الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عارُنا في أبي غريب

كمال سبتي

2006 / 2 / 19
حقوق الانسان


ليست صور السجناء في أبي غريب عارَ أميريكا بقدر ماهي عارنا.
ثمة في اللاوعي الأميريكيّ كما في اللاوعي الاستعماريّ كله مساحة أنانية لتبرير أفعال الاحتلال والقتل والاغتصاب والسرقة والإهانة..إلخ ولحظة ذرائعية لنسيانها.
ثمة دائماً دفاع غرائزيّ عن هذه الأفعال:
"هم" المسؤولون عما حدث لهم في هيروشيما وناكازاكي عندما لم يوقفوا الحرب.
و"هم" المسؤولون عما حدث لهم في أبي غريب. عندما لم يرحبوا بالاحتلال.
صورة المختلّ عقلياً الذي يؤمَر وهو مربوط إلى حائط بنطح باب الزنزانة الحديد برأسه في أبي غريب هي صورة محفوظة "عبر مثيلاتها" في اللاوعي الغربيّ وقد تجعلني أتوقع إحياءَ الكلام عن كتاب ميشيل فوكو الشهير "تاريخ الجنون" في الأكاديميات جراء نشر صورة مجنوننا فيلماً متحركاً.
يدرس فوكو في شُغْله بعامّةٍ السلوكَ الغريبَ وأشكالَ العقاب والتعذيب الساديّ الوحشيّ إلخ..ليعمق معرفتنا العلمية بالانحراف الذي يراه "حقيقةً اجتماعية ووظيفة معيارية" كما تقول الناقدة الأميريكية أديث كيرزويل.
ولعلّ تلك الأكاديميات ستتذكر استنتاجه العميق في تراجيديته في كتابه "تاريخ الجنون" الذي يقول إن التركيز في مشهد "سفن المجانين" حتى نهاية العصور الوسطى لم يكن على المجانين أنفسهم بل على إقصائهم. وإنهم يؤدون دوراً تمثيلياً يغدو فيه إقصاؤهم بمثابة تطهير رمزي للمجتمع..*
أنا شخصياً لا أدري أين تبدأ "أو أين تنتهي!" القيمة المعرفية الفعلية لربط هذا الكلام بالسجّانين الأميريكان. لكن ما يثيرني في الربط هو صورة مجنوننا الذي يؤمَر وهو مربوط إلى حائط بنطح بابٍ حديدٍ برأسه.
ليس التركيز عليه بل على إقصائه.
وإنه يؤدي دوراً تمثيلياً.
***
كان الشهيد أنتونين آرتو يرى الأطباءَ مجانين..وهو الذي بقي أسيرَ علاجهم سنواتٍ مريرةً من عمره بتهمة "الجنون".
هذه فكرة تريد أن تُحِلَّ "المحرّرينَ" محلَّ الأطباء. فيكون محرّرونا مجانين.
ماذا ينفع الأميريكيَّ "الطبيبَ المحرِّرَ" أن ينطحَ مجنونٌ باباً حديداً برأسه ؟
حتى يضحك ؟
أو حتى يُهدِّىءَ نوبةً عصبيّة ؟
ثنائيات ميشيل فوكو عن الدالِّ والمدلول في نصوص الجنون والمرض مثل السلامة العقلية والخلل العقليّ، والصحة والمرض: هي أطراف ثنائية لايمكن فهم أحد طرفيها إلا بفهم علاقته بالطرف الآخر.*
فلنقل فوراً:
الأميريكيّ هنا مجنون ومنحرف: إطلاق نهائيّ من فوكو.
والطبيبُ "المحرِّرُ" مجنون ومنحرف: إطلاق شعريّ من الشاعر آرتو.
هل يريد الأميريكيّ إقصاء مجنوننا كي يبقى مجنوناً أوحد ؟
سيحدد الجوابُ بالطبع علاقته بطرفنا في الجنون عندما ننمّي في أذهاننا ثنائية العلاقة الفوكوية بين الطرفين في اتجاه هدف اقتراضنا إياها.
وإذا كان مجنوننا يُذكِّر حسب "تاريخ الجنون" بتغيّر النظرة إلى الجنون في القرن السابع عشر والتي رأت فيه شيئاً إنسانياً خالصاً فإن السجّان الأميريكيّ في جنونه لا يذكّرُ إلا بالانحراف العدوانيّ.
من يقول: لا ؟
جنوني أنا أقوى من جنونك..يقول الأميريكيّ السجّان في أبي غريب من أجل إقصاء الغريم.والأقصاء هنا هو تطهير رمزيّ حقاً وهو إشارة إلى مفهوم كلاسيكي أغريقيّ في فن الشعر والدراما كما هو معروف.
الأميريكيّ السجّان "مجنون ومنحرف حسب آرتو وفوكو معاً" هو مخرج هذا المشهد وناظر يشكّل مع أشباهه الآخرين في سجن أبي غريب وبعيداً منه أيضاً نظّارةَ تلك الكوميديا السوداء.
يقول الأميريكيّ لمجنوننا: مَثِّلْ جنوني لا جنونَكَ. ليتمَّ له التطهير..فيرتاحَ قليلاً من نوبته التي لا تشبع من مشهد واحد.
***
لكن ماذا عن عارنا في الثقافة العراقية شِبْهِ الساكتة ؟
قد يكون من حسن حظنا أنْ ظهرَ بين السجناء المعاقَبين مجنون.
إنه هنا بلا حزب ولا مذهب.
بلا عقلٍ معاقَبٍ قبْلياً من قِبَل المحتلِّ الأميريكيّ وحلفائه العراقيين.
الآنَ..سيمنحنا المجنون فرصة لكي نخفّفَ وطأةَ عارنا علينا.
فقد نبكي عليه جراء تعذيبه من قِبَل السجانين محررينا الأطباء أو في الأقل قد نتأسف على ما جرى له بدون أن نضربَ كفاً على كفٍّ..ونغسلَ أيدينا من فكرة التحرير التي أشاعها بيننا رجالُ دينٍ ورجالُ أعمالٍ وإنتلجنسيا وأحزابٌ عديدة..إلخ
***
وفي عودة إلى ثنائيات فوكو سنتذكر استفادة الراحل أدوارد سعيد منها في كتابه الاستشراق بل أنّ الراحل يعترف بدين فوكو عليه في مقدمة كتابه الذي كنت أراه في منهجه مبالغاً فيه.
"نحن" و"هم" ثنائية استشراقية لا أريد الخوض فيها.
لكننا نتعرض الآن لثنائيات عديدة في داخلنا قبل أن نستذكر ثنائية استشراقية أخرى استهدفتنا قبلاً "داخل ضد خارج" كما رأى مؤلف الاستشراق.
ربما علينا أن نشكر أحداً غيرنا وليكن عربياً على مواجهته غزوَ أميريكا بلادَنا أكثرَ منّا وهو المتحرر إلى حدٍّ مّا "في النظر إلينا" من ثنائياتنا السقيمة في الثقافة العراقية شبه المستسلمة لإرهاب أميريكيّ يرعى تلك الثنائيات داخلها منذ الحرب الأميريكية الأولى عام 1991 ويمول تغذيتها مادياً من أجل إدامتها زمناً أطولَ، ولعلّ الثنائيات الحزبية هي أكثرها سقماً.
لكن ما يُؤسَّسُ خارجَ إطار كل ثنائية يجعلنا نأمل أنَّ الثقافة العراقية ماضية في تحررها من ربقتها شبه المحكمة حتى لو حاكت مشهد مجنوننا بنطح بابٍ حديد.

* استفادة معدّة من كيرزويل كما في سطر لاحق..ترجمة جابر عصفور.

16-2-2006
هولندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة اعتقال الشرطة الأمريكية طلابا مؤيدين للفلسطينيين في جام


.. مراسل الجزيرة يرصد معاناة النازحين مع ارتفاع درجات الحرارة ف




.. اعتقال مرشحة رئاسية في أميركا لمشاركتها في تظاهرة مؤيدة لغزة


.. بالحبر الجديد | نتنياهو يخشى مذكرة اعتقال بحقه من المحكمة ال




.. فعالية للترفيه عن الأطفال النازحين في رفح