الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار والانتخابات وعزلة النخب

ناجح شاهين

2006 / 2 / 18
القضية الفلسطينية


ليس الفعل الثقافي في بلادنا رائجا من حيث المبدأ على الإطلاق. إنه فعل موسمي بامتياز. وكما في حالة الانتخابات التشريعية الأخيرة، يتصيد المثقف لحظته الفريدة من بين آلاف الطرائد التي لن يتمكن منها أبدا. فكرت في الكم الهائل من الوكالات والصحف والفضائيات التي صبت "جام شبقها" على انتخابات الشعب الفلسطيني الغلبان. أياً ما يكن اسم الوكالة فالسؤال هو السؤال دائما حول حماس وتطرفها وفرصها..الخ والمثقف هو المثقف دائما مهما اختلفت الأسماء، فهو ينهل من أرقامه دون أن يرتوي، ويمارس تحليلاته التي تعيد توصيف الواقع لا بشكل يتجاوز ما يفعله سائق التاكسي وحلاق القرية، لكن بلغة مطعمة ببعض الإنجليزية وأحيانا ببعض الملغزات العربية.
لم أستطع مقاومة الإغراء عندما سألتني مذيعة الفضائية الجميلة فهي لن تقوم بسؤالي كل يوم، هو موسم سينفرط عقده مع قريب، لذلك كان علي أن أتكلم ببطء ما أمكن لكن دون أن يبدو أنني لا أملك الإجابة على السؤال الذي قد يكون صعبا بالفعل، لكن لدي القدرات الاستثنائية والموهبة الفذة للإجابة عليه. رحت في تبسط وحنو فرضه واقعها الأنثوي، وجمالها الباذخ أبين كيف أنه على الرغم من تعاطف جزء كبير من الناس مع حركة المقاومة الإسلامية، بل وتعاطفي الشخصي معها فإن ذلك في الواقع لا يعني أنها ستفوز في الانتخابات. لا شك أنها قوة يجب أن يحسب لها ألف حساب، لكن الأرقام (هكذا يدخل سحر فيثاغورس ليذهب بما تبقى من عقل الجمهور الذي لا يفقه الكثير عن حالة الأرقام والطب والسياسة في بلادنا التعسة) الأرقام دون لبس تعطي حماس أقل من الفوز بكثير. ليس مرة أو مرتين أو... في كل مرة يا سيدتي المذيعة الحسناء، في كل مرة نجري استطلاعا علميا وفق أفضل الأسس العلمية المتبعة في بلاد الأنكل سام بالذات -وربما بتمويل من مراكزه البحثية أو من سفارته ليس مهما على أية حال اسم ممول الاستطلاع الذي ما كنا سنتنكب عبء إجرائه لولا سيل التمويل- في كل مرة حماس لا تربح والفارق واضح بينها وبين فتح، وعلى المتضرر اللجوء الى الانتخابات التي ستكشف كل شيء.
أحد قراء الحدث الانتخابي البارزين كان في غاية الذكاء وحسن التصرف عندما صرح في اليوم التالي في ندوة لمناقشة ما جرى أن ما نقوله هو في الواقع "كلام خطأ قد يكون عرضة للصواب." كان ذلك قياساً على فضيحة التحليلات التي تهافت المثقفون على تقديمها بلون واحد ومن دون طعم على موائد الفضائيات التي تهافتوا على تهافتها فكان ما كان. لكن "فورة " التواضع تلك لن تستمر طويلا بطبيعة الحال. ونحن لن نمل من تمثيل الدور الذي نمثل مهما ارتكبنا من حماقات. وربما أن ذلك سر المأساة، فالممثل لن يكون أكثر من ذلك مهما فعل؛ ونحن لن نصنع الحدث في كل الأحوال. وبينما يقوم هؤلاء ببناء الوقائع ويقوم أولئك بوضع دواليب في مسيرة عربة الحدث، فإننا نصرخ طوال الوقت: أنظر إلى الذي يجري، أنظر إلى الذي يحدث. ترى لماذا فشل أداء المراقب- المثقف بهذا الشكل السافر الذي يعلن بشكل صريح واستفزازي أن أدوات المثقف لا تفيد في شيء أبدا وأن من الأفضل له أن يغادر المسرح إن كان لديه بقايا من حمرة الخجل.
لكي أواصل لعبة المثقف في فبركة الحلول ببعض الاصطلاحات السريعة والمنمقة فإنني أؤكد أن السر يكمن في استلاب المثقفين أمام لغة الأرقام من ناحية وعزلة تحليلاتهم الانطباعية عن الجماهير وهمومها من ناحية أخرى. يرتكز هذين العمودين الذي يقوم عليهما كل " العلم " في قراءة الانتخابات السابقة على قاعدة مهتزة من مثقفي اليسار وفلوله. ولكي أستعجل النهاية الحزينة فإنني أقدم بالقول إن اليسار نفسه لم يحصل على شيء من الغنيمة. حتى أنه لم يستطع أن يأخذ الجلد والأحشاء الذي يعطى في العادة للخادم أو الجار الفقير. لقد حصل على أقل القليل ربما تقديرا لتدريبه مثقفين غير أكفاء للقيام بمهام التحليل التي لا تتباهى بها القوة السياسة الحية، أعني بالطبع حماس وفتح.
لعل فشل تحليلات المثقف هي انعكاس لفشل الخط الذي خرجه ودربه على امتداد سنين طويلة تتجاوز بكثير عمر حركتي فتح وحماس الجديدتين بالقياس. وإذا كان الانفصال عميقا الى هذا الحد بين اليسار والجماهير على الرغم من تنطحه لحمل هموم الجماهير وقضاياها فإن علينا أن لا نتوقع من محللين مدربين في ذات المدرسة ( مع إدراكنا أنهم يقدمون خدماتهم خارج حدود اليسار، ولكن تلك قصة أخرى لا تنفي النسب العائلي بل لعلها في بعض الأحيان تقوم بتأكيده) لا نتوقع منهم أبدا النجاح في قراءة الواقع الذي فشلوا في الانخراط فيه أيما فشل. كيف يتم تحقيق الاتصال بما يجري في العقل الجمعي الفلسطيني؟ أولاً عبر توزيع استبانة يطلب من الناس إجابتها: عينة عشوائية ..الخ مع المحافظة على الموضوعية.. لكن ذلك لا ينجح. لماذا لا ينجح؟ سنة 1968 انفجرت فرنسا وأوروبا كلها في انتفاضة طلابية مذهلة. لم يكن علم الاستطلاعات ولا علم النفس الجمعي ولا علم لاجتماع السياسي ولا أحد على وجه التقريب قد توقع ما حصل في قلب البلاد المتعالمة، أعني أوروبا بالذات: مركز الدنيا الحديثة. في عملي في التدريس أقوم بصياغة الأسئلة بأبسط ما يمكن من الطرق، يدهشني على الرغم من التدريب الطويل الذي أجريه لطلبتي في مدى أربعة شهور أنهم في النهاية يقدمون ليس إجابات مختلفة ولكن أشكالا من " الفهوم " المتباينة للأسئلة المطروحة. عالم الاستطلاعات الوضعي الفلسطيني يبالغ في تثمين البضاعة التي في حوزته والتي لا تنجح كثيرا في بلاد الأصل. يضيف إلى ذلك خطيئة أخرى هي أنه يستعين ببقايا تراثه الماركسي الذي يعارض الوضعية على طول الخط. والنتيجة هجين من الطرق الوضعية والجدلية لا يستقيم حاله أبدا، ويستفز عظام أرسطو في قبره طالبة من النخب الفلسطينية أن تراعي حرمة مبدأ عدم التناقض على الأقل إذا كانت لا تستطيع مراعاة قضايا أكثر تعقيداً مثل صعوبات البحث في السياسة وما تتطلبه من عمق بصيرة وقدرة هائلة على تجاوز الذاتية ومشكلة القيمة واستحالة ممارسة البحث التجريبي بمعناه الراسخ في العلوم الطبيعية. لكن النخب المنشغلة حتى أعمق أعماقها بتسويغ هزيمتها التي فاقت خسائر الأحزاب المغلوبة ليس لديها آذان تسمع أو عيون تبصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شيرو وشهد يختبران مدى التوافق بين عمار وريم ????


.. بحثا عن غذاء صحي.. هل المنتجات العضوية هي الحل؟ • فرانس 24 /




.. خروج مستشفى الأهلي المعمداني عن الخدمة بعد العملية الإسرائيل


.. إسرائيل قطعت خدمات الاتصالات على قطاع غزة منذ نهاية شهر أكتو




.. أمهات المحتجزين الإسرائيليين ينظمن مسيرة في الكنيست