها من الناحية الاستراتيجية، إذا ردت على نشاطات المعارضين أو أعاقت توجهاتهم. بعض تلك الأحزاب ذات شعبية واسعة، وحافظت على مكانة مرموقة لها في البرلمانات بلادها حتى بعد التحولات، والبعض الآخر عاد الى السلطة تحت ظل برامج "مخففة" أو أقل من برامج ذات مضمون إشتراكي ديمقراطي.

يستدعي غورباتشيوف كعادته لينين لدعم توجهاته، ويرى أن الاشتراكية حسب لينين ستتكون من مجموع تجارب مختلف البلدان. ولهذا فمن الطبيعي أن المقياس الصحيح لجدية الحزب الشيوعي الحاكم، ليس موقفه من تجربته الذاتية فحسب، بل موقفه من تجارب الأصدقاء، ومن التجارب العالمية أيضاً. ولكن هذه المرة دون تحديد موقع الإقتباس، وعن أي من التجارب كان لينين يتحدث، وهل هناك تجارب إشتراكية أو منظومة لمجموعة الدول الاشتراكية أصلاً الى يوم وفاة لينين؟

لدعم موقفه وتصوراته يعود غورباتشيوف الى أحاديث أفراد خلال لقاءاته، وهنا تحدث عن شاب تشيكي إلتقاه خلال زيارته لبراغ وجولات في شوارعها وفي معاملها وبقية موؤسساتها. عبر ذلك الشاب عن دعمة للبيريسترويكا. وقال له: "ميخائيل سيرغييفيتش: "قل الحقيقة، وأحب الحقيقة وتمن الحقيقة للآخرين". وقال غورباتشيوف من جانبه: "وإعمل بصدق، فهذا أصعب العلوم". ثم أضاف: "الحياة أصعب من كل المدارس، إذ لا يؤخذ فيها كل شيء بسهولة دائماً. أحياناً يتوجب عليك التراجع ومن ثم التقدم. ولا يجوز الخوف من التفكير المضني والتمعن ثم إعادة التفكير مجدَّداً". (الكتاب: ص239).

يوكد على أهمية الإستماع وتطوير العلاقات بين العمال والتجمعات السكانية، وتبادل الخبرات في المجالات كافة، وتعزيز العلاقت الاجتماعية والحكومية والحزبية، وبين العوائل ومنظمات الأطفال والشباب والجامعات وفرق العمل ومع أهل الثقافة والإبداع، والإتصالات الفردية.

وأفرد بضعة أسطر للصين ووصفها بالدولة الاشتراكية العظمى، وأنه سعى لتطوير علاقات بلاده معها بإتجاه حسن الجوار والمزيد من التعاون، وإن تقدماً تحقق على هذا الصعيد، وإن فترة التباعد أصبحت نسياً منسياً، ودعا رفاقه في الصين للعمل معاً على تطوير العلاقات الطيبة وزيادتها بين البلدين والشعبين، ولم يذكر بين الحزبين.

يخلص غورباتشيوف الى نتيجة تُفيد، بأن تطوير العلاقات قد فرض نفسه على الدول الاشتراكية، خاصة ضرورة تسريع خطوات الإنتقال الى مستويات متقدمة في الإقتصاد والعلم والتقنية وإظهار نمط الحياة الإشتراكي بمظهر مقنع. ويؤكد على أنه قوَم التطور الماضي بكل جدية وصراحة ونقد ذاتي، وأخذ على الاتحاد السوفياتي كامل المسؤولية عما لم يكن موفقاً في العالم الإشتراكي، ويرى أن الكثير من المنجزات قد تحققت وتنامت أهمية التعاون وضرورة إغنائه، بالإعتماد على التقدم العلمي ـ التقني وإبداع الجماهير وتطوير الديمقراطية.

ويختم مسألة إعادة البناء في الاتحاد السوفياتي وبقية دول العالم الإشتراكي بعبارات شاعرية، لم أجد وصفاً مناسباً لها: جاء فيها: "ها هي التحولات الثورية تدخل البيت الإشتراكي الدولي الكبير، وقوتها في تزايد". ويضيف بشيءٍ من التفاخر: "صحيح أن هذا يخص البلدان الاشتراكية، لكنه في الوقت عينه إسهام في تقدم ركب الحضارة". (الكتاب: ص241). وهذا كلام لا يستوجب أي تعليق.

يتبع: "العالم الثالث" في المجتمع الدولي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -